عدم صحّة السلب :
قالوا : إنّ صحّة الحمل وعدم صحّة السلب من علائم الحقيقة ، كما أنّ عدم صحّة الحمل وصحّة السلب من علائم المجاز . فإذا أردنا أن نعرف أنّ الحجر جسم أم ليس بجسم ـ مثلا ـ حملنا عليه ذلك ، فإن وجدنا صحّة مثل هذا الحمل من دون عناية نستكشف منه الحقيقة ، وإلاّ فهو مجاز .
والتحقيق أن يقال : إنّه لابدّ في كل قضية حملية الاتّحاد من جهة والتغاير من جهة بين المحمول والموضوع . أمّا جهة الاتّحاد فلأنّه لولاه لكان من حمل المباين على مباينه ، وهو لا يصحّ قطعاً . وأمّا جهة التغاير فلأنّه لولاه لكان من حمل الشيء على نفسه ، وهو باطل .
وهذا الحمل ينقسم إلى قسمين : ذاتي أوّلي ، وشايع صناعي .
أمّا الحمل الذاتي فهو عبارة عن حمل أحد المفهومين على الآخر ، كما يقال :
ــ[88]ــ
الإنسان حيوان ناطق . فجهة الاتّحاد بينهما وحدتهما مفهوماً ، وجهة التغاير اختلافهما من حيث الإجمال والتفصيل . فإنّ ذات الإنسان قد تتصوّر تارةً بمفهوم مجمل وهو مفهوم الإنسان ، واُخرى بمفهوم تفصيلي يشتمل على جهة اشتراك وامتياز ، وهو مفهوم الحيوان الناطق . فلو ألّفنا قضية من ذلك فقد حملنا مفهوماً متصوّراً تفصيلا على مفهوم متصوّر إجمالا . فالحمل الذاتي لا يفيد إلاّ حمل أحد المفهومين على الآخر .
وأمّا الحمل الشايع الصناعي فهو عبارة عن حمل شيء على شيء آخر متّحد معه وجوداً ، كحمل الكلّيات على أفرادها ، أو الماهيات على أصنافها وأنواعها ، كما يقال : زيد إنسان ، أو الإنسان حيوان . فإنّ الاتّحاد بين الموضوع والمحمول إنّما هو من حيث الوجود الخارجي ، بمعنى أنّ وجود أحدهما في الخارج عين الآخر .
وأمّا التغاير فهو بين المفهومين ، فإنّ المفهوم من كلمة زيد غير المفهوم من كلمة الإنسان .
إذا عرفت هذا فنقول : أمّا كون عدم صحّة السلب علامة على الحقيقة في الحمل الذاتي فهو موقوف على معرفة مفاد ذلك الحمل ، والذي يظهر منه أنّ ما تفيده جملة الإنسان حيوان ناطق ، هو أنّ المحمول بحسب الذات عين الموضوع . وأمّا أنّ اللفظ وهو الحيوان الناطق حقيقة في معنى الإنسان وأنّه موضوع له ، فالقضية تقصر عن إفادة هذا الأمر ، ولابدّ من الاستعانة بالتبادر في تعيين هذا المعنى .
وبعبارة اُخرى : صحّة الحمل من صفات المدلول والمنكشف ، والحقيقة والمجاز من صفات الدال والكاشف ، فلا يكون الأول دليلا على الثاني ، وعليه ففي القضايا الحملية حملا أوّلياً ذاتياً لا يكون عدم صحّة السلب دليلا على الحقيقة .
وأمّا في الحمل الشايع فهو كذلك ، والوجه في تسميته بالشايع هو تداوله بين الناس ، وشيوعه في القضايا التي يستعملونها عادة ، وتسميته بالصناعي باعتبار أنّ
ــ[89]ــ
أكثر أقيسة الصناعات وبراهينها ـ ولا سيما الشكل الأول ـ من هذا القبيل ، وقد عرفت أنّ جهة الاتّحاد فيها من حيث الوجود الخارجي ، والتغاير من ناحية المفهوم . فالجهة المصحّحة للحمل والجامعة بين كل من الموضوع والمحمول ليس إلاّ وحدة الوجود الخارجي .
وهذا القسم من الحمل يقع على أنحاء ثلاثة ، فإنّ الوجود الجامع تارةً يكون بالنسبة إلى كل من الموضوع والمحمول وجوداً بالذات ، واُخرى يكون بالإضافة إلى أحدهما بالذات وإلى الآخر بالعرض ، وثالثة تكون نسبته إلى كل واحد منهما بالعرض .
