تعريف العدالة 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الاول:التقليد   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 18438


    تعريف العدالة

   (1) وقع الكلام في أن العدالة المعتبرة في جملة من الموارد كالتقليد والشهادة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بل عبارة عن الاستقامة في جادة الشرع وعدم الانحراف عنها يميناً وشمالاً .

(2) راجع ص 171  .

ــ[211]ــ

والقضاء والطلاق وإمام الجماعة وغيرها ما حقيقتها ؟ واختلفت كلماتهم في بيانها إلى أقوال :

   منها : ما نسب إلى المشهور بين المتأخرين من أن العدالة : ملكة أو هيئة راسخة ، أو حالة ، أو كيفية باعثة نحو الاطاعة بالاتيان بالواجبات وترك المعاصي والمحرمات .

   ومنها : أن العدالة هي : الاتيان بالأعمال الخارجية من الواجبات واجتناب المحرمات الناشي عن الملكة النفسانية ، فهي على ذلك أمر عملي وليست من الصفات النفسانية ، وإن كان ذلك العمل مسبباً عن الصفة النفسانية وباقتضائها ، فهذا التعريف ناظر إلى المسبب والمقتضى كما أن التعريف السابق ناظر إلى السبب والمقتضي ، بمعنى أن العدالة ـ على التعريف المتقدم ـ هو السبب والمقتضي للعمل ، وعلى هذا التعريف هو العمل المسبب والمقتضى للملكة النفسانية التي هي السبب ، هذا .

   ويمكن أن يقال : التعريفان راجعان إلى شيء واحد لأن الملكة بما هي ، ليست هي العدالة الّتي تعتبر في جملة من الموارد في الشريعة المقدسة ، بل المعتبر هي الملكة المتلبسة بالعمل أي المقترنة بالاتيان بالواجبات وترك المحرمات ، وذلك لأن ارتكاب المعصية في الخارج لغلبة الهوى على الملكة يستتبع الفسق من غير نكير ، وبناءً على أن العدالة هي الملكة بما هي ، يلزم اجتماع العدالة والفسق في شخص واحد في زمان واحد ، ومن هنا يصح أن يقال : العدالة هي الأعمال الخارجية الناشئة عن الملكة النفسانية . فالمراد بالتعريفين شيء واحد وإن كان أحدهما ناظراً إلى بيان اعتبار التلبس بالعمل دون الآخر .

   ومنها : أن العدالة : نفس الأعمال الخارجية من فعل الواجبات وترك المحرمات من دون اعتبار اقترانها بالملكة أو صدورها عنها ، فالعدالة هي الاستقامة عملاً في جادة الشرع وعدم الجور والانحراف عنها يميناً ولا شمالاً .

   ومنها : أن العدالة هي : الاسلام وعدم ظهور الفسق في الخارج ، وعلى ذلك لا بدّ من الحكم بعدالة أكثر المسلمين ، وإن لم نعاشرهم بوجه ، وذلك لاسلامهم وعدم ظهور الفسق منهم عندنا .

   ومنها : أن العدالة هي : حسن الظاهر فحسب ، وعلى ذلك لا يمكننا الحكم بعدالة

ــ[212]ــ

أكثر المسلمين كما على التعريف المتقدم لتوقفه على إحراز حسن الظاهر، المتوقف على المعاشرة في الجملة ولو برؤيته آتياً بالواجبات وغير مرتكب للمعاصي مرتين أو ثلاثاً أو أكثر ، هذا .

