الرابع : المعاني الحرفية نسب وروابط \ الخامس : وضع الحروف للأعراض النسبية 

الكتاب : مصابيح الاُصول - الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 5527


القول الرابع : ما ذهب إليه بعض مشايخنا المحقّقين (قدّس سرّهم)(1) من أنّ الحروف عبارة عن النسب والروابط القائمة بين الجواهر والأعراض التي لا وجود لها في نفسها ، وبيان ذلك : أنّ الوجودات على أربعة أقسام :

القسم الأول : ما يكون مستقلا في حدّ نفسه بحسب الخارج غير مفتقر في تحقّقه ووجوده إلى شيء آخر يقوم به ، أو يعرض عليه ، كما أنّه لا يتوقّف حصوله في الخارج على علّة موجدة له ، فيقال : هو موجود في نفسه ولنفسه وبنفسه ، بمعنى أنّه في حدّ ذاته يحمل عليه الوجود ، كما أنّ وجوده غير محتاج إلى موضوع وعلّة أصلا وهذا هو واجب الوجود .

القسم الثاني : ما يكون وجوده مستقلا في نفسه ، ويحمل عليه الوجود 

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) نهاية الدراية 1 : 51 .

ــ[57]ــ

ووجوده غير محتاج إلى محل يقوم به أو يعرض عليه ، وإنّما كان من ناحية إيجاده مفتقراً إلى علّة تقتضيه . وهذا القسم هو الجوهر ، كزيد وعمرو ، فيقال : زيد موجود في نفسه ولنفسه ، إلاّ أنّ وجوده كان بغيره وبسبب آخر ، فيقال : موجود في نفسه ولنفسه وبغيره .

القسم الثالث : ما يكون موجوداً في نفسه ، ويستحقّ إطلاق الوجود عليه إلاّ أنّ وجوده في الخارج محتاج إلى محل يقوم به وموضوع يعرض عليه ، كما يتوقّف وجوده على علّة تكوّنه وتقتضيه ، وهذا كوجود الأعراض ، حيث إنّها وجودات في نفسها ولكن بغيرها ولغيرها ، لأنّها أوصاف لموضوعات متحقّقة في الخارج ووجودات بغيرها من جهة وجود علّة اقتضت ذلك كالسواد والبياض ، فهذه وجودات في نفسها وبغيرها ولغيرها .

القسم الرابع : ما يكون موجوداً لا في نفسه ، بمعنى أنّه ليس موجوداً في حدّ نفسه فضلا عن كونه لنفسه ، حيث هو في ضمن شيء آخر . ولا أنّه بنفسه ، لأنّه بعلّة اقتضت ذلك . فهو موجود لا في نفسه ، غير قابل لحمل الوجود عليه ، وإنّما هو في غيره ومحتاج في ذاته إلى تعقّل شيء آخر . وذلك هو وجود النسب والروابط التي تكون رابطة بين العرض ومعروضه ، فإنّها غير موجودة على نحو الاستقلال ، ومن ثمّ لا ماهية لها ، لأنّ الماهية ما تقع في جواب السؤال عن الشيء بما هو الحقيقة ، ولا يقع عنها بما هو شيء ، إذ لا مفهوم له حتّى يقع في الجواب . فهذا القسم من الوجود يسمّى بالوجود الرابط ، كما أنّ القسم الثالث يسمّى بالوجود الرابطي .

أمّا الدليل على أصل وجوده فهو أنّنا نتيقّن تارةً بوجود جوهر وهو زيد مثلا  ، ونتيقّن بوجود عرض كالقيام أو البياض ، ولكنّنا نشكّ في ثبوت ذاك العرض لذلك الجوهر .

