القول الثاني ـ الذي هو في حدّ التفريط ـ ما ينسب إلى المحقّق الرضي (قدّس سرّه)(1) أيضاً من أنّ الحروف ليس لها معنى أصلا ، وإنّما جيء بها في الكلام علامة على وجود خصوصية في المقام ، فهي كالإعراب من هذه الجهة ، فكما أنّ الرفع والنصب والجرّ لا يستفاد منها معان ، وإنّما هي قرينة على وجود خصوصية في مدخولها تشير إليها ، كالفاعلية والمفعولية ، فكذلك الحروف .
وبعبارة اُخرى : الحروف علامة على إرادة خصوصية من خصوصيات
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح الرضي على الكافية 1 : 37 .
ــ[52]ــ
مدخولها كالإعراب ، فإنّ مدخولها وهي الدار مثلا في قولنا : في الدار ، لها أحوال كثيرة :
منها : ملاحظتها بما لها من الوجود التكويني كسائر الموجودات فيصحّ الإخبار عنها ، ويقال : الدار واسعة .
واُخرى : ملاحظتها بما لها من الوجود الأيني الذي يراد منه المكان ومحل الاستقرار ، فيقال : زيد في الدار .
وثالثة : وقوعها مبدأ للسير ، فيقال : سرت من الدار إلى المدرسة .
ورابعة : وقوعها منتهى إليها ، فيقال : وصلت إلى الدار .
فإذا دخلت (في) على كلمة الدار فقد صارت علامة على أنّ في مدخولها خصوصية ، وهي الوجود الأيني بمعنى المكان .
وهكذا الإعراب من هذه الجهة ، فإنّ (زيداً) مثلا قابل لأن يصدر منه الفعل أو يقع عليه ، أو ينتهي إليه الشيء .. الخ ، فإذا رفع فقد دلّ الرفع على أنّه فاعل إذا تقدّمه فعل ، ويكون الفعل صادراً منه لا واقعاً عليه . فالحروف والإعراب قرائن على وجود خصوصية في المدخول .
ولا يخفى أنّ هذا القول أشبه بالجمع بين المتناقضين ، بمعنى أنّ الحروف ليس لها معنى أصلا وأنّها للتزيين والتحسين في الكلام ، بحيث يكون وجودها كالعدم مثل بعض الحروف الزائدة ، كالباء الداخلة على خبر ليس وفاعل كفى ، فلا يكون لوجودها أهمية في الكلام ، وأنّها كالعدم. ومعنى أنّها علامة دالّة على خصوصية في المقام ، أنّ الحروف لوجودها أثر في الكلام بحيث لولاها لانعدم المعنى ، أو تبدّل إلى معنى آخر ، كالإعراب فإنّ له كمال الأثر في المعنى . فقولنا : ضرب زيد عمراً يستفاد منه معنى غير ما يستفاد من جملة ضرب زيداً عمرو . فلازمه أن يكون للحروف معنى كالمعاني الاسمية من حيث أهميتها ، وليست خالية عن كل معنى .
ــ[53]ــ
وعلى كل تقدير ، فلا شبهة في أنّ الحروف في الكلام تدلّ على خصوصيات لم تكن تستفاد منه لولا تلك الحروف ، ولا ريب في أنّ هذه الدلالة لا موجب لها إلاّ الوضع . فالحروف لها وضع لا محالة ، والكلام فعلا فيما به تمتاز معانيها عن المعاني الاسمية ، فلا مجال للقول بأنّ الحروف لا معنى لها وإنّما هي علامات .
القول الثالث : أنّ المعاني الحرفية مغايرة للمعاني الاسمية في ذاتها ، ولابدّ من بيان الفارق بينهما . وقد وقع الخلاف في ذلك .
فذهب المحقّق النائيني (قدّس سرّه)(1) إلى أنّ المعاني الاسمية إخطارية والمعاني الحرفية إيجادية ، بمعنى أنّ المفهوم إن أمكن تصوّره مستقلا من دون لحاظ شيء معه كان معنى اسمياً حيث يخطر المعنى في الذهن ، وإن لم يمكن تصوّره مستقلا بل كان لحاظه يتبع لحاظ شيء آخر فهو معنى حرفي.
بيان ذلك : أنّ الشيء إذا لوحظ بحسب وجوده الخارجي ، فتارةً : يكون وجوده غير محتاج إلى شيء يقوم به أو يعرض عليه ، بل يوجد بنفسه مستقلا كالجوهر مثل الجسم .
واُخرى : يفتقر وجوده خارجاً إلى وجود محل يقوم به ويعرض عليه كالأعراض ، فإنّ البياض والسواد مثلا لا يوجدان خارجاً إلاّ بعد أن يوجد جسم في الخارج ، فكان وجودهما تبعاً لوجود شيء آخر .
وهكذا الكلام في الوجود الذهني ، فإنّ بعض المفاهيم يستقل في عالم التصوّر والإدراك والتعقّل ، بحيث لا يكون تصوّرها موقوفاً على تصوّر شيء آخر ، وذلك كالجواهر والأعراض ، بل الاُمور الاعتبارية ، والاُمور العدمية ، كمفهوم الإنسان والبياض والملكية واجتماع الضدّين ، فهذه مفاهيم تتعقّل منفردة من دون ضميمة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1 : 25 وما بعدها .
ــ[54]ــ
شيء لها ، فإذا تكلّم الشخص بها فقد أخطر معانيها في الذهن وأحظرها ، فهذه هي الأسماء .
