الوضع
والبحث عنه يقع في جهات أربع :
الاُولى : دلالة الألفاظ على معانيها ، وهل هي ذاتية أو جعلية .
الثانية : تعيين الواضع ، وهل هو الله سبحانه وتعالى أو البشر .
الثالثة : حقيقة الوضع .
الرابعة : تقسيم الوضع .
أمّا الجهة الاُولى : فقد يدّعى أنّ دلالة الألفاظ على المعاني ليست بجعلية بل هي ذاتية على نحو كان مجرّد إطلاق اللفظ بطبعه يستدعي الانتقال إلى المعنى لوجود العلقة الذاتية بينهما .
ولا يخفى ما فيه ، فإنّهم إن أرادوا بذلك أنّ العلقة القائمة بين طبيعي اللفظ والمعنى علّة تامّة في الانتقال لدى الجميع ، فلازمه أن يعرف كل شخص جميع لغات العالم من دون حاجة إلى تحمّل مشقّة التعلّم ، فالعربي يلزمه أن يعرف اللغة الفارسية وغيرها ، والفارسي عليه أن يعرف اللغة العربية وغيرها ، باعتبار أنّ الدلالة علّة تامّة للانتقال . وهذا بالوجدان باطل ، لأنّا نجد أهل لسان واحد لا يحيطون بخصوصيات لسانهم ، فضلا عن الإحاطة بجميع اللغات .
وإن أرادوا بذلك أنّ طبع اللفظ فيه اقتضاء وقابلية للانتقال ، ولذا يختار الواضع لفظاً مخصوصاً ويضعه لمعنى مخصوص ، فالمناسبة الموجودة بين اللفظ والمعنى نظير الملازمات العقلية التي هي من الاُمور الواقعية ، وإن لم تكن من الموجودات الخارجية .
ففيه : أنّه إن اُريد أنّ هذه المناسبة ثابتة في الواقع ـ وإن لم يلتفت إليها الواضع
ــ[32]ــ
عند الجعل ـ فهو أمر ممكن . ومن الأمثال المعروفة أنّ الأسماء تنزل من السماء . لكنّه لا دليل عليه .
وإن اُريد من هذه المناسبة أنّ الواضع يلتفت إليها حين الوضع ، فينبعث بسببها إلى اختيار لفظ مخصوص ، فهو باطل جزماً ، لأنّ الواضع عند الوضع لا يلتفت دائماً إلى وجود مناسبة ذاتية بين اللفظ والمعنى لتكون تلك المناسبة قد دعته لاختيار لفظ مخصوص من بين سائر الألفاظ ، كما نشاهد ذلك في الأعلام الشخصية وأسماء الأجناس . وقد يخترع الواضع لفظاً مخصوصاً فيضعه للمعنى ، في الوقت الذي ليس لذلك اللفظ سابقة في عالم الألفاظ ، فيكون كالمرتجل من هذه الجهة . هذا وربما يتحقّق الوضع من الصبيان أحياناً . وبديهي أنّهم لا يلتفتون إلى وجود مناسبة بين الأمرين ـ لو كانت هناك مناسبة ـ لينبعثوا بسببها إلى الاختيار .
وربما يقال بأنّه لولا المناسبة الذاتية بين اللفظ والمعنى للزم الترجيح بلا مرجّح ، وهو باطل .
والجواب عنه أوّلا : أنّ المحال هو الترجّح بلا مرجّح ، كالمعلول بلا علّة والفعل بلا فاعل ، وأمّا الترجيح بلا مرجّح فليس بمحال .
بيان ذلك : أنّ الترجيح أمر اختياري ، يمكن أن يرجّح الشخص أحد الفعلين على الآخر وإن لم تكن فيه مزية تستوجب التقديم ، وسببه أنّه لمّا كانت ضرورته تدعوه إلى إيجاد أحد الفعلين ، وكان كل منهما وافياً في القيام بالغرض ، فلا ريب أنّ تلك الضرورة هي التي تدعوه لأن يختار أحدهما ويترك الآخر ، وإن لم تكن مزية وخصوصية في الفرد الذي اختاره .