وبعبارة اُخرى : نشكّ في نسبة ذلك العرض إلى المعروض ، وتحقّق الربط بين

ــ[58]ــ

زيد والبياض ، أو زيد والقيام ، ولا ريب أنّ متعلّق الشكّ ليس بنفسه متعلّق اليقين فإنّ اليقين تعلّق بوجود كل من الجوهر والعرض ، والشكّ تعلّق بوجود شيء آخر هو النسبة والربط بينهما ، ولا إشكال أنّ تعدّد المتعلّق يكشف عن تعدّد الوجود فلابدّ وأن تكون وجودات ثلاثة : وجود للجوهر ، ووجود للعرض ، ووجود للنسبة والربط . فهذا دليل على أصل وجوده .

وأمّا الدليل على أنّ هذا القسم وجود غير مستقل خارجاً ، وأنّه وجود لا في نفسه ، فهو أنّ ثبوت شيء لشيء ليس أمراً مستقلا ، بل هو في ضمن شيئين : جوهر وعرض ، إذ لو كان للنسب وجود مستقل لكان قائماً بغيره لا محالة ، فلابدّ من رابط هناك بينه وبين معروضه . وهكذا ننقل الكلام إلى ذلك الرابط ، فلو كان موجوداً في نفسه لاحتاج إلى معروض ، وإلى ما لا نهاية له . ولأجل كونه غير مستقل في الوجود عبّر عنه بالوجود الرابط ، وذلك لقيامه بوظيفة مهمّة هي ربط العرض بالجوهر .

إذا عرفت هذا فالمعاني الاسمية إنّما هي من قبيل الجواهر والأعراض ، حيث إنّها معان مستقلّة بحسب المفهوم والوجود ، وأمّا الحروف فهي النسب والروابط وقد وضعت الحروف للدلالة على تلك المعاني النسبية ، فإنّ النسبة تارةً يقصد منها ثبوت شيء لشيء ، واُخرى ثبوت شيء في شيء ، وهي الظرفية . وثالثة ثبوت شيء بشيء وهي الآلة ، وجامعه هو الربط . وهذه كلّها نسب خارجية .

أمّا مفهوم الربط الذي هو ربط بالحمل الأوّلي فهو معنى اسمي ، لكونه مستقلا في عالم التعقّل والادراك ، ونسبته إلى واقع النسبة كالعنوان إلى معنونه ، وأمّا المعنى الحرفي فهو ربط بالحمل الشائع .

والحاصل : أنّ حكمة الوضع كما تقتضي وضع الألفاظ للمعاني الاسمية من الجواهر والأعراض ، كذلك تقتضي أن تكون النسب موضوعاً لها شيء ، وليس 

ــ[59]ــ

الموضوع لها إلاّ الحروف . فالحروف وضعت للنسب الواقعية الخارجية التي هي غير مستقلّة في الوجود أصلا ، وليست موضوعة لمفاهيم النسب الخاصّة كالنسبة الظرفية والابتدائية وهكذا .

فقولنا : كلمة (في) موضوعة للنسبة الظرفية لا نريد به أنّها موضوعة لهذا المفهوم ، أي ما هو نسبة ظرفية بالحمل الأوّلي ، بل نريد به أنّها موضوعة لواقعها وما هو نسبة بالحمل الشائع .

وهذا كقولنا : اجتماع الضدّين ، أو شريك الباري محال ، فإنّا لا نريد به أنّ نفس مفهوم ذلك محال ، بل المحال واقع الاجتماع ، وواقع الشريك . وهكذا العدم فإنّ مفهومه ليس بمعدوم بالحمل الشائع الصناعي ، نعم مفهوم العدم عدم بالحمل الذاتي .

فالذي تلخّص من مقالة بعض المشايخ : أنّ الحروف وضعت لواقع النسب والروابط الخارجية التي هي سنخ من الموجودات غير المستقلّة ، والتي هي غير موجودة في نفسها ، بخلاف الأسماء فإنّها وضعت لمفاهيم مستقلّة في عالم التصوّر .

ولا يخفى أنّ البحث هنا يقع في مرحلتين :

الاُولى : في أصل تحقّق قسم رابع ـ غير وجود الواجب والجواهر والأعراض  ـ وهو الوجود المصطلح عليه وجودٌ لا في نفسه.

