الرابعة : تقسيم الوضع 

الكتاب : مصابيح الاُصول - الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5983


الجهة الرابعة : في تقسيم الوضع .

الوضع بأي معنى اعتبر لابدّ للواضع ـ قبل الوضع ـ من ملاحظة كل من اللفظ والمعنى مستقلا ، ليكون على علم من أمره ، وبدون هذه الملاحظة فهو وضع مجهول لمجهول . فكان لزاماً على كل واضع أن يلاحظ اللفظ والمعنى لحاظاً استقلالياً ومن أجل هذا المعنى اختلف الاستعمال عنه باعتبار أنّ الاستعمال يوجب الغفلة عن اللفظ ، بحيث يكون النظر إليه آلياً غالباً ، لأنّ غرض المستعمل إلقاء المعنى أمام المخاطب ، فالاتّجاه الحقيقي إنّما هو في ناحية المعنى ، وأمّا اللفظ فقد كان طريقاً في الوصول إلى ذلك ، وشأن كل طريق أن يكون مغفولا عنه ، وغير ملتفت إليه .

وبناءً على هذا فالبحث يقع في مقامين :

الأول : من حيث لحاظ اللفظ .

والثاني : من حيث لحاظ المعنى .

ــ[44]ــ

أمّا المقام الأول : فلابدّ للواضع من ملاحظة اللفظ أولا ملاحظة استقلالية من دون فرق بين أن يكون لحاظه له لحاظاً شخصياً ، أو بعنوان مشير إليه .

بيان ذلك : أنّ وضع الألفاظ على قسمين : شخصي ، ونوعي .

والأول على قسمين : قسم موضوع للمعنى بمادّته وهيئته ، كأسماء الجوامد مثل الحجر والمطر وشبههما ، فإنّ لفظ الحجر لوحظ بمادّته وهيئته الخاصّة ، ووضع للجسم الحجري ، بحيث لو تغيّرت الهيئة أو تبدّلت المادّة لما دلّ اللفظ على المعنى المذكور.

وقسم موضوع للمعنى بمادّته الخاصّة ، كلفظ (جلس) المؤلّف بحسب المادّة من الجيم واللام والسين ، فإنّه وضع لمعنى يقابل القيام ، من دون اختصاص لهذه الهيئة بالدلالة ، بل كل هيئة طرأت على هذه الحروف الثلاثة فاللفظ يدلّ على المعنى المذكور ، وهذا لا ينافي شخصية الوضع بلحاظ المادّة .

والثاني : وهو ما وضع للمعنى بهيئته الخاصّة كهيئة فعل محرّكة الثلاثة ، فإنّها موضوعة للدلالة على المضي ، حيث إنّ الواضع لم يتصوّر هيئة الماضي مثلا في ضمن جميع المواد ـ من قام ، وقعد ، وجلس ، ونام ، وغيرها ـ ليضع كل هيئة في ضمن كل مادّة لمعنى خاص . وهكذا في المضارع وباقي المشتقّات ، فإنّ ذلك خلاف المقطوع من وضع اللغة العربية وغيرها ، بل يلاحظ الواضع عنواناً إجمالياً مشيراً إلى افراده العارضة على المواد حسب اختلافها ، وذلك العنوان مثل ما كان على زنة فعل ـ  محرّكة الثلاثة ـ فيضعها للدلالة على المضي ، وهذه الهيئة في أيّة مادّة من المواد وجدت أفادت تحقّق الفعل في الزمن الماضي ، ومن أجل هذا كان وضع الهيئات وضعاً نوعياً .

وربما يقال بأنّ الذي ادّعي من الوضع الشخصي للمواد ، إن اُريد به أنّ مادّة (ضرب) التي عبارة عن الحروف المتقاطعة قد وضع شخص هذا النوع فيها لمعنى

ــ[45]ــ

قبال شخص نوع آخر ، فلازمه أن تكون الهيئة أيضاً موضوعة بالوضع الشخصي ولا وجه للتفرقة بينهما ، لأنّ شخص هيئة فاعل وضع لمعنى قبال هيئة مفعول المفيدة لمعنى آخر ، فكان كل واحد منهما شخص نوع قبال نوع آخر .

وإن اُريد بوضع الهيئات التي أوضاعها نوعية أنّ هيئة فاعل وضعت للمتلبّس بالمبدأ من دون تقيّده بمادّة خاصّة ، فلازمه أن تكون المادّة أيضاً موضوعة بالوضع النوعي ، إذ لا اختصاص لها بهيئة مخصوصة ، بل تجتمع مع كل هيئة .

وقد ذكر بعض مشايخنا المحقّقين (قدّس سرّهم)(1) أنّ نسبة الهيئة إلى المادّة كنسبة العرض إلى الجوهر ، فكما أنّ العرض لا يتقوّم خارجاً إلاّ بالجوهر ، كذلك الهيئة لا تستقيم إلاّ مع المادّة .

