تصوير الجامع على القول بالأعم
ويتصوّر الجامع على الأعم من وجوه :
الأول : هو أن يقال(1): إنّ الصلاة موضوعة للأركان وحدها ، أمّا بقية الأجزاء والشرائط فهي معتبرة في المأمور به دون المسمّى ، وهذا جامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة .
وقد أورد شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(2) على هذا بإيرادين :
الأول : أنّ تلك الأجزاء والشرائط إن فرضت غير دخيلة في المسمّى دائماً فلازمه أن يكون استعمال اللفظ فيها وفي الأركان استعمالا مجازياً لعلاقة الجزء والكل ، مع أنّ القائل بالأعم لا يدّعي هذا المعنى ، بل يدّعي وضع الصلاة بازاء جامع يصدق على كل من الصحيح والفاسد . وإن فرضت حال وجودها دخيلة في المسمّى وحال عدمها خارجة عنه ، فلازمه كون شيء واحد مقوّماً للماهية تارةً ، وغير مقوّم اُخرى ، وهو محال .
الثاني : أنّ الأركان التي يدّعى وضع اللفظ لها مختلفة بحسب مراتبها فالركوع في حالة الاختيار غيره في حالة الاضطرار ، وهو غيره في حالة الإيماء الخ ، وهكذا السجود وبقية الأركان ، وحيث كانت الأركان مختلفة المراتب فلابدّ من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) القائل المحقّق القمي في قوانين الاُصول كما سيأتي التصريح به في ص111 ، لاحظ القوانين : 43 .
(2) أجود التقريرات 1 : 61 ـ 62 .
ــ[112]ــ
اعتبار جامع يجمع أفرادها ، ويكون هو الموضوع له اللفظ . وعليه فليست ذات الأركان قد وضع لها اللفظ ، بل الجامع بينها هو الموضوع له.
وذكر صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(1) إيراداً آخر ، وهو أنّ الصلاة لو كانت موضوعة للأركان لكانت التسمية دائرة مدارها ، وبالضرورة نجد صدق الصلاة تامّاً مع الإخلال ببعض الأركان . وكذا بالعكس نجد عدم الصدق مع تمامها مع الإخلال بجميع الأجزاء والشرائط .
والظاهر أنّ ما جاء به المحقّق القمي (قدّس سرّه) من دعوى وضع الصلاة للأركان خاصّة هو الصحيح ، وذلك لأنّ المركّبات الاعتبارية وحدةُ وجودها إنّما تكون بنظر المعتبر ، وهي قائمة بنفس الاعتبار .
ولا ريب أنّ الصلاة مركّب اعتباري ، وقد لاحظ الشارع مجموع تلك الاُمور الخاصّة المستقلّة ، واعتبرها شيئاً واحداً مستقلا ، ولو لاحظنا أجزاء ذلك المركّب لوجدنا لكل جزء استقلالا . فالنيّة من الكيفيات النفسانية ، والقراءة من الكيف المسموع ، والركوع من مقولة الوضع . وكل واحد منها له ماهية تغاير ماهية الثاني ووجود يغاير وجوده . فالأجزاء مختلفة . إلاّ أنّ جميعها يمكن فرض وحدة لها في عالم الاعتبار .
وهذا المعتبر الذي قوامه نفس الاعتبار لا مانع من أن تؤخذ مقوّماته على نحو اللاّ بشرط ، ويكون غير المقوّم من الأجزاء والشرائط دخيلا في المسمّى عند وجوده ، وخارجاً عند عدمه . وأمّا مورد النقصان فيوجب عدم الصدق لعدم التسمية لذلك.
مثلا (الدار) مركّب اعتباري ، يتركّب من حقائق مختلفة : الجص ، والطابوق
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 25 .
ــ[113]ــ
والأخشاب وغيرها . ويعتبر فيه اُمور ثلاثة : وجود الجدران ، والساحة والغرف ولو واحدة . وقد اُخذت هذه الاُمور لا بشرط من حيث الزيادة ، فلو اُضيف إلى ذلك حمّام ، وسرداب ، ومطبخ . فهي لا تزال داراً ، وليست داراً وزيادة . نعم لو فقد الجدار أو بعض ما اُخذ مقوّماً لما صحّ الصدق .
