تصوير الجامع على القول بالصحيح 

الكتاب : مصابيح الاُصول - الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4632


تصوير الجامع على القول بالصحيح

ومن هنا ذهب صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(1) إلى أنّها موضوعة للجامع

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كفاية الاُصول : 24 .

ــ[107]ــ

الصحيح دون الأعم ، إذ لا جامع بين أفراد الأعم من الصحيح والفاسد . ولأجل هذا صار في صدد تصوير الجامع على القول بالصحيح .

وتقريبه : أنّ المستفاد من الأدلّة أثر واحد للصلاة ، وهو النهي عن الفحشاء والمنكر ، وهو إنّما يتأتّى من الأفراد الصحيحة دون الفاسدة . وبناءً على أنّ الواحد لا يصدر إلاّ من الواحد ، نستكشف من وحدة الأثر وحدة المؤثّر ، فندّعي أنّ جميع أفراد تلك الصحيحة ترجع إلى قدر مشترك جامع بين الأفراد كلّها ، يكون هو المؤثّر والمحصّل لذلك الأثر ، وهو النهي عن الفحشاء . فإذا ثبت بمقتضى هذه القاعدة وحدة المؤثّر ، كان ذلك هو المسمّى بالصلاة ، ولا يهمّنا معرفة ذلك الجامع بشخصه بل تكفي الإشارة إليه ولو بأثره ، ولا حاجة للوقوف على حقيقته بعد أن استكشفنا وجوده من وحدة الأثر .

والجواب عن ذلك يقع بوجوه :

الأول : أنّه بعد تسليم القاعدة في نفسها فإنّما يتم ذلك في الواحد الشخصي البسيط ، أو الواحد النوعي ، لا الواحد في العنوان ، والنهي عن الفحشاء من القسم الأخير .

بيان ذلك : أنّ الفحشاء من المفاهيم الانتزاعية التي كان منشأ انتزاعها مختلفاً جدّاً ، فهي تحصل من الغيبة تارةً ، ومن الكذب اُخرى ، ومن الزنا ثالثة ، ومن شرب الخمر رابعة . والجامع لهذه الاُمور المختلفة عنوان واحد وهو الفحشاء ، فإذا كان الأمر كذلك فمن الممكن أن تكون صلاة الصبح ناهية عن فحشاء خاصّ وصلاة الظهر ناهية عن فحشاء آخر ، بل يمكن أن يكون بعض أجزاء صلاة واحدة ناهياً عن فحشاء وبعضها الآخر ناهياً عن فحشاء اُخرى ، وهكذا . وإذا تعدّد الأثر فلا محالة يتعدّد المؤثّر تبعاً له ، ويبطل الاحتياج إلى الجامع .

الثاني : أنّ الأثر المذكور إذا فرض أثراً للجامع والطبيعة فلابدّ من إلغاء

ــ[108]ــ

تأثير الخصوصيات ، مع أنّنا نجد للخصوصيات دخلا في تحصيل الأثر ، فإنّ صلاة الصبح بقيد أنّها ركعتان تنتهيان بالتسليم تكون مؤثّرة للنهي عن الفحشاء ، فلو انضم إلى ذلك ركعة اُخرى لما حصل المطلوب . وهكذا صلاة المغرب ، وصلاة الآيات . وإذا ثبت التأثير للخصوصيات في تحصيل الأثر وهو النهي عن الفحشاء فلابدّ وأن لا يكون الأثر أثراً للجامع .

الثالث : أنّ الجامع الذي استكشف من أثره إمّا مركّب وإمّا بسيط ، والأول باطل ، لأنّ لازم الأمر بالمركّب مجموعاً عدم حصول الأثر لو نقص العمل عن المجموع ، مع أنّنا نجد وجداناً تحقّق الأثر نفسه في الناقص عن المركّب ، كصلاة المضطر .

والثاني غير معقول ، إذ كيف يكون اللفظ موضوعاً لجامع بسيط منتزع من عدّة مقولات مختلفة متباينة . فالنيّة من الحالات النفسية ، والقراءة من الكيف المسموع ، والركوع والسجود من مقولات الوضع ، وهكذا بقيّة أجزاء الصلاة .

مضافاً إلى تقيّد صلاة الصبح بعدم زيادة الركعتين ، والمغرب بعدم زيادة الثلاث ، ومع الاختلاف المذكور كيف يمكن انتزاع جامع من المقولات المختلفة بحيث ينطبق عليها انطباق الكلّي على مصاديقه .

الرابع : أنّ الجامع الذي أمكن تصويره بين الأفراد الصحيحة وأصبح اللفظ مجعولا له ، لابدّ من أن يلتفت العرف إليه حين يستعمل كلمة الصلاة في سائر الموارد  ، ولا ريب أنّ القسم الكثير من العرف لا يتوصّل إلى إدراك الجامع ولو من طريق أثره الذي هو النهي عن الفحشاء والمنكر .