مثلا لو فرضنا أنّ هناك أواني متعدّدة من الماء ، وكان كل إناء مساوياً للآخر في جميع الخصوصيات المحتملة من البرودة والكمية وما شاكلهما ، ومن الاتّفاق أنّ الإنسان اضطرّ إلى شرب الماء ليرفع عطشه ، بحيث كان كل إناء وافياً في القيام
ــ[33]ــ
بالغرض ، فهل تراه يمتنع عن الشرب ويعرّض نفسه للخطر مدّعياً أنّ إقدامه على واحد من الأواني مستلزم للترجيح بلا مرجّح ، أو تراه يقدم على شرب ما في الإناء بعد أن كان مضطرّاً إلى فعل الجامع ، وهو شرب مطلق الماء الذي يتأتّى حصوله بكل واحد من الإناءات . وضروري أنّ العقل لا يرى قبحاً في ترجيح أحد الأمرين بعد اضطراره إلى الجامع .
وما نحن فيه كذلك ، فإنّ الواضع حيث احتاج إلى وضع طبيعي اللفظ لطبيعي المعنى لغرض التفاهم ، وكان كل لفظ قابلا للجعل ومحصّلا للغرض ، فاختياره خصوص لفظ لا يستلزم الترجيح بلا مرجّح ، وإن لم يكن فيه خصوصية ، وعليه فالترجيح بلا مرجّح ليس بمحال .
وثانياً : أنّه على تقدير أن يكون الترجيح بلا مرجّح محالا كالترجّح بلا مرجّح ، فلا نسلّم أنّ الترجيح الحاصل في خصوص لفظ هو المناسبة الذاتية ، بل لعلّه شيء آخر من الاُمور الخارجية ، فلا يتم المدّعى .
وثالثاً : أنّ الترجيح ـ على تقديره ـ إنّما هو في نفس الفعل دون المتعلّق باعتبار أنّ عمل الواضع ينبغي أن يشتمل على الخصوصية ، مع أنّهم قالوا : إنّ الألفاظ مشتملة على المناسبة الذاتية ، لا نفس الوضع .
فالمتحصّل ممّا تقدّم : أنّ دلالة الألفاظ على المعاني ليست ذاتية .
وأمّا الجهة الثانية ـ وهي تعيين الواضع ـ : فقد ذهب شيخنا الاُستاذ المحقّق النائيني (قدّس سرّه)(1) إلى أنّ الواضع لجميع لغات العالم هو الله تبارك وتعالى ، وليس هناك من البشر من تحمّل عناء هذا الأمر ومشقّته .
وقد اعتبر الوضع من الاُمور المتوسّطة بين التكوين والتشريع ، فإنّه ليس من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1 : 19 .
ــ[34]ــ
الاُمور التشريعية المتوقّف إيصالها على إرسال رسل وإنزال كتب ، ولا من التكوينية التي جُبل البشر على إدراكها ، كالجوع والعطش وغيرهما ممّا يدركه الإنسان ، بل مطلق الحيوان بطبعه وجبلّته ، بل الوضع وسيط بين الأمرين ، فإنّ الله سبحانه وتعالى يلهم الإنسان قوّة النطق وفهم الألفاظ ، فينبعث بتلك القوّة التي منحها الله تعالى إيّاه إلى جعل الألفاظ للمعاني المعهودة ، طمعاً في تحصيل غرضه ، وهو التفهيم والتفاهم بين سائر أفراد البشر ، كما دلّ عليه قوله تعالى : (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الاِْنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)(1) وعلى هذا نجد الأطفال ينبعثون بدافع الإلهام الإلهي إلى التعبير عن مقاصدهم بألفاظ خاصّة ، وهذا أمر صادق يدلّ على أنّ الواضع للغات هو الله تبارك وتعالى . ثمّ أيّد (قدّس سرّه) مطلبه بأمرين :
الأوّل : أنّ الألفاظ والمعاني من الكثرة بمكان لا يمكن أن يتصوّرها جماعة فضلا عن شخص واحد .
الثاني : لو كان هناك واضع مخصوص ، لنقل لنا التاريخ اسمه نقلا متواتراً أو آحاداً ، مع أنّ التاريخ لم يحدّثنا بذلك . وأمّا ما ورد على الألسنة من أنّ الواضع يعرب بن قحطان ، فأمر ليس بثابت .
والجواب عن ذلك : أنّ ما ادّعاه (قدّس سرّه) من وجود أمر متوسّط بين التكوين والتشريع غير ثابت ، إذ الموجود الخارجي إمّا أن يكون أمراً واقعياً لا يدور تحقّقه مدار الاعتبار فهو تكويني ، وإمّا أن يكون أمراً جعلياً يدور مدار الاعتبار ممّن بيده الاعتبار فهو تشريعي ، فالواسطة منتفية .