وبعضها الآخر لا يمكن تعقّله في الذهن إلاّ بتعقّل شيء آخر معه ، بحيث يدركه العقل بتبع إدراكه لشيء آخر ، وفي ضمن كلام تركيبي ، فهذه هي مفاهيم الحروف . فإنّ (في) التي هي للظرفية لا تتصوّر مستقلّة إلاّ بانضمامها إلى كلمتي زيد والدار مثلا ، فهي في عالم المفاهيم كالأعراض في الوجود الخارجي ، ولهذا كانت كلمة (في) مثلا موجدة معنى قائماً بين أمرين ، ولولاهما لما تمّ معنى للظرفية .
فالحروف معانيها إيجادية تحصل في عالم الألفاظ ، حيث وضعت لتحقّق الربط بين مفهومي زيد والدار ، بخلاف المعاني الاسمية ، فإنّها إخطارية ينتقل إليها عند التلفّظ بها ، ويدركها الذهن مستقلا . ولهذا يحمل ما ورد عنه (عليه السلام) : « الحرف ما أوجد معنى في غيره »(1) على هذا المعنى .
نعم إيجادها لمعنى ليس كالإيجاد في عالم الإنشاء عند قولنا : بعت أو آجرت . فإنّ كلمة (بعت) سبب لوجود ملكية في عالم الاعتبار ، لا في عالم اللفظ ، بخلاف الحروف فإنّها موجدة للمعنى في عالم اللفظ .
فالمتحصّل من هذا : أنّ الحروف موضوعة للربط بين الكلمات كالهيئات ولولاها لأصبح الكلام مهملا ، وهي توجد المعنى في مرحلة اللفظ ، وهذا المعنى بنفسه متقوّم بالغير ، ولا استقلال له في ذاته ، بخلاف الأسماء ، فإنّ معانيها معان مستقلّة في ذاتها ، تخطر في الذهن من دون احتياج لشيء آخر ، ولأجل هذا فإنّ كل شيء إذا لوحظ للغير وكان لحاظه آلياً يشبّه بالمعنى الحرفي .
وكأنّ أهل الأدب التفتوا إلى هذا الفارق فأخذوا في مقام تفسير الأسماء
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام : 60 .
ــ[55]ــ
يفسّرونها بما لها من المعاني تماماً ، ويقولون : معنى التبر الذهب مثلا . بخلاف الحروف ، فإنّهم يفسّرون كلمة (في) مثلا ويقولون : إنّها للظرفية ، ولا يقولون : إنّ معناها نفس الظرفية ، وما ذلك إلاّ لأجل أنّ المعاني الاسمية بذاتها تغاير المعاني الحرفية .
والجواب عن ذلك : أنّ ما أفاده المحقّق النائيني (قدّس سرّه) من تغاير المعنيين : الحرفي والاسمي ، واستقلال المعنى الاسمي مفهوماً ، وعدم استقلال المعنى الحرفي تصوّراً ، وأنّ الحرف يوجد الربط بين الأمرين ولولاه لأصبح الكلام مهملا ممّا لا إشكال فيه .
إنّما الإشكال فيما أفاده من أنّ المعنى الحرفي إيجادي ، إذ لا ينحصر أمر المعنى بين الإخطار والإيجاد ، على نحو يكون انتفاء أحدهما موجباً لتعيّن الآخر ، فمن الممكن أن يكون هناك شقّ ثالث ، وصورة اُخرى تغاير الاثنين .
بيان ذلك : أنّ الحروف وإن أوجبت الارتباط بين المعاني الاسمية ، بحيث لولاها أصبح الكلام مهملا ، إلاّ أنّ الربط الحاصل من الحروف ليس مستنداً إلى مجرد لفظة (في) وما شاكلها ، وإنّما من جهة كشف ذلك الحرف عن خصوصية ، تلك الخصوصية هي التي ربطت بين الكلمات، نعم الخصوصية المنكشفة بلفظة (في) غير مستقلّة في عالم التصوّر ، وإنّما تقوم بين أمرين ، وهذا لا يستلزم أن تكون الحروف نفسها رابطة.
وبعبارة اُخرى : الحروف ليست معانيها إخطارية كالأسماء ، لأنّها لا تقبل الاستقلال تصوّراً . كما أنّها ليست بإيجادية ، باعتبار كشفها عن خصوصية في المعنى دون إيجادها لخصوصية في اللفظ . إذن فهي برزخ بين الاثنين ، ولأجل كشفها عن الخصوصية التي تربط الكلام بعضه ببعض امتنع أن تحلّ بعض الحروف محل بعضها لأنّ الخصوصية التي تنكشف بواسطة (في) غيرها المنكشفة بواسطة الباء ، ولو كانت
ــ[56]ــ
سبباً لإيجاد الربط لصحّ قيام بعضها مقام البعض .
وأمّا ما فرّع عليه (قدّس سرّه) من أنّ عدم استقلالية المعاني الحرفية بحسب المفهوم أوجب أن يكون النظر إليها نظراً آلياً فغير تامّ ، فإنّ المعنى الحرفي ـ كما سبق ـ قد يلحظ استقلالا بنفسه بلا تبع شيء آخر ، كما لو حلّ زيد في بلد ، وعلمنا أنّه سكن في مكان ، ولكنّه لا نعلم بخصوصيته ، فنسأل عن تلك الخصوصية التي هي مدلول الحرف فنقول : سكن زيد في أي مكان ؟ ولا ريب أنّ المنظور إليه حينئذ نفس الخصوصية مع العلم ببقية جهات القضية .
وأمّا ما استشهد به من أنّ ما لا استقلال له فهو شبيه بالحرف ، فهو وإن كان صحيحاً ، إلاّ أنّ التشبيه من حيث عدم الاستقلالية لا من حيث كونه آلياً ومرآة وهذا لا يكون شاهداً على أنّ المعنى الحرفي آلي ، نعم يستكشف منه أنّ المعنى الحرفي غير مستقل بالمفهوم .
|