   والصحيح أن حسن الظاهر والاسلام مع عدم ظهور الفسق ، معرّفان للعدالة لا أنهما العدالة نفسها ، لامكان أن يكون الفاسق ـ في أعلى مراتب الفسق باطناً ـ متحفظاً على جاهه ومقامه لدى الناس ، فهو مع أنه حَسَن الظاهر محكوم بالفسق في الواقع لارتكابه المعاصي ، ولا مساغ للحكم بعدالة مثله بوجه لقوله عزّ من قائل : (أولئك هم الفاسقون ) (1) مشيراً إلى مرتكبي المعاصي ولو في الباطن . وكذلك الحال في الاسلام وعدم ظهور الفسق ، فإن هذا العنوان بنفسه يدلنا على أن الفسق أمر واقعي قد يظهر وقد لا يظهر ، فمع أن المكلف فاسق في الواقع لارتكابه المعصية في الباطن كيف يمكن أن يكون عادلاً من جهة عدم ظهور الفسق منه . إذن هما طريقان ومعرفان للعدالة لا أنهما العدالة نفسها، ويأتي الكلام على معرّف العدالة وطريق استكشافها قريباً إن شاء الله .

   وعلى الجملة القولان الأخيران ساقطان ، ومعه لا بدّ من التكلم في أن العدالة هي الأعمال الخارجية من دون اعتبار صدورها عن الملكة النفسانية ، أو أنه يعتبر في العدالة أن تكون الأعمال صادرة عن الملكة ؟

   فنقول : لم تثبت للعدالة حقيقة شرعية ولا متشرعية ، وإنما هي بمعناها اللغوي أعني الاستقامة وعدم الجور والانحراف ، وهي قد تستند إلى الاُمور المحسوسة فيقال : هذا الجدار عدل أو مستقيم أو أن العصا مستقيم ، فتكون العدالة والاستقامة من الاُمور المحسوسة . وقد تسند إلى الاُمور غير المحسوسة فيراد منها الاستقامة المعنوية وذلك كالعقيدة والفهم والأخلاق ، فيقال : عقيدة فلان مستقيمة أي غير مشوشة أو أن فهمه مستقيم في قبال اعوجاجه ، أو أخلاقه مستقيمة أي لا إفراط فيها ولا تفريط . وقد تسند إلى الذوات فيقال : زيد عادل ومعناه أنه مستقيم في الخروج عن عهدة التكاليف المتوجهة إليه ، وحيث إن الشارع يراه مستقيماً في جادة الشرع فهو عادل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) النور 24 : 4 ، الحشر 59 : 19 .

ــ[213]ــ

شرعاً وغير منحرف عن جادته . فالعدالة المطلقة ـ وهي المنسوبة إلى الذوات ـ هي : الاستقامة العملية كما يقتضيه معناها اللغوي مع قطع النظر عن الروايات .

   والمتحصل : أن العدالة ليست لها حقيقة شرعية وإنما استعملت في الكتاب والأخبار بمعناها اللغوي أعني الاستقامة وعدم الاعوجاج والانحراف وغاية الأمر أن موارد استعمالها مختلفة . كما ظهر أن العدالة ليست من الأوصاف النفسانية ، وإنما هي صفة عملية لأنها في اللغة كما عرفت هي الاستقامة وعدم الجور ، وفي الشرع هي الاستقامة في جادته . وإلى ذلك اُشير في جملة من الآيات المباركة كما في قوله عزّ من قائل : (فإن خفتم أن لا تعدلوا ) (1) وقوله : (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النّساء ) (2) لإضافة العدالة فيهما إلى الذات بلحاظ استقامتها في جادة الشرع وتطابق أعمالها لأحكامه .

   وتوضيح ما ذكرناه : أن ترك المحرمات والاتيان بالواجبات قد يستند إلى عدم المقتضي لفعل الحرام أو ترك الواجب ، كما إذا لم تكن له قوة شهوية أو غضبية باعثة إلى فعل الحرام أو ترك الواجب ، ولم تكن له رغبة في طبعه إلى إيجاده كما في أكل القاذورات ونحوها من المحرمات ، فإنه أمر قد يتفق فلا تكون للمكلف رغبة إلى فعل الحرام . وهذا لا بدّ من أن يفرض في المحرمات أو في الواجبات غير العبادية ، لعدم كفاية الاتيان بالواجب لا عن مقتض وداع إلهي يدعو إليه في العبادات ، والوجه فيه غير خفي .

