الاستعمال المجازي
هل صحّة استعمال اللفظ في المعنى المناسب للمعنى الحقيقي تستند إلى الوضع النوعي ، أو أنّها بالطبع ؟ وجهان ، بل قولان . ذهب صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(1)إلى الثاني ، بتقريب : أنّ كل مورد يستحسن الطبع استعمال لفظ في معنى ويراه مناسباً يجوز الاستعمال فيه ، وإن منع الواضع من ذلك ، ولا يجوز ذلك فيما لا يستحسنه الطبع وإن أذن الواضع .
ثمّ إنّ النزاع في هذه المسألة يتوقّف على أن تثبت مغايرة بين المعنى المجازي
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 13 .
ــ[72]ــ
والحقيقي ، بحيث يستعمل اللفظ تارةً في المعنى الحقيقي واُخرى في المجازي ، أمّا لو التزمنا بمقالة السكاكي(1) من عدم المغايرة بين المعنيين ، وإنّما هناك استعمال واحد في المعنى الحقيقي ، غاية الأمر أنّ له فردين : حقيقي وادّعائي ، وهو يختلف في مرحلة التطبيق دون الاستعمال ، فلا تغاير بين المعنيين ليقع النزاع في صحّة استعمال اللفظ في غير ما وضع له من دون إذن من الواضع وعدمها . فلو قال القائل : جئني بأسد ـ مثلا ـ فقد استعمل اللفظ في معناه الحقيقي وهو الحيوان المفترس ، إلاّ أنّه طبّق هذا المفهوم على الرجل الشجاع ، وفي ذلك نوع من المبالغة ، وهي لا تتأتّى لو قال : جئني برجل شجاع .
ثمّ إنّ القول بتوقّف صحّة الاستعمال في المعنى المجازي على إذن الواضع يتوقّف على أن يكون هناك واضع مخصوص ، قد جعل اللفظ لمعنى حقيقي ، ثمّ يأذن في استعماله في معنى مناسب للمعنى الحقيقي لعلاقة مصحّحة لذلك الاستعمال ، بحيث كان كل من يريد الاستعمال لابدّ من لحاظه لتلك العلاقة .
أمّا لو تمّ القول بأنّ الواضع ليس شخصاً واحداً ، بل كل مستعمل واضع حسب تعهّده والتزامه على نفسه بأنّه متى جاء بلفظ مخصوص فقد أراد منه تفهيم معنى خاص ، فالتزامه كما كان بالإضافة إلى المعنى الحقيقي ، كذلك كان بالإضافة إلى المعنى المجازي ، وأنّه متى ما جاء باللفظ الخاص مقترناً مع القرينة فقد أراد منه معنى مخصوصاً ، فلا يكون هناك متابعة في مقام الاستعمال .
وبما أنّك قد عرفت(2) أنّ حقيقة الوضع عبارة عن التعهّد والالتزام وأنّ كل مستعمل واضع ، وليس في البين متابعة ، فالصحيح ما ذهب إليه صاحب الكفاية
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مفتاح العلوم : 156 .
(2) في ص41 وما بعدها .
ــ[73]ــ
(رحمه الله) من أنّ العلائق في الاستعمالات المجازية لا تحتاج إلى الوضع ، بل المرجع فيها هو الطبع .
هذا وللالتزام بما ذهب إليه السكاكي مجال واسع ، ومعه يرتفع النزاع من أصله ، ولا مجال معه للقول بأنّ صحّة الاستعمال في موارد الاستعمالات المجازية تتوقّف على إذن من الواضع .
استعمال اللفظ وإرادة شخصه
وقع الخلاف بين القوم في صحّة استعمال اللفظ وإرادة شخصه أو صنفه أو نوعه أو مثله ، وهل هو بالوضع أو بالطبع . ذهب صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(1) إلى الثاني ، كما ذهب غيره إلى الأول .
وهذا النزاع مبني على أن يكون الاستعمال في هذه الموارد كسائر الاستعمالات الاُخر التي يؤتى بها للحكاية والدلالة ، وأمّا إذا كان استعمال اللفظ وإرادة شخصه ليس من هذا القبيل فالنزاع منتف .
بيان ذلك : أنّ الغرض من الوضع كما عرفت سابقاً(2) إحضار المعنى أمام السامع ، وتفهيم المقاصد له ، وهذا يحتاج إلى مبرز يمكن بسببه أن يحضر المعنى في الذهن ، فكانت الألفاظ هي المتكفّلة لهذا الأمر .
أمّا الأشياء التي هي بارزة أمام المخاطب بنفسها فالحاجة لا تدعونا للاستعانة بلفظ للحكاية عنها ، فإنّه يلزم تحصيل الحاصل . ومن هذا القبيل نفس الألفاظ ، فإنّها موجودة أمام السامع ، لا تفتقر في مقام الإظهار إلى لفظ آخر
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 13 ـ 14 .
(2) في ص42 .
ــ[74]ــ
يبرزها ، وربما يتعلّق الغرض بالحكم عليها ، وهو يختلف :
فتارةً يحكم على اللفظ بشخصه وبما هو هو ، كما لو قلنا : زيد ثلاثي . واُريد به شخصه ، فهذا النحو خارج عن مرحلة الاستعمال ، لأنّه ليس كسائر الاستعمالات المتعارفة ، بل هو من قبيل إحضار نفس الموضوع ، فيكون إطلاق اللفظ وإرادة شخصه صحيحاً .