الثانية : في أنّ الحروف وضعت لهذا المعنى أم لا .

أمّا الكلام عن الاُولى : فالتحقيق أنّه ليس هناك قسم رابع من الموجودات الممكنة غير وجود الجواهر والأعراض ، والوجه فيه : أنّ هذه الوجودات غير المستقلّة لو كانت لم تكن لها ماهية أصلا ، ولا يتعقّل وجود خارجي إمكاني بلا ماهية ، إذ لا معنى للموجود بلا ماهية ، فإنّها حدّ للوجود ، نعم وجود الواجب لا ماهية له لأنّه لا حدّ له .

ــ[60]ــ

وأمّا ما استدلّ به من البرهان على إثباته فغير تامّ ، لأنّ غاية ما جاء به أنّ تعدّد المتعلّق يكشف عن تعدّد الوجود ، وهذا ليس بصحيح ، إذ ربما يكون هناك وجود واحد في الخارج ، ويكون من جهة متيقّناً ومن اُخرى مشكوكاً . فالكلّي ربما يتيقّن بوجوده في الدار ، ولكن بالإضافة إلى مصاديقه كزيد وعمرو مشكوك . وبناءً على أنّ الكلّي عين فرده فوجود ذلك الكلّي وجود للفرد ، فهو وجود واحد صار متعلّقاً لليقين والشكّ من جهتين .

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّ اليقين تعلّق بوجود الجوهر وهو زيد ، ويقين تعلّق بوجود العرض وهو كلّي البياض ، إلاّ أنّنا نشكّ في نسبة ذلك الكلّي إلى زيد . ومن المعلوم أنّه على تقدير ثبوته لزيد ليس هناك وجودات متعدّدة : وجود للكلّي ووجود للفرد ، بل هو وجود واحد في الخارج ، وهو وجود البياض مثلا .

وهكذا الحال في غير المقام ، فإنّا إذا أثبتنا وأقمنا البرهان على أنّ للعالم محدثاً وموجداً وصانعاً ، فلا محالة يعترف الخصم به ، ولكنّه مع ذلك في شكّ من أنّه جسم أو أنّه عالم ونحو ذلك . فاليقين بوجود صانع مع الشكّ في الخصوصيات لا يكشف عن أنّ الصانع والخصوصية المشكوكة متعدّدان بحسب الوجود .

وأمّا الكلام عن الثانية : فلأنّنا لو تنزّلنا عن ذلك ، وسلّمنا بأنّ هناك وجوداً رابعاً ، وهو الوجود لا في نفسه ، إلاّ أنّ كون الحروف من هذا القبيل ليس كذلك ، إذ الحروف لم تكن موضوعة لما هو الموجود خارجاً ، لعدم تحقّقه في الذهن وقد مرّ أنّ ما يوضع له اللفظ لابدّ وأن يكون أمراً قابلا للوجود الذهني لينتقل إليه السامع .

ثمّ بعد أن أصبحت موضوعة للمفاهيم فما هو المفهوم الذي وضع له الحرف ؟ هل هو مفهوم النسبة والربط ؟ فإنّ ذلك مفهوم اسمي مستقل في عالم الإدراك . أو هناك مفهوم آخر وضعت له الحروف غير مفهوم النسبة ، فما هو ذلك المفهوم ؟ وعلى

 
 

ــ[61]ــ

كل فالحروف ليست موضوعة للنسب الخارجية .

مضافاً إلى أنّ الحروف تستعمل في موارد غير صالحة لإثبات العرض إلى معروضه ، ولتحقّق الربط بينهما ، وذلك في مثل واجب الوجود ، فيقال : الله عالم بكذا ، أو قادر على كذا ، أو مريد لكذا ، الخ . وبناءً على أنّ الحروف تفيد الربط بين العرض والجوهر فقد استعملت الباء وأخواتها للدلالة على هذا المعنى . مع أنّ صفاته تعالى عين ذاته، وذاته غير قابلة لطروء هذه الاُمور عليها ، فإنّها ليست محلا للعوارض والحوادث . مع أنّنا بالوجدان نشاهد استعمال الحرف في مثل هذه الموارد كاستعماله عندما يقال : زيد عالم بكذا ، من دون فارق بينهما .