وأمّا دعوى الإلهام فمسلّم ، كما جاء في قوله تعالى : (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) ولكنّه غير مختصّ بالوضع ، بل يشمل اُموراً كثيرة ، منها أنّ الله تعالى يلهم الإنسان ببناء دار له
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الرحمن 55 : 1 ـ 4 .
ــ[35]ــ
ليستقرّ فيها ، كما ويلهمه بحياكة ثوب له ليلبسه فيتّقي به من البرد مثلا ، وهكذا في سائر الاُمور .
بل لا اختصاص في ذلك بالبشر خاصة ، فإنّ الحيوان يلهم في أفعاله ، وقد يكون إدراكه في بعض الموارد أرقى من إدراك البشر ، فالطفل الصغير قد لا يخشى من الحيّة حين يراها تمشي على الأرض ، بخلاف الفارة ، فإنّها حين تجد هرّة أمامها تفرّ منها لتنقذ حياتها . وهذا إلهام إلهي كما قال تعالى : (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)(1).
ثمّ إنّ الوضع وليد الحاجة بين طبقات البشر ، لغرض التفاهم وسير حركة الحياة ، وهو يختلف باختلاف الاُمم والزمان ومقدار الحاجة إليه ، فالمجتمع المتألّف من أفراد لم تدخل إليهم الحضارة هو مجتمع بدائي ينطوي على نفسه لا يحتاج إلى الاُمور الأساسية من الحياة ، فهو يقتصر على اصطلاحات يضعها لنفسه تمشّياً مع مقتضيات حاجاته الضيّقة . أمّا المجتمع الحضاري الذي يتغيّر ويتطوّر مع الزمن فإنّ أسباب المشاكل الاجتماعية والآلات الحضارية تقتضي أن يخلق ألفاظاً واصطلاحات وتعاريف تلائم التطوّرات التي تقتضيها تلك التغيّرات ، فلقد عثرت الدراسات على أطفال عاشوا مع الحيوانات ، فعندما حاولوا دراستهم وطبيعة حياتهم رأوا أنّهم يمشون على اثنين ، ولكنّهم لا ينطقون بلسان متعارف ، وإنّما افترضوا لهم لغة خاصّة لا يفهمها إلاّ من عاش عيشتهم .
من هذا نستطيع أن نفهم أنّ المجتمع ـ لحاجته ـ هو الذي يضع الألفاظ المقتضية لطبيعة العصر ، لأنّ الحاجة ـ كما يقولون ـ أم الاختراع، فالبدوي الذي يقضي حياته في الصحراء لا يحتاج إلاّ إلى مجموعة خاصّة من الألفاظ التي تتطلّبها
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) طه 20 : 50 .
ــ[36]ــ
حياته البدوية ، بينما نرى الذي يعيش في القرى والأرياف أكثر حاجة من هذا البدوي وأوسع لغة ، لتطوّر حياته نسبياً ، وهكذا كلّما تطوّرت الحياة وتكثّرت حاجاتها ازدادت تبعاً لذلك لغتها الخاصة .
إذن فالحاجة هي التي تفرض على المجتمع وضع التعابير والألفاظ ، فأبونا آدم (عليه السلام) وزوجته عاشا في عصر لم تفرض عليهما الحاجة أكثر من كلمات معدودة يقضيان بها حاجتهما ، ولكن الأجيال المتعاقبة أخذت تخترع لها ألفاظاً حسبما تمليه عليها مقتضيات زمانها وتفرضه عليها متطلّبات عصرها .
وبذلك يظهر الجواب عمّا ذكره أولا من تأييد القول بأنّ الواضع هو الله سبحانه وتعالى ، فإنّه يتم إذا كان الوضع دفعياً وفي زمان معيّن من شخص واحد أو من جماعة مخصوصين ، وأمّا إذا كان تدريجياً حسبما تقتضيه الحاجة فلا محذور في تصدّي البشر له ، بل هو الواقع في الخارج كما عرفت .
وبه يندفع ما ذكره من التأييد الثاني ، باعتبار أنّ الواضع ليس شخصاً واحداً ليتصدّى التاريخ إلى ذكره ، بل الوضع ـ كما قلنا ـ ينشأ من احتياج كل أُمّة إلى ألفاظ تعبّر بها عن مقاصدها في مقام التفهيم لتنظيم اُمورها وبيان حوائجها وهذا لا يستدعي أن يحدّثنا التاريخ به .
|