وقد أورد صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(1) على تبعية الدلالة للإرادة بوجوه :
الوجه الأول : أنّ قصد المعنى وتفهيمه من مقوّمات الاستعمال ، وهو بمرتبة متأخّرة عن الوضع ، وما هو من مقوّمات الاستعمال كيف يؤخذ في المستعمل فيه أو الموضوع له ؟.
والجواب عنه : أنّا لا ندّعي وضع اللفظ بأزاء إرادة المعنى كي يتوجّه عليه الإشكال ، وإنّما ندّعي وضعه بأزاء المعنى حينما تتعلّق به إرادة التفهيم . فالمستعمل فيه نفس المعنى ، والالتزام قد تعلّق بتفهيمه حينما يتكلّم بذلك اللفظ ، فإنّ الاستعمالات الخارجية إنّما هي في مرحلة التطبيق ، لما تقرّر التزامه عليه وإخراج ما
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 16 .
ــ[81]ــ
كان ثابتاً بالقوّة إلى الفعل ، فالمعنى ليس على إطلاقه وضع له اللفظ ، بل المعنى عند تعلّق الإرادة به ، ولا مانع من أن يكون قصد المعنى على هذا النحو مدلولا للفظ .
الوجه الثاني : لزوم التجريد عند الحمل والإسناد في سائر الجمل ، مثل قولنا : زيد قائم . فزيد إن كان موضوعاً للمعنى المراد كما أنّ قائمٌ كذلك ، فلازمه عند الحمل والنسبة أن نجرّدهما من الإرادة ، ونحمل (قائم) بعد تجريده عن قيد الإرادة على (زيد) ، وضروري أنّنا لا نشاهد تصرّفاً عند الحمل والاسناد ، وهذا يكشف عن عدم تبعية الدلالة للإرادة .
والجواب عنه : أنّه بناء على ما حقّقناه من حقيقة الوضع ، ورجوعه إلى التعهّد بأنّه متى ما قصد تفهيم معنى مخصوص أتى بلفظ خاص ، يكون المدلول بالذات للفظ هو نفس إرادة التفهيم ، بمعنى أنّ الإرادة هي المنكشف التصديقي للفظ ، والمعنى هو متعلّق المدلول بالذات ، والنسبة في سائر موارد الحمل إنّما توقع بين المتعلّقات ، بمعنى أنّ الموضوع والمحمول متعلّق المدلول التصديقي دائماً ، أي متعلّق الإرادة ، والإرادة إنّما تتعلّق بذات المعنى في نفسه ، القابل للحمل والإسناد بلا تجريد .
الوجه الثالث : أنّ الالتزام بتبعية الدلالة للإرادة يستلزم أن يكون الوضع في الألفاظ بنحو الوضع العام والموضوع له الخاص ، وذلك لأنّ الواضع عندما يريد جعل اللفظ للمعنى المراد يتصوّر مفهوم المعنى مع مفهوم الإرادة ، وعند الجعل يضع اللفظ للمعنى بأزاء الإرادات الخارجية الواقعية من إرادة زيد وعمرو وبكر ، وهذا يستلزم دائماً أن يكون الوضع بالإضافة إلى جميع الألفاظ عاماً والموضوع له خاصاً . وقد سبق أن بيّنا أنّها تختلف باختلاف لحاظ المعنى على نحو ما ذكرناه في التقسيم السابق .
والجواب عنه : أنّ التقسيمات التي حصلت من تعدّد الأوضاع لم تكن في الحقيقة بلحاظ الإرادة ، بل للمعنى من حيث تعلّق الإرادة التفهيمية به . فالمعنى تارةً
ــ[82]ــ
يلحظ كلّياً ، واُخرى جزئياً ، وثالثة تفصيلياً ، ورابعة اجمالياً بعنوان مشير إليه . وعلى فرض لحاظه الأوّلي فامّا أن يوضع اللفظ بازائه ، وإمّا بأزاء المصاديق .
