علائم الحقيقة \ 1 ـ التبادر 

الكتاب : مصابيح الاُصول - الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 7146


علائم الحقيقة

التبادر :

هو انتقال الذهن من اللفظ إلى المعنى من دون قرينة ، ولابدّ لهذا الانتقال من موجب ، وهو لا يخلو : إمّا من اقتضاء ذات اللفظ وطبعه ، أو من جهة وضع الواضع وجعله له ، أو من أجل قرينة اقتضت ذلك ، أو من جهة العلم بالوضع .

والأول معلوم العدم ـ كما تقدّم في مبحث الوضع(1)ـ فإنّ طبع اللفظ لو اقتضى الانتقال إلى المعنى بلا حاجة إلى الوضع للزم على كل شخص أن يعرف جميع لغات العالم ، وهو باطل بالضرورة .

والثاني كذلك ، فإنّ مجرد الجعل لو كان سبباً في الانتقال للزم حصول الانتقال إلى المعنى لكل شخص بمجرد تحقّق الوضع خارجاً ، وهو منتف بالضرورة أيضاً .

والثالث كذلك ، لأنّ الفرض أن لا تكون هناك قرينة ليستند الانتقال إليها فلا محالة يتعيّن :

الرابع : وهو أنّ الانتقال نشأ من العلم بالوضع ، فيستكشف إنّاً أنّ اللفظ حقيقة في هذا المعنى ، باعتبار انتقال من هو عالم بالوضع إليه ، لأنّ علمه في هذا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص31 .

ــ[85]ــ

الحال موجب للانتقال ، ولهذا قيل : إنّ التبادر علامة الحقيقة .

فإن قلت : إذا كان التبادر موقوفاً على العلم بالوضع ، والمفروض أنّ العلم بالوضع يتوقّف على التبادر ، فإنّه يلزم الدور .

قلت : يمكن الإجابة عنه بجوابين ، أشار لهما صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(1):

الأول : أنّ التبادر عند أهل اللغة حجّة على الجاهل الأجنبي عنها ، كما لو أراد الرجل أن يعرف حقيقة لفظ في معنى مخصوص عند أهل لغة ما ، فإنّه باستماعه إلى محاوراتهم يستطيع أن يقف على ما يفهمونه من إطلاق اللفظ ، فإذا رأى معنى من المعاني يتبادر إلى أذهانهم من نفس هذا اللفظ حكم بكون هذا اللفظ موضوعاً له .

وليس ببعيد أنّ حال فهم اللغات من هذا القبيل ، كما أنّ أكثر مؤلّفي القواميس اللغوية من القدماء كانوا يعتمدون على هذه الطريقة ، وعلى الأخص في اللغة العربية  ، حيث كانوا يتنقّلون في البوادي بين الأعراب لتسجيل معاني الألفاظ لديهم  ، وليس لهم طريق إلاّ هذا النوع من التبادر .

وبهذا الوجه أمكن ثبوت الفرق بين الموقوف والموقوف عليه ، بأن نقول : العلم بالوضع لدى الجاهل يتوقّف على التبادر لدى أهل المحاورة ، وأمّا التبادر عند اُولئك فيتوقّف على علمهم به ، ولا ربط لأحد العلمين بالآخر .

الثاني : أنّ التبادر حتّى عند الشخص نفسه إذا كان من أهل اللغة يكون دليلا على الحقيقة ، وذلك بأن نقول : إنّ أهل اللغة الواحدة كثيراً ما نراهم يستعملون الألفاظ في معانيها بحسب مرتكزاتهم ، من دون التفاتهم إلى خصوصيات المعنى ، بل قد يتردّدون في تلك الخصوصيات . فإذا أراد الشخص أن يستكشف حال ذلك

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 18 .

ــ[86]ــ

المعنى وخصوصياته من حيث السعة والضيق ، فلازمه أن يرجع إلى تبادره وما ينتقل ذهنه إليه من حاق اللفظ ، ليعرف المعنى تفصيلا وبصورة واضحة .

فالعلم بالوضع وأنّه حقيقة فيه يتوقّف على تبادر المعنى من اللفظ لديه ، وأمّا تبادره فيتوقّف على العلم بالوضع ارتكازاً ، أو فقل إجمالا . وبهذا ينحل الدور باختلاف الإجمال والتفصيل .

فائدة :

إنّ المستكشف بالتبادر ليس المعنى الحقيقي الأول الذي جعله الواضع ابتداءً بل المستكشف به المعنى الحقيقي الفعلي الذي يفهمه العرف من اللفظ ، ونعني به المعنى الذي ظهر اللفظ فيه فعلا ، سواء كان هو المعنى الحقيقي الأول ، أم المنقول إليه .

فلو تردّد الشخص فيما يفهمه العرف فعلا ، أهو بعينه المعنى الابتدائي الأول الذي كان متداولا في عصر المعصوم (عليه السلام) أم غيره . فلفظ الصعيد ـ مثلا ـ إذا رأيناه ظاهراً فعلا في مطلق وجه الأرض ، وشككنا في كونه هو المعنى الابتدائي في زمن المعصوم (عليه السلام) فإنّ أصالة عدم التغيّر أو التبدّل أو النقل ـ ومرجعها جميعاً إلى الاستصحاب القهقرى ـ تثبت ذلك .

والسيرة العقلائية قائمة على ذلك ، كما يظهر من مراجعة أحوالهم في استكشاف المراد من السجلات وغيرها ممّا يثبت كونه هو المعنى الحقيقي عند التردّد فيه في الزمان السابق .

هذا كلّه مع العلم بأنّ التبادر لم يكن لأجل قرينة أوجبت الانتقال إلى المعنى وأمّا لو تردّد في ذلك فليس في البين أصل يثبت الاستناد إلى مجرد حاق اللفظ لا إلى القرينة . وأصالة عدم القرينة لا تثبت هذا المعنى ، لأنّ مدركها إمّا الاستصحاب وإمّا بناء العقلاء ، والأول غير جار ، إذ لا أثر لذلك شرعاً ، والثاني كذلك ، لأنّ مجرى بناء العقلاء عند التمسّك بأصالة عدم القرينة في الموارد التي يكون للفظ ظهور في

ــ[87]ــ

المعنى ، ويكون له معنى حقيقي ومجازي ، ثمّ شكّ في المراد الجدّي للمتكلّم ، وأنّه هل أراد المعنى الحقيقي الذي كان اللفظ ظاهراً فيه ، أو أراد غيره ونصب عليه قرينة فبأصالة عدم القرينة يثبتون أنّ مراده هو المعنى الحقيقي .

وأمّا إذا علم ظهور اللفظ في المعنى ، وعلم إرادة المتكلّم له جدّاً ، ولكن شكّ في استناده إلى القرينة ليكون الاستعمال مجازياً ، أو إلى الوضع ليكون حقيقياً فالعقلاء لم يسبق لهم بناء في مثل هذا .

وبعبارة اُخرى : العقلاء إنّما يلتجئون إلى أصالة عدم القرينة لتعيين مراد المتكلّم جدّاً ، وأمّا العلم به والشكّ في كيفية الإرادة لذلك المعنى فلا يرجعون إلى أصالة عدم القرينة .

فالمتحصّل من جميع ما تقدّم : أنّ التبادر علامة على المعنى الحقيقي الفعلي العرفي إذا علم استناده إلى نفس اللفظ ، وهذا مختصّ بالعالم بالوضع فقط .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net