أمّا النحو الأول : فهو من قبيل حمل الكلّيات على أفرادها ، والماهيات على أنواعها وأصنافها ، أو الأجناس العالية على ما هو أدنى منها ، كما يقال : زيد إنسان . فإنّ الوجود الخارجي في جميع الموارد المذكورة بالإضافة إلى كل من الموضوع والمحمول ذاتي . فوجود زيد كما أنّه وجود له حقيقة وجود للإنسان أيضاً حقيقة فكان ما في الخارج وجوداً واحداً لهما .
وأمّا النحو الثاني : فهو ما لو كان المحمول في القضية من المفاهيم المنتزعة مثل زيد قائم . فقائم ليس له وجود خارجي ، بل الذي له الوجود نفس زيد ونفس الصفة ، وهي القيام التي يعبّر عنها بالمبدأ . أمّا قائم فهو مفهوم منتزع من تلبّس الذات بتلك الصفة . فالوجود ذاتي لأحدهما ، وعرضي للآخر ، وقد عرفت أنّ كل ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات . فقائم بحسب واقعه ينحل إلى قضية اُخرى هي أنّ تلك الصفة قيام ، وهو من قبيل النحو الأول .
وأمّا النحو الثالث : فهو ما لو كان الموضوع والمحمول من المفاهيم المنتزعة مثل الكاتب متحرّك الأصابع . فالوجود الخارجي بالإضافة إلى كل منهما عرضي لأنّ الكاتب عبارة عن الذات المتّصفة بالكتابة ، ومتحرّك الأصابع عبارة عن الذات
ــ[90]ــ
المتّصفة بحركة الأصابع . فالموجود حقيقة ثلاثة اُمور : ذات ، وصفتان : الكتابة وحركة الأصابع . وقد انتزع من تلبّس الذات بكل من الوصفين عنوان ، ومن المعلوم أنّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات . فصدق الكاتب على زيد ينتهي إلى أنّ تلك الصفة القائمة به كتابة ، وكذا صدق متحرّك الأصابع ينتهي إلى أنّ تلك الصفة حركة ، وكلّه يعود إلى النحو الأول .
وإذا اتّضح هذا المعنى : فالقضية في الحمل الشايع لا تفيد أكثر من أنّ المحمول عين ذلك الموضوع بحسب الوجود ، وأنّ هذا مع ذلك متّحدان وجوداً . وأمّا معرفة لفظ الإنسان حقيقة في زيد أو مجاز فلا تفيد القضية ، ولابدّ في الاستعانة في هذا الأمر بالتبادر .
فالمتحصّل : أنّ صحّة الحمل وعدم صحّة السلب لا يكونان علامة على الحقيقة ، كما أنّ عكسهما لا يكون علامة على المجاز.
الاطراد :
وقد ادّعي أنّ من علائم الحقيقة الاطراد ، كما أنّ عدمه علامة المجاز ، فإن أرادوا بالاطّراد تكرّر الاستعمال وتكثّره في المعنى فيستكشف منه الحقيقة ، فهو لا وجه له ، لأنّ كثرة الاستعمال تتبع الاستعمال الأول ، فمتى صحّ الاستعمال في المرّة الاُولى فيصحّ في الباقي بلا استثناء ، ومتى لم يصحّ في الاُولى لم يصحّ في غيره .
فإن كان المدار هو صحّة الاستعمال الأول فالصحّة كما تحصل بالوضع والجعل ، كذلك تتأتّى بعلاقة مجازية ، وعليه فكثرة الاستعمال لا تكون أمارة على الحقيقة ، بل تتبع صحّة الاستعمال الأول ، وهي أعم .
وإن أرادوا به معنى آخر ، وهو صدق المعنى على تمام الأفراد وعدم صدقه
ــ[91]ــ
وتوضيحه كما ذهب إليه بعض مشايخنا المحقّقين (قدّس سرّهم)(1) من أنّ لفظة أسد ـ مثلا ـ إذا كانت مستعملة في جميع أفراد الشجاع ، ومنطبقة على كل ما يكون شجاعاً ، من زيد والفرس وغيرهما ، بلا خصوصية في بعض دون بعض ، نستفيد منه أنّ لفظ الأسد موضوع للجامع بين الأفراد وهو الشجاع ، لكونه مطرداً فيه . وإن لم تكن كلمة الأسد بما لها من المعنى مستعملة في جميع الأفراد من ناحية الشجاع ، بل تستعمل في البعض وهو الرجل الشجاع ، فيقال : (زيد أسد) ، دون استعمالها في البعض الآخر من الأفراد ، مثل (النملة الشجاعة) فهو غير مطرد في الأخير ، إلاّ بعلاقة تصحّح ذلك ، فهي حقيقة في الأول دون الثاني .