وتوضيح ما أفاده (قدّس سرّه) : أنّ المادة المتألّفة من الحروف المتقاطعة يمكن تصوّرها استقلالا بلا عروض هيئة عليها ، فتوضع في ذاك الحال لمعنى خاص وتكون من قبيل الوضع الخاص والموضوع له الخاصّ في جانب الموضوع له ، وإن كانت قابلة بعد ذلك للتلبّس بعدّة هيئات .

أمّا الهيئة فلا يمكن تصوّرها إلاّ بأمرين :

الأول : بالإشارة إليها بعنوان إجمالي للتوصّل إلى أفرادها ، كما ترى أهل الأدب يتّخذون وزن فاعل أو مفعول ليتوصّلوا إلى الهيئة المطلوب تفهيمها فيقولون ما كان على زنة فاعل فهو كذا . وهذا كالوضع العام والموضوع له الخاص في جانب الموضوع له .

الثاني : أن يأخذ هيئة عارضة على مادّة خاصّة مثل آكل أو مأكول ، ويقصد بذلك الإشارة إلى ما يكون على هذا الشكل وما يشابهه ، ثمّ يجعل لمعنى خاص، من 

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) نهاية الدراية 1 : 77 .

ــ[46]ــ

دون خصوصية في مقام الجعل لهذه الهيئة العارضة على المادّة . وهذا من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاص في طرف المعنى الموضوع له .

وكيف كان ، فهذا هو الفارق بين المادّة والهيئة .

وما أفاده (قدّس سرّه) متين جدّاً ، وبه يرتفع الإشكال .

أمّا المقام الثاني ـ في تقسيم الوضع بلحاظ المعنى ـ : لابدّ من ملاحظة المعنى قبل الجعل لحاظاً استقلالياً بنحو التفصيل أو الإجمال ، كلّياً كان الملحوظ أم جزئياً .

وعلى سبيل المثال نرى الواضع يتصوّر كلّي الإنسان على نحو التفصيل ، كما إذا تصوّره بجنسه وفصله وباقي الخصوصيات ، فيضع لفظاً بازاء ذلك المعنى . ويتصوّره بنحو الإجمال فيشير إليه بنحو إجمالي ، مثل عنوان المتكلّم الذي هو بعض خواص الإنسان الملحوظ طريقاً إلى نفس الذات ، ثمّ يضع لفظاً بازاء ذلك المعنى المتصوّر . هذا بالإضافة إلى المعنى الكلّي .

وقد يتصوّر الواضع شخص زيد تفصيلا ـ كما لو أحاط بخصوصياته ومزاياه  ـ فيضع لفظاً بازاء ذلك المعنى الخاص . وقد يتصوّره إجمالا ، كما لو لاحظ عنوان ما تولّد من ابنه فيضع لفظ زيد له ، فإنّ هذا العنوان طريق يشير إلى ما هو الموضوع واقعاً ، وإن لم يكن له ولد فعلا .

والحاصل : أنّ العناوين تارةً تلاحظ بنفسها استقلالا ، واُخرى طريقاً إلى غيرها . ولا يختصّ التقسيم المذكور بالوضع خاصّة ، بل يتأتّى في الأحكام المولوية فمرّة يلاحظ المولى عنواناً ويعلّق حكمه به على نحو لا ينظر الحاكم إلاّ إلى نفس هذه الطبيعة ، من دون خصوصية للأفراد ، كما في الأمر باكرام العالم . وثانياً يلحظ العنوان طريقاً إلى الأفراد ، ومشيراً إليها ، كما لو قال : أكرم المقبل . فإنّ عنوان المقبل قد اُخذ إشارة إلى من يريد الآمر إكرامه لخصوصية اُخرى ، من دون أن يكون لإقباله دخل في ذلك .

ــ[47]ــ

ومن هنا ظهر أنّ أقسام الوضع ثلاثة :

الأول : وضع عام وموضوع له عام ، كما لو تصوّر الواضع مفهوماً كلّياً قابلا للانطباق على كثيرين تفصيلا أم إجمالا ، ثمّ وضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى المتصوّر .

الثاني : وضع خاص وموضوع له خاص ، كما لو تصوّر الواضع مفهوماً خاصاً غير قابل للانطباق على كثيرين ، مثل تصوّر شخص زيد بذاته ومشخّصاته وباقي مميّزاته ، ثمّ وضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى الخاص .

الثالث : وضع عام وموضوع له خاص ، كما لو تصوّر الواضع مفهوماً كلّياً قاصداً لأن يضع اللفظ لمصاديقه ، لا على نفسه ، فيحتاج إلى لحاظ عنوان يشار به إلى تلك المصاديق والأفراد ، وهو لا يمكن أن يكون نفس عنوان هذا المفهوم الكلّي لأنّه لا يحكي إلاّ عن نفسه ، فلابدّ ـ كما عرفت ـ من لحاظه بعنوان يحكي ويشير إلى ما هو الموضوع خارجاً ، ولابدّ من تقييد المفهوم بقيد ، وجعل المقيّد عنواناً مشيراً إلى أفراد الإنسان ، وذلك هو عنوان ما ينطبق عليه هذا المفهوم .