   ثمّ إن ذلك مجرّد فرض لا وقوع له أو لو كان متحققاً فهو من الندرة بمكان، وذلك لأن البشر لا يخلو عن القوة الغضبية والشهوية وهما داعيتان له نحو الحرام لا محالة على الاختلاف في مراتبهما . وكيف كان إذا فرضنا أن ترك الحرام مستند إلى عدم المقتضي لفعله لم يتحقق بذلك العدالة بوجه ، لأن المكلف وإن لم ينحرف حينئذ عن جادة الشرع ، إلاّ أنه لم يسلك جادته برادع عن المحرمات ، وإنما سلكها لا عن مقتض لارتكابها وعدم موافقة المحرّم شيئاً من قواه ، بحيث لو كان له مقتض لفعلها

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) النساء 4 : 3 .

(2) النساء 4 : 129 .

ــ[214]ــ

لارتكبها ، فمثله ليس بسالك لجادة الشرع وإن لم يكن منحرفاً عنها أيضاً ، فهو في الحقيقة خارج عن موضوع العدالة والفسق .

   أما أنه ليس بعادل فلأنه لم يسلك جادة الشرع برادع عن المحرمات والانحرافات وأما أنه ليس بفاسق فلأنه لم يخرج عن جادة الشرع بفعل المحرمات .

   وقد يكون ترك المحرمات وفعل الواجبات مستنداً إلى الرادع عن المعصية مع وجود المقتضي لارتكابها ، والرادع عن ارتكاب المعصية مع وجود المقتضي لفعلها قد يكون تسلّط القوة العاقلة على العقل العملي ، بمعنى أن العقل قد يكون مسيطراً على النفس سيطرة تامة فيلاحظ الأعمال الّتي يريد المكلف إصدارها ، فيصدر ما هو محبوب منها لله سبحانه فلا يصدر من المكلف غيره أبداً ، كما حكى ذلك عن السيد الرضي (قدّس سرّه) وأنه لم يرتكب مباحاً طيلة حياته فضلاً عن الحرام والمكروه والمكلف في هذه الصورة وإن كان سالكاً لجادة الشرع أتم سلوك ، إلاّ أن سلوكه هذا لم يستند إلى خوفه من العقاب وإلاّ لم يكن له أيّ مانع من أن يرتكب المباح والمفروض أنه لا يرتكبه وإنما يرتكب ما هو محبوب لدى الله عزّ وجلّ ومثل ذلك من السلوك لا يعتبر في موضوع الأحكام الشرعية قطعاً ، لاستلزامه تعطيل الأحكام الشرعية في جملة من المقامات فإنه يختص بالأوحدي ، لوضوح أن العدالة بهذا المعنى تلو مرتبة العصمة ، فلا يراد بالعدالة المعتبرة في إمام الجماعة أو الشاهد أو الفتوى أو غيرها مما يعتبر فيه العدالة هذا المعنى بتاتاً .

   وقد يكون الرادع عن ارتكاب المعصية مع وجود المقتضي لها رجاء الثواب أو الخوف من العقاب ، كما لعلّه الغالب في آحاد المكلفين لأنهم إنما يجتنبون المعاصي خوفاً من عذابه سبحانه ، وهذا المعنى من العدالة هو المراد منها في موضوع جملة من الأحكام الشرعية ، فمن سلك جادة الشرع برادع الخوف من العذاب أو رجاء الثواب مع فرض وجود المقتضي له للانحراف ، فهو مستقيم في الجادة ومصداق للعادل شرعاً ولغة ، هذا .

   ثم إن الرادع عن ارتكاب المحرّم إذا لم يكن هو الخوف أو الرجاء ، فلا يخلو إما أن يكون أمراً محرّماً في نفسه كالرياء ، لأنه إذا أتى بالواجب التعبدي بداعي الرياء وإراءة