الخامس : أنّ ما يكون محصّلا للنهي عن الفحشاء والمنكر هو العمل الجامع للأجزاء والشرائط بقيد عدم المزاحم للأمر به ، وعدم النهي عنه ، ووجود التقرّب به  . والذي محل التسمية للفظ هو الصحيح من جهة تمامية الأجزاء والشرائط فقط

ــ[109]ــ

من دون ملاحظة عدم المزاحم ، وعدم النهي ، ووجود التقرّب ، إذ هذه ليست دخيلة في المسمّى . فما هو مؤثّر للنهي عن الفحشاء ليس بمبحوث عنه في المقام ، وما هو مبحوث عنه فعلا الجامع الاقتضائي ، وهو غير مؤثّر للنهي عن الفحشاء .

وكيف كان ، فتصوير الجامع المنطبق على خصوص الأفراد الصحيحة ـ كما جاء في الكفاية ـ غير ممكن .

قد يقال : إنّ الجامع إذا لم يكن هو المؤثّر في النهي عن الفحشاء فما هو المؤثّر إذن ؟ وكيف يتحقّق ذلك النهي ؟

والجواب : أنّ الأثر يحصل من أحد سببين ، وربما اشتركا معاً في التأثير :

الأول : حصوله من أجزائها ، فإنّ الصلاة قد اشتملت على مجموعة مؤلّفة من الذكر والركوع والسجود وغيرها .

أمّا الذكر فأهمّه قراءة الحمد ، والمصلّي حين يبدأ بالحمد لربّه بقوله : (الْحَمْدُ للهِِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يلتفت إلى أنّ هناك صانعاً حكيماً قادراً على كل شيء ، وهو في منتهى العدالة ، إلى آخر بقية الصفات الثبوتية ، ثمّ يسترسل في قراءته حتّى يصل إلى الآية الشريفة (مَـلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) فيدرك أنّ هناك يوماً للحساب ، يحضر العبد فيه ليجيب عن أسئلة ترتبط بأفعاله وأعماله التي صدرت منه في حياته ، وإذا ما بدا له الإنكار فهناك شهود ضبط عليه كاليد والرجل واللسان الخ .

وإذا ما مضى في قراءته ، وبلغ الفقرات الاُخر مثل : (اهْدِنَا الصِّرَطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) الخ ، وقف على عرض تاريخي مرّ في العصور السابقة ، وهو أنّ هناك اُمّة من الاُمم المتقدّمة قامت بأعمال لا ترضي الله سبحانه وتعالى ، فكان مصيرها الخيبة والخسران والسخط من الله عليها وجزاؤها العقاب . بينما نرى اُمّة اُخرى عملت بما يرضي الله عزّوجلّ ، لم تخالفه طرفة عين أبداً ، فنالت النعيم الأوفر ، والسعادة الأبدية التي هي رضا الله تعالى .

ــ[110]ــ

وهنا يطلب العبد منه تعالى الهداية إلى الصراط المستقيم ، صراط هؤلاء الذين أنعم عليهم بمرضاته ، لا صراط اُولئك الذين غضب عليهم ، فأبعدهم عن نيل عفوه ورضاه .

ولا ريب أنّ المصلّي حين يتلو قراءة الحمد ، ويلتفت إلى تلك المضامين التي وردت في الآيات الشريفة ، تحصل له في نفسه قوّة زاجرة له عن الاقتحام فيما لا يرضي الله تعالى من المعاصي والاُمور المنكرة .

أمّا الركوع والسجود فالمناسب فيهما كونهما للخضوع والخشوع ، وإزالة التكبّر والطموح في النفس ، وذلك عندما يرى العبد نفسه العالية تخضع لإله يعبده البشر وسائر المخلوقات أجمع . والذي يدلّنا على ذلك ما أفادته الروايات الشريفة(1) من أنّ العرب في بدو الإسلام عندما كلّفوا بالصلاة طلبوا من النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يرفع عنهم هذا النوع من التكليف ، وألزموا أنفسهم بامتثال كل ما يجعله بدلا عنه ، بالنظر إلى ما يحصل في أنفسهم من الذلّة والخضوع حال الركوع والسجود ، فكانت الصلاة باعتبار أجزائها محصّلة للنهي عن الفحشاء والمنكر .

الثاني : باعتبار شرائطها المقيّدة بها ، فإنّ من جملة شرائط الصلاة إباحة المكان واللباس وغير ذلك ، فإنّ من يرى اشتراط الصلاة بإباحة المكان واللباس يعلم أنّ المغصوب لا يسمح الشارع المقدّس في التصرّف فيه ، وأنّ التعدّي على حقوق البشر وأكل أموالهم بلا رضاً منهم غير مرضي لدى الشارع الأعظم . وهكذا اشتراط الطهارة في الصلاة ، وإباحة الماء .

وكم أثّر إدراك هذه الاُمور في الكثير من المصلّين فتجنّبوا الوقوع في أمثال هذه المعاصي ممّا يستلزم النجاسة أو الغصبية وما شابههما .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ كنز العمّال 31 : 126 / 36400 .

ــ[111]ــ

وقد ثبت بهذا أنّ الصلاة باعتبار أجزائها وشرائطها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، لا باعتبار الجامع بين أفرادها .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net