وجميع هذه التقسيمات تعود إلى المعنى نفسه ، من دون دخل الإرادة بذلك . والإشكال إنّما يرد بناءً على أخذ الإرادة قيداً دخيلا في المعنى ، بحيث يكون الموضوع له مركّباً من المعنى والإرادة ، وقد عرفت أنّ ما ندّعيه غير ذلك ، فإنّ ما ندّعيه هو أنّه متى ما تعلّقت إرادة المتكلّم بتفهيم معنى خاص جعل كاشفه اللفظ الخاص ، فإنّه التزم بأن لا يطلق اللفظ من دون أيّة قرينة إلاّ إذا كان غرضه تفهيم معنى خاص ، وهذا المعنى لا ينطبق إلاّ على الدلالة التصديقية .
فالمتحصّل : أنّ الدلالة الوضعية تابعة للإرادة .
وضع المركّبات
تختلف الجمل الكلامية بعضها عن بعض من حيث تعدّد الوضع فيها وقلّته فقد تكون جملة مشتملة على أوضاع ثلاثة ، وقد تشتمل اُخرى على أربعة فصاعداً . فلو لاحظنا جملة اسمية مؤلّفة من مبتدأ وخبر ، وكان كل منهما اسماً جامداً ، مثل زيد إنسان ، فبعد التحليل نجدها لا تزيد على أوضاع ثلاثة : وضع للهيئة التركيبية التي تفيد الحكاية عن ثبوت نسبة الإنسان لزيد ، ووضعان لمفردات القضية : وضع لزيد ووضع للإنسان . وكل واحد من هذه الثلاثة موضوع لمعنى خاص .
وقد يصادف طرف من القضية اسماً مشتقّاً فيكثر الوضع ، لاشتمال ذلك الاسم على وضعين : وضع من حيث المادّة الذي هو وضع شخصي ، ووضع من حيث الهيئة وهو وضع نوعي .
وقد يضاف إلى تلك الجملة حرف من الحروف ، أو إضافة من الإضافات مثل زيد في الدار ، أو زيد ضارب عمرو ، أو تشتمل على تقدّم بعض الأشياء على
ــ[83]ــ
بعض ، كما في تقديم الضمير المنفصل على الفعل ، فيدلّ على الحصر ، مثل إيّاك نعبد ، بدلا من كلمة (نعبدك) ، وكما في الأسماء التي لا تظهر حركات الإعراب عليها كموسى وعيسى . فالمتقدّم منهما في كل جملة فعلية خبرية يدلّ على الفاعلية والمتأخّر يدلّ على المفعولية ، وإلى غير ذلك ممّا يزيد عدد الوضع في الجملة الواحدة تبعاً لحاجة الواضع والمستعمل .
وقد أضاف بعضهم وضعاً آخر وراء وضع مفرداتها وهيئاتها ، وهو وضع مجموع الجملة المركّبة من المواد والهيئات لمجموعها ، ويسمّى بالوضع للمركّبات .
وهذا القول لا يرجع إلى محصّل ، لأنّ القائل به إن أراد أنّ هناك وضعاً وراء وضع المفردات والهيئة التركيبية فهذا الوضع أولا لغو صرف ، وثانياً يستلزم الانتقال إلى المعنى مرتين : أولا بنحو الإجمال ، ثانياً بنحو التفصيل .
وإن أراد بذلك وجود وضع للهيئات التركيبية يفيد غير ما تفيده المفردات بموادها وهيئاتها كالحصر وأمثاله ، فهذا لا بأس به ، إلاّ أنّه ليس بوضع للمجموع كما عرفت .
وممّا ذكرنا يظهر بطلان تقسيم المجاز إلى قسمين : مجاز في المفرد ، ومجاز في المركّب ، فإنّ المجاز ليس إلاّ استعمال اللفظ في خلاف ما وضع له، والمركّب ـ كما عرفت ـ ليس له وضع مستقل بحسب الحقيقة ليكون الاستعمال على خلافه استعمالا مجازياً ، نعم لا مانع من تشبيه بعض الجمل المركّبة ببعض ، مثل قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّب مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) الخ(1)، أو قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَ تْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) الخ(2).
وربما يشبه بعض الجمل ببعض ، كما في المثل المعروف : ما لي أراك تقدّم رِجلا
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ، (2) البقرة 2 : 19 ، 17 .
ــ[84]ــ
وتؤخّر اُخرى . تشبيهاً بحالة الشخص المتردّد ، وهو تشبيه أمر معقول بأمر محسوس .
وكيف كان ، فليس الأمر من قبيل المجاز ليكون للمركّبات مجاز حتّى يستلزم الوضع .
|