ــ[215]ــ

عمله للناس لكي يحتسب من العاملين بالوظائف الشرعية والمنقادين لأوامر الله سبحانه ونهيه ، فقد عمل محرّماً لأن الرياء شرك عملي مبغوض لدى الله سبحانه ومن البديهي أن ذلك لا يكون من العدالة في شيء فإنه إنما أتى بما أتى به أو ترك ما تركه برادع الرياء ولولاه لترك الواجب ، وقد فرضنا أن الرياء محرّم ومرتكبه محكوم بالفسق والانحراف عن جادة الشرع . وإما أن يكون أمراً مباحاً ، كما إذا ردعته عن ارتكاب المحرم شرافته وجاهه لأنه لو ارتكبه سقط عن أعين الناس ، والمكلف وقتئذ وإن لم ينحرف عن جادّة الشرع ولم يرتكب الحرام ، إلاّ أنه لم يسلكها بداع الخوف وسلوك مسلك العبودية ، وإنما سلكها تحفظاً على شؤونه وجاهه ، فهذه الصورة أيضاً خارجة عن موضوعي الفسق والعدالة والمكلف حينئذ ليس بعادل ولا بفاسق .

   فالمتحصل : أن العدالة هي : الاستقامة في جادة الشرع بداعي الخوف من الله أو رجاء الثواب ، وهي كما ترى صفة عملية وليست من الأوصاف النفسانية بوجه لوضوح أنها هي الاستقامة في الجادة بداعي الخوف أو رجاء الثواب ، وليس هناك ما يكون ملكة وصفة نفسانية بعد ظهور أن الخوف ليس هو العدالة يقيناً حتى يتوهّم أنها من الصفات النفسانية .

    بقى في المقام أمران

   أحدهما : أن الاستقامة بالمعنى المتقدم يعتبر أن تكون مستمرة بأن تصير كالطبيعة الثانوية للمكلف ، فالاستقامة في حين دون حين كما في شهر رمضان أو المحرّم أو غيرهما دون بقية الشهور ليست من العدالة في شيء ، فإن المكلف لا يكون مستقيماً بذلك في الجادة ولا سالكاً لها بداع الخوف أو رجاء الثواب . وبعبارة اُخرى أن المكلف وقتئذ لا يمكن الوثوق باستقامته ، لأنه قد يستقيم وقد لا يستقيم ، مع أن المعتبر في العادل أن يوثق بدينه ولا يتحقق ذلك إلاّ بالاستمرار في الاستقامة ، وكذلك الحال فيما إذا استقام بالإضافة إلى بعض المحرمات دون بعض ، ولعلّ ما ذكرناه من اعتبار الاستمرار في فعل الواجبات وترك المحرمات هو الّذي أراده القائل بالملكة ولم يرد أنها ملكة كسائر الملكات ، والله العالم بحقيقة الحال .

ــ[216]ــ

   ثانيهما : أن الاستقامة مع الاستمرار عليها الّتي فسّرنا بها العدالة المعتبرة في جملة من الموارد ، لا يضرها ارتكاب المعصية في بعض الأحيان لغلبة الشهوة أو الغضب فيما إذا ندم بعد الارتكاب ، لأنه حال المعصية وإن كان منحرفاً عن الجادة إلاّ أنه إذا تاب رجع إلى الاستقامة ، وقد قال عزّ من قائل في توصيف المتقين : (إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا )(1) فالشيطان قد يمس العادل كما يمس غيره ، وقد قيل : إن الجواد قد يكبو ، إلاّ أنه إذا تذكر ندم ورجع إلى الاستقامة والعدل .

   والمتحصّل : أن الاستقامة الدائمية بمعنى عدم صدور الحرام من المكلف منذ بلوغه إلى آخر عمره غير معتبرة في العدالة . كما لا تعتبر فيها الاستقامة الخارقة للعادة ، كما إذا فرضنا أن الكذبة الواحدة تترتب عليها جملة كثيرة من المنافع الدنيوية والاُخروية ، وفرضنا أيضاً أن النبي أو الوصي (عليه السّلام) أخبرنا أن الله لا يعاقب المكلف بتلك الكذبة إذ يشفع له الشفعاء يوم القيامة ، فإنه لا يعتبر ترك مثل ذلك في العدالة لاختصاصه كسابقه بقليل من المكلفين بل لا يتحققان إلاّ في الأوحدي ، ولا يحتمل أن تكون العدالة بهذا المعنى معتبرة في موضوعات الأحكام الشرعية لاستلزامه التعطيل كما مرّ ، هذا .