وما نحن فيه كذلك ، فإنّ المعتبر في قوام الصلاة نفس الأركان لا بشرط من حيث الزيادة ، فلو اُضيف إليها شيء آخر لما أوجب انعدام الصدق ، والوجه فيه : ما عرفت من أنّها من الماهيات الاعتبارية التي يكون اختيارها بيد المعتبر ، ولا مانع من أن تكون الصلاة مطلقة بالإضافة إلى الأجزاء الزائدة على الأركان .
وبهذا البيان لا يرد علينا شيء ممّا تقدّم :
أمّا الأول : فلأنّ الاستعمال في الجميع لا يكون مجازاً ، بل هو حقيقة ، لما فرضنا من أنّ المسمّى أمر اعتباري ، ومركّب من عدّة اُمور على نحو اللاّ بشرطية وزيادة بقية الأجزاء والشرائط كنقيصتها لا تضرّ في الصدق ، ولا تصيّره مجازاً .
وبهذا البيان يندفع الشقّ الثاني من الإشكال ، من أنّ كل جزء يلزم أن يكون مقوّماً تارة وغير مقوّم اُخرى ، إذ أنّ ذلك إنّما يلزم إذا اُخذ على نحو بشرط شيء ـ وجودياً كان أم عدمياً ـ دون اللاّ بشرطية كما ذكرناه .
وأمّا الثاني : فلأنّ ما ادّعاه (قدّس سرّه) من ثبوت اختلاف مراتب الأركان أمر صحيح ، إلاّ أنّه غير محتاج إلى تصوير جامع أصلا ، بل الملحوظ في مقام الركنية أحد هذه المراتب . فالحلوى ـ مثلا ـ المركّبة من السكّر وشيء من الجزر ، أو الطحين ، يصحّ لنا أن نقول : إنّها عبارة عن السكّر وأحد هذه الاُمور ، ولا يلزم من ذلك محذور .
وأمّا الثالث : فأحد شقّي الإشكال واضح البطلان ، والثاني محتاج إلى البيان :
ــ[114]ــ
أمّا الشقّ الأول ـ وهو دعوى عدم صدق الصلاة مع تمامية الأركان عند الإخلال ببقية الأجزاء والشرائط ـ : فهو واضح البطلان ، حيث نرى بالوجدان صدق الصلاة شرعاً ـ فضلا عن العرف ـ في من كبّر في صلاة وركع وسجد وسلّم متطهّراً ، ولكنّه لم يأت بشيء من بقية الأجزاء والشرائط ، إمّا نسياناً فيما يحكم معه بصحّة الصلاة لحديث (لا تعاد)(1) أو غيره ، وإمّا اضطراراً لعدم القدرة ، فإنّ الصلاة لا تسقط بحال . فإذا حكم الشارع بصحّة ذلك فكيف تصحّ دعوى أنّ الصلاة لا تصدق عليه حقيقة ؟
وأمّا الجواب عن الشقّ الثاني من الإيراد فهو يحتاج إلى تفصيل وبسط في الكلام ، وحاصله : أنّ المركّبات الاختراعية الاعتبارية لا يعرف حقيقتها من أجزائها وشرائطها وما به قوامها من الاُمور الوجودية والعدمية إلاّ بالمراجعة إلى مخترعها وواضعها ، وليست من الاُمور الوجدانية لنستكشفها بالوجدان .
ونحن إذا راجعنا الشارع في استكشاف ما اعتبره في حقيقة الصلاة وقوامها نرى أنّ التكبيرة معتبرة في حقيقتها ، وفقدانها يوجب انتفاء الصلاة ، وهذا لما ورد في جملة من الأخبار من أنّ التكبيرة افتتاح الصلاة(2). نعم لم يشتمل عليها حديث لا تعاد ، ومقتضاه عدم اعتبارها في حقيقة الصلاة . إلاّ أنّ الصحيح اعتبارها كما عرفت .