ولا ريب أنّه بملاحظة هذا العنوان قد لاحظ الأفراد الخارجية على سبيل الإجمال فوضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى على نحو القضايا الحقيقية .

ومن هنا علم استحالة القسم الرابع من الوضع ، وهو الوضع الخاص والموضوع له العام ، لأنّ العنوان الشخصي بما هو كذلك ليس فيه جهة إراءة وكشف لا عن الكلّي ولا عن سائر أفراده ، باعتبار أنّه لا يكشف إلاّ عن تلك الحصّة الخاصّة من الكلّي ، أمّا بقية الحصص فليس هو مرآة لها ، لذا قيل : الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً .

وقد ذهب بعض الأكابر(1) إلى دعوى إمكان القسم الأخير ، ببيان : أنّ 

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهو المحقّق الرشتي في بدائعه : 40 .

ــ[48]ــ

الشخص ربما يشاهد جسماً من بعيد ، ولا يعلم أنّه حيوان أم جماد ، بل ولا يعلم بدخوله في أي نوع من الأنواع ، فيضع لفظاً بإزاء النوع المنطبق على هذا الشخص واقعاً ، فيكون من الوضع الخاص والموضوع له العام .

ولكن ذلك غير صحيح ، إذ الشخص لم يتصوّر المعنى الكلّي الجامع بتصوّره لذلك المشاهد الخارجي بحيث كان الفرد الخارجي مرآة لذلك الكلّي ، وإنّما كان تصوّر الفرد الخارجي سبباً لتصوّر كلّيه ، فكان في المقام تصوّران : أوّلهما للفرد وثانيهما للكلّي المنطبق على ذلك الفرد وغيره .

ولا ريب أنّ اللفظ موضوع بإزاء المعنى الثاني المتصوّر ، غاية الأمر أنّ الكلّي المتصوّر قد يتصوّر بنفسه وقد يتصوّر بعنوانه ككلّي هذا الفرد مثلا . وعلى أي تقدير كان فهو من قبيل الوضع العام والموضوع له العام ، وعلى هذا يكون أغلب الوضع . فقد نشاهد فرداً من الطيور ونضع لفظاً على كلّيه ، أو نرى نوعاً من الورد ونضع لفظاً بازاء الجامع ، وما ذلك إلاّ أنّ التصوّر الأوّلي كان سبباً لتصوّر الكلّي ، وهو لا يخرج عن كونه من قبيل الوضع العام والموضوع له العام .

تنبيه : إنّ العلقة الوضعية القائمة بين اللفظ والمعنى ناشئة من لحاظ الواضع لكل من اللفظ والمفهوم لحاظاً استقلالياً ، وجعل ذلك اللفظ بإزاء المفهوم الذي هو قابل للاتّصاف بالوجود والعدم . أمّا الفرد الخارجي فليس اللفظ موضوعاً له ، لأنّه غير صالح لأنّ يتصوّر وينتقل الذهن إليه، بل المفهوم المنطبق عليه هو الذي جعل اللفظ له ، فإنّ المفهوم مرّة يكون كلّياً قابلا للصدق على كثيرين ، واُخرى يكون جزئياً غير قابل للصدق على كثيرين .

ومن هنا يظهر أنّ التصوّر أيضاً لا يكون دخيلا في الموضوع له ليكون المعنى جزئياً ذهنياً متشخّصاً في عالم الذهن ، فإنّ الموجود الذهني أيضاً غير قابل لأن يتصوّر ويفرضه الوجود الذهني ثانياً ، بل المجعول له اللفظ نفس المعنى الذي كان 

ــ[49]ــ

التصوّر طريقاً للوصول إليه . وهذا المعنى تارةً يلحظ بشخصه وبنفسه ، سواء كان كلّياً أم جزئياً . واُخرى يلحظ بعنوان مشير إليه ، كعنوان أوّل ما يتولّد من ولده فيضع اللفظ بإزاء ذلك .

وكيف كان ، فأقسام الوضع في جانب المعنى ـ كما عرفت ـ ثلاثة ، وكلّها بحسب الإمكان والثبوت ، وأمّا بحسب الوقوع والإثبات فقسمان منها ثابت من دون إشكال ، وهما الوضع العام والموضوع له العام ، والوضع الخاص والموضوع له الخاص .

أمّا القسم الثالث ـ وهو الوضع العام والموضوع له الخاص ـ فموضع خلاف بين القوم ، والمعروف بينهم أنّ أوضاع الحروف ، وأسماء الموصول والإشارة والضمائر من هذا القسم ، ولابدّ من تحقيق في ذلك .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net