   وقد ذهب شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) (2) وجمع ممن تقدمه وتأخر عنه إلى أن العدالة زائداً على ما بيّناه من العمل والاستقامة في سلوك جادة الشرع ، يعتبر فيها أن يستند العمل إلى الملكة النفسانية بأن تدعو المكلف إليه وتبعثه على ملازمة الطاعة وترك المعصية ، فالعمل المجرّد من الملكة لا يكون من العدالة في شيء ، وحيث إن الملكة من الصفات النفسانية والاُمور غير المحسوسة فلا مناص من أن نستكشفها بما جعله الشارع معرّفاً إلى وجودها وكاشفاً عنها من حسن الظاهر أو غيره ، وهذا قد استدل عليه بوجوه :

   الأوّل : أن الشك في أن الملكة معتبرة في العدالة أو ليست كذلك من الشك في سعة مفهوم العدالة وضيقه وتردده بين السعة والضيق ، ولا مناص معه من الأخذ بالمقدار

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأعراف 7 : 201 .

(2) رسالة في العدالة : 327 .

ــ[217]ــ

المتيقن منه في ترتب الآثار عليه وهو المضيّق ، وأما الزائد على ذلك أعني الموسّع فلا وذلك للشك في أن الآثار المرغوبة من العدالة هل يترتب عليه في الشريعة المقدسة أو لا ، ومقتضى الأصل عدم ترتبها عليه . إذن فجواز الايتمام في صلاة الجماعة ونفوذ القضاء والشهادة وغيرها من آثار العدالة إنما تترتب على ترك المحرّمات والاتيان بالواجبات إذا كان الباعث إليهما هو الملكة النفسانية ، وأما مجرد ترك الحرام أو الاتيان بالواجب من دون ملكة تدعو إليهما فمقتضى الأصل عدم ترتب الآثار عليه .

   ويرد على هذا الوجه :

   أولاً : أن العدالة ليست من المفاهيم المجملة المرددة بين السعة والضيق حتى يجب الأخذ بالمقدار المتيقن منها كما ذكر ، وإنما هي مفهوم مبيّن لما تقدم ويأتي أيضاً من أنها بحسب اللغة والأخبار هي الاستقامة العملية في جادة الشرع وأن هذا هو الّذي اُخذ في موضوع الأحكام الشرعية وهو مفهوم موسع ، فإذا شككنا في تقييده بالملكة فلا محالة ندفع احتمال التقييد بالأصل .

   وثانياً : أن ما أفاده (قدّس سرّه) من الأخذ بالمضيّق والقدر المتيقن وعدم ترتب الأثر على الموسّع بالأصل ، إنما يتم في الآثار الّتي اُخذت العدالة في موضوعها بالقرينة المتصلة كما في الشاهد بقوله عزّ من قائل : (وأشهدوا ذوي عدل منكم )(1) وذلك لأن العدالة إذا قلنا باجمالها فالمقدار المتيقن من الموضوع المقيد بذلك القيد المجمل ، هو الشاهد الّذي يستقيم في أعماله عن الملكة النفسانية الداعية إلى الطاعة لأنه الّذي نقطع بترتب الأثر عليه ، وأما الشاهد الّذي يستقيم في أعماله لا عن ملكة فنشك في ترتب الأثر عليه والأصل عدمه أي عدم نفوذ شهادته . ولا يتم فيما اُخذت العدالة في موضوع الحكم بالقرينة المنفصلة كما في بابي الفتوى والقضاء ، فإن الأدلة القائمة على حجية فتوى الفقيه من السيرة وغيرها مطلقة ولم يقيد فيها اعتبارها بما إذا كان المنذر أو العالم عادلاً ، وإنما استفدنا اعتبار العدالة بدليل منفصل كالضرورة أو رواية الاحتجاج أو غيرهما مما استدل به على اعتبارها فإذا فرضنا أن مفهوم العدالة مجمل مردد بين الموسّع والمضيّق فلا مناص من أن يقتصر في تقييد المطلقات بالمقدار المتيقن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الطلاق 65 : 2 .