وقد تصدّى صاحب الكفاية (قدّس سرّه) لتصحيح هذا النحو من الاستعمال بما حاصله : أنّ للفظ حيثيتين : إحداهما : حيثية صدوره من المتكلّم ، وثانيتهما : حيثية تعلّق الإرادة به ، وكونه مراداً . فمن حيث كونه صادراً دالّ ، ومن حيث كونه مراداً مدلول ، ويكفي في تعدّد الدال والمدلول هذا الاعتبار .
ولا يخفى ما فيه ، فإنّ دلالة اللفظ على كونه مراداً وإن كان صحيحاً ، إلاّ أنّ هذه الدلالة عقلية ، لأنّ كل فعل يصدر عن فاعله فأمّا بالطبع ، أو بالقسر ، أو بالاختيار . ومع انتفاء الأوّلين يتعيّن الثالث عقلا ، وذلك كما لو صدر القيام من زيد فإنّه يدلّ على صدوره من فاعله ، وعلى كونه اختيارياً ، وهذه دلالة عقلية والكلام ليس في الدلالة العقلية ، بل في الدلالة الاستعمالية ، بأن يستعمل اللفظ في معنى ، فالسامع ينتقل إلى اللفظ أوّلا ، وإلى المعنى ثانياً . وهذه الدلالة الاستعمالية في شيء واحد مستحيل ، إذ لا معنى لكون شيء واحد منتقلا إليه أوّلا باعتباره لفظاً ومنتقلا إليه ثانياً باعتباره معنى .
كما وقد تصدّى لتصحيح هذا النحو بعض مشايخنا المحقّقين (قدّس سرّهم)(1)وأفاد ما حاصله : أنّ التضايف وإن كان من أقسام التقابل ، إلاّ أنّه ليس كل متضايفين متقابلين ، فإنّ العالم والمعلوم ، والمحب والمحبوب من قبيل المتضايفين ، مع
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نهاية الدراية 1 : 65 .
ــ[75]ــ
اتّحادهما في بعض الموارد كعلم الإنسان بنفسه، فنفسه عالم ونفسه معلوم . وكحبّ الإنسان نفسه ، فنفسه محب ونفسه محبوبة . والدلالة من هذا القبيل ، فإنّه تعالى دالّ على نفسه ومدلول . كما ورد في دعاء الصباح : « يامن دلّ على ذاته بذاته » . وفي دعاء الحسين (عليه السلام) يوم عرفة : « أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك ، متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك » . فكان تعالى قد دلّ على نفسه بنفسه ، وليس شيء آخر أظهر منه حتّى يدلّ عليه ، فهو دالّ وهو مدلول ، مع أنّ الدال والمدلول من المتضايفين . ويظهر من هذا أنّ التعدّد الاعتباري كاف في المتضايفين ، فليكن الأمر كذلك فيما نحن فيه .
ولا يخفى ما فيه فإنّ ما أفاده (قدّس سرّه) من أنّ المتضايفين قد يتّحدان وجوداً وإن كان متيناً جدّاً ، إلاّ أنّ خصوص التضايف بين المستعمل والمستعمل فيه لا يعقل فيه الاتّحاد ، بل لابدّ من التعدّد ، لما عرفت من أنّه لا معنى للانتقال إلى شيء واحد أوّلا باعتباره لفظاً ، والانتقال إليه ثانياً باعتباره معنى ، فكيف يعقل أن يكون شيء واحد مستعملا ومستعملا فيه ؟
بل الصحيح ما عرفت من أنّه ليس كسائر موارد الاستعمال ، بل هو إحضار نفس الموضوع .
فإن قلت : لازم ذلك أن تكون القضية مركّبة من جزأين : النسبة والمحمول وتكون حينئذ فاقدة للموضوع ، مع أنّ القضية مركّبة من ثلاثة .
قلت : إنّ الموضوع عبارة عن كلمة (زيد) بنفسها ، فأحد الأجزاء الثلاثة عبارة عن وجود نفس الموضوع ، والجزآن الباقيان متحقّقان بدالّهما ، فالهيئة دلّت على النسبة ، ولفظ الثلاثي دلّ على معنى الثلاثي ، فاكتملت أجزاء القضية .
واُخرى يطلق اللفظ ويراد به نوعه ، كما لو قال القائل : زيد ثلاثي . وأراد به نوعه . وهذا أيضاً خارج عن حقيقة الاستعمال ، لأنّه من قبيل إحضار نفس
ــ[76]ــ
الموضوع في القضية والحكم عليه ، فالحكم فيه وإن كان صورة على الفرد الخارجي إلاّ أنه في الحقيقة على الطبيعة ، باعتبار أنّ حضور الفرد بنفسه في الذهن حضور للنوع بنفسه ، وذلك لأنّ الموجود الذهني إذا اُلغيت عنه الخصوصيات لا محالة يكون كلّياً ، بخلاف الموجود الخارجي، فإنّه إذا اُلغيت عنه الخصوصيات لا يكون كلّياً ، بل هو أمر جزئي ، لأنّ الموجود الخارجي عين التشخّص والجزئية ، وعليه فلا استعمال في مثل إرادة النوع أيضاً ، بل الموضوع اُلقي بنفسه ، وحكم عليه بحكم .
|