المختار :
والصحيح أن يقال : إنّ الحروف وضعت لمعان ومفاهيم غير مستقلّة في عالم المفهوم ، وإنّما هي متعلّقة بالغير ، تلك المفاهيم هي تضييق المعاني الاسمية .
بيان ذلك : أنّ المعاني الاسمية ـ الكلّيات منها والجزئيات ـ تنقسم إلى عدّة تقسيمات من حيث حصصها وأفرادها وأحوالها ، على وجه لا يجمعها عدد ، مثلا الضرب له عدّة تقاسيم ، فهو ينقسم باعتبار زمانه ، ومكانه ، وآلته ، وموجده وقابله ، وكيفيته ، ونحو ذلك إلى تقاسيم لا نهاية لها . ولا ريب أنّ كل حصة من الحصص المذكورة لم يوضع لها لفظ مخصوص ، فإنّ ملاحظة تلك الحصص الكثيرة للواضع من الاُمور العسرة إن لم تكن غير ممكنة ، وذلك لعدم وجود ألفاظ تكفي للدلالة على تلك المعاني التي ليس لها ضابط من حيث العدد .
ولا إشكال أنّ غرض المتكلّم كما يتعلّق ببيان المفهوم على سعته وإطلاقه يتعلّق ببيان حصة خاصّة من تلك الحصص ، إمّا للحكم عليها ، وإمّا لداع آخر يدعوه إلى تصويرها أمام المخاطب ، فكان بالضرورة محتاجاً إلى وسيلة كافية تنهض بهذه المهمّة ، وتبرز ذلك المعنى أمام السامع ، وقد عرفت أنّ الأسماء عاجزة عن القيام بهذا الأمر ، ولكن الحروف هي التي نهضت بتحصيل الغرض المذكور فكانت دالّة على تضييق دائرة المعنى ، وتقييد ما كان واسعاً ، وتفيد أنّ المعنى الاسمي لم يرد على سعته وإطلاقه ، بل اُريدت منه حصة خاصّة .
مثلا لو قلنا : الصلاة في المسجد مستحبّة . فلفظ (الصلاة) دلّ على العبادة الخاصّة ، وكلمة (المسجد) دلّت على الأرض التي اتّخذت بيتاً لله تعالى ليعبد فيه وأمّا كلمة (في) فقد دلّت على أنّ المراد من الصلاة ليس الطبيعة السارية إلى كل فرد بل حصّة خاصّة منها ، وهي الصلاة في المسجد ، فقد يحكم عليها بحكم شرعي كما في
ــ[64]ــ
المثال ، وقد يحكم عليها بالوجود ، أو بالعدم ، أو بالإمكان ، أو بالامتناع ، أو بغير ذلك .
فالحروف وضعت لمفاهيم غير مستقلّة في نفسها ، بل قائمة بالغير ، تلك المفاهيم هي تضييق المعاني الاسمية ، وبهذا أصبحت معاني الحروف مغايرة للمعاني الاسمية ، لأنّ المعاني الاسمية مستقلّة في عالم الإدراك ، لا تحتاج إلى شيء تقوم به بخلافها الهيئات الناقصة كهيئة الإضافة ، فإنّها أيضاً تدلّ على التضييق ، فإذا قلنا : دار زيد . أو غلام عمرو . فإنّ الدار لها معنى واسع ينقسم إلى أحوال كثيرة ، فتارةً يختص بزيد واُخرى بعمرو ، وثالثة بالأمير ، وما شاكل ذلك . كما أنّ الغلام كذلك في المثال الثاني ، وقد صوّر لنا الحصّة الخاصّة نفس الإضافة دون أن يتوسّط بينها حرف من الحروف .
تنبيه : لقد قسّموا الحروف إلى قسمين :
قسم يدخل على الجملة الناقصة ، بحيث لا يكتفى به في مقام الإفادة ، مثل (في) و (عن) . وهذا القسم هو الذي وضع لتضييق المفاهيم الاسمية .
وقسم يكون مدخولها تامّ النسبة والإفادة ، مثل أدوات الاستفهام ، والنداء والتمنّي ، والترجّي ، وهي تلازم الدخول على الجمل التامّة . ومفاد هذه الحروف مفاد الجمل الإنشائية ، تدلّ بحسب وضعها على أمر نفساني قائم في ضمير المتكلّم . فكلمة (ليت) إذا قيل : ليت لي قنطاراً من الذهب . تبرز ما في نفس المتكلّم من التمنّي المخصوص المتعلّق بالذهب مثلا . وهكذا الاستفهام ، فإنّه يبرز ما في نفس المتكلّم من طلب الفهم الخاص لا المطلق . وهذا أمر يعود إلى التزام الشخص على نفسه بأنّه متى ما جاء بهذه الحروف الخاصّة فقد أبرز بها معنى في ضميره.
فهذا القسم من الحروف مفاده كالإنشاء من ناحية كشفها عن شيء ما في النفس ـ حسب ما التزم به المتكلّم ـ وبهذا اختلف القسم المذكور عن بقية الحروف
ــ[65]ــ
التي تدخل على الجمل الناقصة ، فإنّها لا تفيد إلاّ تضييق المعاني الاسمية كما سبق .
|