ــ[218]ــ

من المقيد ، فإن المخصص المنفصل إذا كان مجملاً اقتصر في تخصيص العموم به على المقدار المتيقن منه ، وهو المنذر الّذي لا يستقيم في أعماله للقطع بعدم جواز تقليده لأنه مقتضى دليل المقيد والمخصص .

   وأما إذا كان مستقيماً في أعماله ولم ينحرف عن جادة الشرع يميناً ولا شمالاً غير أن استقامته لم تكن عن ملكة نفسانية فنشك في تقييد المطلقات به ، ومع الشك في التخصيص والتقييد الزائدين يتمسك بعموم العام أو إطلاق المطلق ، وبه يحكم بجواز التقليد ممن له الاستقامة العملية وإن لم يكن واجداً للملكة النفسانية بوجه .

   الثاني : الأخبار الواردة في أن إمام الجماعة يشترط فيه الوثوق بدينه(1) فإن المستفاد من تلك الأخبار أن العدالة المعتبرة في مثل إمام الجماعة يعتبر فيها الوثوق بالديانة ولا يحصل الوثوق بها بالاستقامة العملية المجردة عن الملكة ، فإن من ترك المحرمات وأتى بالواجبات لا عن ملكة لا يمكننا الوثوق بدينه ، لأنه من الجائز أن يرتكب مثله المعصية في المستقبل ويخالف أمر الله ونهيه ، وهذا بخلاف ما إذا عمل عن ملكة نفسانية إذ معها يمكننا الوثوق بدينه .

   والجواب عن ذلك : المنع عن عدم حصول الوثوق بدين من نرى أنه يأتي بواجباته ويترك المحرمات، لأ نّا إذا عاشرناه مدّة ورأينا أنه يخاف حيواناً من الحيوانات الموذية أو أنه يخاف الجن مثلاً ولا يتمكن من الدخول في موضع فيه ذلك الحيوان ولا يسكن مكاناً خالياً من الانس ، وقد مرت على ذلك برهة من الزمان علمنا علماً جزمياً أن الرجل يخاف من ذلك الحيوان أو الجن في الأزمنة المستقبلة ، ويحصل لنا الوثوق بذلك في حقه . وكذلك الحال فيما إذا عاشرناه مدة ورأينا يخاف الله سبحانه ولا يرتكب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منها ما رواه أبو علي بن راشد قال : قلت لأبي جعفر (عليه السّلام) : إن مواليك قد اختلفوا فاُصلي خلفهم جميعاً ؟ فقال : لا تصل الاخلف من تثق بدينه . وفي رواية الشيخ ، زاد : وأمانته . المروية في وسائل الشيعة 8 : 309 / أبواب صلاة الجماعة ب 10 ح 2 وما رواه يزيد بن حماد عن أبي الحسن (عليه السّلام) قال قلت له : اُصلي خلف من لا أعرف ؟ فقال : لا تصل إلاّ خلف من تثق بدينه الحديث . المروية في وسائل الشيعة 8 : 319 / أبواب صلاة الجماعة ب  12 ح  1 وغيرهما من الروايات .

ــ[219]ــ

محرماً ، ويواظب وظائفه وواجباته تيقنا من دينه لا محالة وحصل لنا الوثوق بديانته بلا فرق في ذلك بين القول باعتبار الملكة في العدالة وعدمه ، لأنهما أجنبيان عن حصول الوثاقة بدين المتصف بالعدالة .

   الثالث : الروايات الواردة في العدالة لأنها قد اُخذت في موضوعها أوصافاً وعناوين خاصة لا تنطبق إلاّ على صاحب الملكة وذلك كالعفاف ، والستر والصلاح ، والمأمونية ، والمرضي ، والخيّر ، والصائن (1) مع الاجماع على عدم اعتبارها زائدة على العدالة .

