وبعد أن أبطلنا قول المشهور في مقام الفرق بين الجمل الخبرية والإنشائية فنقول :
والصحيح في مقام الفرق هو أنّ الجمل الخبرية تدلّ على حكاية ثبوت النسبة في الخارج أو عدمها ، بمقتضى التزام كل شخص على نفسه في مقام التعبير بهذه الهيئة الخاصّة . نعم الحكاية التي كشفت عنها نفس الهيئة ، وأصبحت مدلولة لها
ــ[68]ــ
تقبل الاتّصاف بالصدق والكذب ، فإنّ المحكي إن كان مطابقاً لما هو ثابت خارجاً وفي نفس الأمر كان صدقاً ، وإن لم يكن مطابقاً كان كذباً. فهما من صفات المدلول والمنكشف ، وأمّا الدالّ وهو اللفظ فليس فيه قابلية الاتّصاف بكل واحد منهما . نعم يتّصف اللفظ بالصدق والكذب تبعاً لاتّصاف المدلول ، وهذا أمر آخر .
والحاصل : أنّ المتكلّم حسب التزامه وتعهّده أخذ على نفسه بأنّه متى ما جاء بجملة خبرية فقد قصد بذلك الحكاية عن ثبوت النسبة خارجاً ، أو عن عدمها . فلو نصب قرينة على الخلاف لم يكن ذلك خلاف ما تعهّد به . وإنّما يلزم هذا المعنى إذا لم ينصب قرينة ، وقد أراد من الجملة معنى آخر غير قصد الإخبار والحكاية .
وأمّا الجمل الإنشائية : فالتحقيق أنّها تبرز أمراً نفسانياً ثابتاً في قرارة المتكلّم ، حيث إنّه قد التزم على نفسه بأنّه متى ما عبّر بالجملة إنشائية فقد أبرز أمراً اعتبارياً في نفسه ، أو أمراً غير اعتباري كالتمنّي والترجّي وأمثالهما ، وهذا الأمر المبرز لا يقبل الاتّصاف بالصدق والكذب ، وإنّما يدور مدار اعتبار الشخص نفسه . فهو أمر دائر بين الوجود والعدم .
فالمتحصّل من هذا : أنّ كلا من جملتي الخبر والإنشاء تبرز شيئاً في ضمير المتكلّم ، غاية الأمر المبرز في الجملة الخبرية هو الحكاية عن ثبوت النسبة أو عدمها خارجاً ، وفي الجملة الإنشائية هو الأمر النفساني من الاعتبار أو غيره ، فهما مشتركان من ناحية الإبراز .
أمّا من ناحية الصدق والكذب فهما مختلفان ، فالجملة الخبرية بعد أن كان المبرز فيها الحكاية والإخبار أمكن اتّصاف ذلك بالصدق والكذب، من حيث المطابقة للواقع وعدمها . وأمّا الجمل الإنشائية فالمبرز فيها أمر نفساني ، وهو غير قابل للاتّصاف بكل واحد منهما ، وإنّما يدور مدار اعتبار الشخص نفسه ، فهو إمّا موجود وإمّا معدوم .
ــ[69]ــ
وقد تحصّل ممّا ذكرنا : أنّ المستعمل فيه اللفظ في الجملة الخبرية غيره في الجملة الإنشائية .
وبذلك يظهر التأمّل فيما أفاده صاحب الكفاية (قدّس سرّه) في مبحث الطلب(1) من أنّ الشخص ربما يعبّر بجملة خبرية ويقصد بها الطلب ، مثل (يعيد) و (يتوضّأ) ، بدعوى أنّ هذا النوع من الطلب يكون آكد في البعث من الصيغة حيث أبرز بصيغة الإخبار عن وقوع المطلوب في مقام طلبه ، لإظهار أنّ الآمر لا يرضى إلاّ بوقوعه ، فكانت الجملة الخبرية مستعملة عنده في معناها ، وهو الدلالة على ثبوت النسبة ، إلاّ أنّ الداعي الحقيقي هو الطلب ، وقد عرفت أنّ الجملة الإنشائية لا تحكي عن ثبوت النسبة وعدمها ، وإنّما تبرز الاعتبار النفساني الخاصّ .
مضافاً إلى أنّ ذلك لو تم لجاز لكل أحد أن يستعمل الجملة الاسمية في معناها ويقصد منها الطلب ، مع أنّنا لم نشاهد ذلك أصلا ، نعم بعض الجمل الاسمية تستعمل في مقام الإنشاء ، مثل زوجتي طالق ، وأنت حرّ ، ولكنّه في مقام إنشاء المادّة لا الوجوب ، ومع ذلك لا تكون مستعملة في معناها من حكاية ثبوت النسبة ، وإنّما تدلّ على إبراز الاعتبار الخاص .