ففيه ما لا يخفى ، فإنّ مرحلة التطبيق ليس لها مدخلية في تعيين الحقيقة .
بيان ذلك : أنّ اللفظ متى انطبق على جميع أفراد ذلك المعنى ، بحيث كان كل ما يصدق عليه شجاع يستعمل فيه الأسد حتّى النملة الشجاعة ، فبالضرورة نستفيد أنّ لهذا المعنى سعة وعموماً ، وليس فيه ناحية خاصّة . وإن لم ينطبق على الجميع وكان مستعملا في بعض الأفراد دون بعض ، فنستكشف إنّاً ضيق المعنى ، لا سعته وشموله . واستفادة هذا المعنى لا تكون وسيلة لمعرفة أنّه حقيقة أو مجاز ، وأنّ كلمة الأسد وضعت لكل شجاع أو لم توضع له ، بل المستفاد ـ كما عرفت ـ سعة المعنى وضيقه .
نعم ربما يكون الاطراد موجباً للاطمئنان بالحقيقة ، كما لو اشتملت الجملة على خصوصية ، مثل رأيت أسداً يرمي ، وتردّد أمرنا فيما استفدناه من كلمة الأسد ـ وهو الرجل الشجاع ـ بين كونه من حاق اللفظ ليكون موضوعاً له ، أو من الخصوصية الموجودة ، فلو أردنا معرفة هذا المعنى فلابدّ من إلغاء هذه الخصوصية والاتيان بخصوصية اُخرى ، مثل رأيت أسداً يأكل ، أو يمشي . فإن وجدنا اللفظ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نهاية الدراية 1 : 84 .
ــ[92]ــ
مطرداً في المعنى ، بحيث يستفاد منه ذلك من دون عناية في الجميع ، لا محالة يحصل لنا الاطمئنان باستناد الفهم إلى حاق اللفظ ، لا إلى الخصوصية لاختلافها . وإن وجدناه غير مطرد فالاطمئنان يحصل باستناد الفهم إلى الخصوصية التي هي القرينة على المراد .
والظاهر أنّ الوسيلة التي يستكشف بها المعنى من بين سائر اللغات هي هذه الطريقة المذكورة فإنّ الأجنبي عن اللغة يقف على محاورة أهل لغة خاصّة ، فيراهم يفهمون الجسم السائل من كلمة (الماء) إذا قال أحدهم : جئني بماء ، وهكذا يستفيد الآخر نفس المعنى إذا قيل : اشتريت ماء، أو شربت ماء ، فيحصل للأجنبي عن اللغة اطمئنان تام بأنّ المعنى المذكور معنى حقيقي للفظ ، باعتبار احتفاف الكلام بخصوصيات متعدّدة ، من دون أن يحصل في البين تكلّف أو تعمّل أو عناية ، ومن هذا القبيل تعلّم الصبيان .
تعارض أحوال اللفظ
ذكر صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(1) تبعاً لغيره أنّ للفظ أحوالا خمسة : هي التجوّز ، والتخصيص ، والنقل ، والاشتراك ، والإضمار . ونزيد على الجميع النسخ . وجميع هذه الأحوال لا يصار إليها في مورد يتردّد اللفظ بين حمله على المعنى الحقيقي وبين واحد منها ، باعتبار أنّها على خلاف الأصل ، فيدفع احتمال إرادتها بأصالة العدم ، لتحكيم أصالة الظهور .
أمّا الموارد التي يقطع فيها بعدم إرادة المعنى الحقيقي للمتكلّم ، وتردّد الأمر بين هذه الاُمور الخاصّة التي هي مخالفة للمعنى الحقيقي ، فقد ذكر القوم ترجيحات لتقديم
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 20 .
ــ[93]ــ
بعضها على بعض .
ولكن صاحب الكفاية (قدّس سرّه) جعل الميزان في التقديم هو الظهور ، وإن كان الترجيح في غيره ، والسبب في ذلك فقد الدليل المساعد على التعيين ، بل كلّها وجوه استحسانية .
ولا يخفى أنّ ما ذكره صاحب الكفاية (قدّس سرّه) متين جدّاً .
|