ولعلّ عدم ذكرها في الحديث ـ والله العالم بحقيقة الحال ـ بلحاظ أنّ الإعادة التي هي وجود ثان للشيء تتوقّف على إيجاد ذلك الشيء أوّلا وتحقّقه ولو فاسداً ومع الإخلال بالتكبيرة لم يتحقّق وجود للصلاة رأساً ، حيث لم يأت بافتتاحها
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 4 : 312 / أبواب القبلة ب9 ح1 .
(2) الوسائل 6 : 10 / أبواب تكبيرة الإحرام ب1 ح4 ، 7 ، 12 ، ب2 ح1 ، 3 .
ــ[115]ــ
بمقتضى الأخبار المتقدّمة ، ومعه لا تصدق الإعادة على إتيانها ثانياً .
ثمّ إذا نظرنا إلى الركوع والسجود نرى اعتبارهما أيضاً في حقيقة الصلاة ، لما ورد من أنّ الركوع والسجود كل منهما ثلث الصلاة(1).
وأمّا التسليمة ففي اعتبارها في قوام الصلاة خلاف بين الأعلام ، ففي العروة عدم كونها مقوّمة للصلاة ، فلا تبطل بنقصانها سهواً(2). وذهب شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه) في هامشها(3) إلى البطلان ، وأنّها معتبرة في حقيقتها ، وهذا لما ورد في جملة من الروايات من أنّ التسليمة اختتام الصلاة(4)، وعليه فلو وقع شيء من منافيات الصلاة قبل التسليمة ولو مع نسيانها فقد وقع في أثنائها فتفسد ، هذا .
ولكن مقتضى حديث (لا تعاد) عدم اعتبار التسليمة في حقيقة الصلاة ، لعدم ذكرها في الحديث . ومن هنا ذكرنا في تعليقة العروة(5) تبعاً للماتن (رحمه الله) عدم كون التسليمة من مقوّمات الصلاة ، تقديماً للحديث على الأخبار المتقدّمة من جهة الحكومة . وعليه فأجزاء الصلاة منحصرة في التكبيرة والركوع والسجود .
وأمّا شرائطها فالمعتبر منها في قوام الصلاة ـ عند الشارع ـ هو الطهارة ، لما ورد من أنّ الطهور ثلث الصلاة(6)، وقد علمنا بالكتاب والسنّة أنّه أعم من الطهارة المائية والترابية .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل 6 : 310 / أبواب الركوع ب9 ح1 .
(2) العروة الوثقى 1 : 514 فصل في التسليم .
(3) العروة الوثقى (مع تعليقات عدّة من الفقهاء) 2 : 593 .
(4) الوسائل 6 : 415 / أبواب التسليم ب1 ح2 ، 4 .
(5) راجع شرح العروة الوثقى 15 : 319 ، العروة الوثقى 1 : 514 المسألة ] 1661 [ .
(6) الوسائل 6 : 310 / أبواب الركوع ب9 ح1 .
ــ[116]ــ
وأمّا الاستقبال فقد ورد في اعتباره في الصلاة أنّه « لا صلاة إلاّ إلى القبلة »(1). ولكن الأظهر أنّ الصلاة لا تتقوّم به ، لصحّتها فيما إذا وقعت إلى غير القبلة في موارد النسيان والاشتباه والجهل ، بل مع الاستدبار أيضاً كما عند الاضطرار ، وفي النوافل .
ومن مجموع ذلك يستكشف عدم تقوّم طبيعي الصلاة بالاستقبال ، فإنّه كغيره من الاُمور الواجبة في الصلاة معتبر في المأمور به ، لا في حقيقتها .
فعلى هذا المعتبرُ في تحقّق الصلاة عند مخترعها هو التكبيرة ، والركوع والسجود ، والطهور ، والتسليمة ، على خلاف في الأخير . فمع وجودها تصدق الصلاة حقيقة ، صحيحة أو فاسدة ، ومع انتفاء شيء منها رأساً ينتفي الصدق على وجه الحقيقة . ولا مضايقة في الصدق مجازاً ومع العناية . ــــــــــــــ
(1) الوسائل 4 : 300 / أبواب القبلة ب2 ح9 .
|