أسماء الإشارة
ذكر صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(2) أنّ الوضع والموضوع له والمستعمل فيه عام في أسماء الإشارة والموصول والضمائر ، والتشخّص إنّما جاء من جهة الاستعمال
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 71 .
(2) كفاية الاُصول : 12 .
ــ[70]ــ
فإنّ كلمة (هذا) وضعت لمفهوم المفرد المذكّر ، و(أنت) لمفهوم المفرد المخاطب ، و(هو) لمفهوم المفرد الغائب ، ولكنّه عند الاستعمال وإرادة هذه المعاني من اللفظ يحصل التشخّص دون أن يكون له الدخل في الوضع وفي المستعمل فيه . فأوضاع هذه الأسماء كأوضاع الحروف .
ولا يخفى أنّنا لو التزمنا في الحروف باتّحاد معانيها مع الأسماء ، وأنّ الاختلاف من جهة اللحاظ ، فهذا المعنى لا نلتزمه في أسماء الإشارة وأخواتها ، وذلك لأنّهم إن أرادوا من الإشارة الدلالة على المعنى ـ كما يقال الكلام الفلاني يشير إلى كذا ـ فذلك لا اختصاص له بأسماء الإشارة ، بل يجري في جميع الألفاظ الموضوعة ، لأنّها تدلّ على معانيها وتحكي عنها .
وإن أرادوا معنى آخر للإشارة ـ وهو الإشارة الزائدة على الدلالة على المعنى ـ فلابدّ للواضع من لحاظها مع المعنى ، ثمّ وضع اللفظ بازائها ، وذلك لأجل أنّ الإشارة إذا لم تكن ممّا يلزمه الاستعمال فلابدّ في اختصاصها بمورد دون مورد من تخصيص الواضع إيّاها بذلك المورد ، وهذا ينافي القول بخروجها عن الموضوع له والمستعمل فيه ، وإنّما تجيء من قبل الاستعمال .
والصحيح أن يقال : إنّ كل شخص إذا تأمّل في وضع أسماء الإشارة واستعمالها وجد كلمة (هذا) التي هي اسم من الأسماء لا تدلّ على مفهوم المفرد المذكّر ، بل تدلّ على واقع ذلك المفهوم ، فهي موضوعة بأزاء واقع ذلك المفهوم الكلّي الذي قد يكون من المفاهيم الجزئية ، من زيد وعمرو والكتاب والدار ، الخ . وقد يكون من المفاهيم الكلّية ، كمداليل أسماء الأجناس .
والاستعمال في ذلك الواقع لابدّ وأن يقترن بالإشارة الحسّية الخارجية ، من الرأس أو العين أو اليد أو بالإشارة الباطنية ، فكانت الإشارة الحسّية شرطاً للدلالة ، حيث إنّ الواضع قد وضع كلمة (هذا) للدلالة على واقع المفرد المذكّر
ــ[71]ــ
بشرط الإشارة إليه . فإذا استعملت ولم يأت بالإشارة إلى ما اُريد منها فقد انتفت الدلالة ، فكل مورد تستعمل فيه كلمة (هذا) ـ كما لو قال : هذا زيد ـ فلابدّ من اقترانها بالإشارة ، كاليد أو العين أو الرأس ، ولا يصحّ لأحد أن يترك هذه الإشارة معتمداً على مجرد كلمة (هذا) فقط .
وهكذا حينما يقال : هذا محال . مشيراً بكلمة (هذا) إلى اجتماع الضدّين مثلا أو : إنّ هذا المطلب صحيح . مشيراً باشارة باطنية إلى مطلب خاص . وهكذا أسماء الموصول والضمائر على هذا القياس .
وقد ظهر من هذا أنّ أسماء الإشارة وأخواتها موضوعة بالوضع العام والموضوع له خاص ، لما عرفت من أنّ الموضوع له واقع ذلك المفهوم ، وإن كان المتصوّر نفس المفهوم ، ولكن تصوّره كان مرآة إلى واقعه .
والمتحصّل من هذا : أنّ القسم الثالث من الوضع ممكن وواقع ، لا كما ذهب إليه صاحب الكفاية (قدّس سرّه) من أنّ القسم الثالث ممكن وغير واقع .
|