بل ربما تستعمل الحروف في الاُمور العدمية والاعتبارية ، فيقال : اجتماع الضدّين في نفسه ممتنع ، والإمكان في نفسه مغاير للامتناع ، ولا ريب أنّه لا نسبة بين اجتماع الضدّين ونفسه ، وكذلك بين الإمكان ونفسه ، ليعبّر عنها بالوجود الرابط . إذن فما هي النسبة التي يحكي عنها الحرف ؟

القول الخامس : ذكره المحقّق العراقي (قدّس سرّه)(1): أنّ الحروف لم تكن موضوعة لإفادة النسب الخاصّة ، ولا للربط بين العرض والمعروض ، فإنّ الهيئة هي التي تفيد هذا المعنى . بل الحروف موضوعة للأعراض النسبية ، بيان ذلك : أنّ الأعراض على قسمين :

قسم يكون في مقام وجوده الخارجي محتاجاً إلى موضوع واحد يقوم به خاصّة ، وهذا كمقولة الكيف والكم .

وقسم يكون في مقام وجوده الخارجي محتاجاً إلى موضوعين يتقوّم وجوده بهما ، وهو كمقولة الأين والمتى والإضافة وما شاكلها ، ويسمّى بالعرض النسبي .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مقالات الاُصول 1 : 86 ـ 91 ، نهاية الأفكار 1 : 42 وما بعدها .

ــ[62]ــ

والحروف موضوعة للقسم الثاني ، فإنّنا لو قلنا : زيد في الدار ، فإنّ زيداً جوهر له مفهوم اسمي مستقل في عالم الإدراك ، لا يستفاد منه إلاّ واقعه ، كما أنّ (الدار) مفهوم اسمي لا يستفاد منها إلاّ واقعها ، وأمّا (في) فتدلّ على خصوصية قد نسبت إلى الذات ، وهي تحقّق كون ما منه ، وتلك الخصوصية هي التي صحّحت النسبة ، ولولاها لما كان في الكلام مناسبة . أمّا الهيئة فهي تشير إلى ذلك العرض المتحقّق من زيد وتحمله عليه ، وهذه الخصوصية التي يكشفها الحرف تختلف فتارةً تكون وجوداً أينيّاً مكانياً ، واُخرى ابتدائياً ، وثالثة انتهائياً .

فالمتحصّل من هذا القول : أنّ الحروف تدلّ على العرض المنتسب إلى موضوع ما ، والهيئة تدلّ على ربط ذلك العرض بموضوع بعينه ، وتحقّقه خارجاً . فأصبحت الحروف موضوعة للأعراض النسبية ، كما أنّ الهيئة تدلّ على تحقّقها في الخارج .

وهذا القول فاسد ، بل أوضح من سابقه فساداً .

أمّا فساده فلأنّ الحروف ربما تستعمل في موارد غير قابلة لنسبة العرض إلى معروضه ، فيقال : إنّ الله عالم بكذا ، وقوله تعالى : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)(1)وأمثالهما . وإذا كان معنى الحروف الأعراض النسبية كان لازمه استحالة استعمال الحروف في هذه الموارد ، لأنّه تعالى أجلّ من أن يتّصف بالأعراض النسبية وغير النسبية .

وأمّا أوضحية الفساد فلأنّ معنى هذا القول أنّ (في) موضوعة للظرفية ، لأنّها العرض النسبي ـ أعني كون شيء في شيء ـ وهذا المفهوم معنى اسمي ، ولازمه اتّحاد المعاني الاسمية والحرفية بحسب الذات ، ويكون التخيير بينهما باللحاظ . مع أنّه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) طه 20 : 5 .

ــ[63]ــ

(قدّس سرّه) بنفسه اعترف بتغاير المعنيين ، فهذا نقض لما التزم به .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net