   وفيه : أن العناوين المذكورة غير منطبقة على الأفعال النفسانية فضلاً عن أن تنطبق على الصفات النفسانية . وتفصيل ذلك : أن كون الرجل مرضياً بمعنى أن يكون أفعاله مما يرضى به الناس ، كما إذا لم يظلمهم ، ولم يكذبهم ، ولا أنه عمل عملاً ينافي لرضاهم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يونس بن عبدالرحمان عن بعض رجاله عن أبي عبدالله (عليه السّلام) قال : «سألته عن البينة إذا اُقيمت على الحق أيحل للقاضي أن يقضي بقول البينة ؟ فقال : خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم : الولايات ، والمناكح ، والذبائح ، والشهادات ، والأنساب ، فإذا كان ظاهر الرجل ظاهر مأموناً جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه». المروية في وسائل الشيعة 27 : 392 /  أبواب الشهادات ب 41 ح 3 .

         عبدالله بن المغيرة قال «قلت للرضا (عليه السّلام) : رجل طلق امرأته ، وأشهد شاهدين ناصبيين قال : كل من ولد على الفطرة ، وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته» نفس المصدر [ ح 5 ] .

         عمار بن مروان عن أبي عبدالله (عليه السّلام) : «في الرجل يشهد لابنه ، والابن لأبيه والرجل لامرأته فقال : لا بأس بذلك إذا كان خيراً» الحديث . نفس المصدر [ ح 9 ] .

         أبو بصير عن أبي عبدالله (عليه السّلام) قال : «لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً» الحديث . نفس المصدر [ ح 10 ] .

         إسماعيل بن أبي زياد السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما السّلام) : «أن شهادة الأخ لأخيه تجوز إذا كان مرضياً ومعه شاهد آخر» نفس المصدر [ ح 19 ] .

         عبدالله بن أبي يعفور قال : «قلت لأبي عبدالله (عليه السّلام) : بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم ؟ فقال : أن تعرفوه بالستر والعفاف وكف البطن والفرج واليد ...» الحديث . نفس المصدر [ ح 1 ] . إلى غير ذلك من الأخبار .

ــ[220]ــ

فهو من صفات الأعمال الخارجية وليس من الصفات النفسانية في شيء . نعم ، الرضا صفة نفسانية ، إلاّ أنه أجنبي عن المتصف بالعدالة لأنه أمر قائم بالغير ، إذ العادل هو المرضي ، والراضي عن أفعاله هو الغير . ومعنى كونه صالحاً أن لا يكون فاسد العمل ولا مفسداً به فهو أيضاً من صفات الأعمال الخارجية .

   وكذلك كونه مأموناً فإن الأمن وإن كان بمعنى اطمئنان النفس وسكونها في مقابل اضطرابها وتشويشها ، إلاّ أنه أمر قائم بالغير دون المتصف بالعدالة ، لأنه المأمون وهو إنما يتحقق بكونه مستقيماً في أعماله ووظائفه بعدم أكله أموال الناس وترك الخيانة في أعراضهم ونفوسهم حتى يطمئنوا به .

   وأما الستر فهو بمعنى التغطئة وكون المكلف ساتراً، إما بمعنى أنه ساتر لعيوبه عن الله سبحانه فهو بهذا المعنى عبارة اُخرى عن اجتنابه المعاصي لئلاّ ينهتك سرّه وتظهر عيوبه لدى الله ، وإما بمعنى كونه مستوراً لدى الناس ومعناه أنه لا يتجاسر بالمعاصي ولا يتجاهر بها لدى الناس ، فهذا أيضاً من عناوين الأعمال الخارجية وليس من الصفة النفسانية في شيء .

   كما أن الخيّر هو الّذي كانت أعماله خيراً ، والصائن من ترك المعاصي مع وجود المقتضي لارتكابها .

   والعفة بمعنى الامتناع عمّا لا يحل ، ففلان عفيف أي ممتنع عمّا لا يحل كأذى الناس وغيره من المحرمات الإلهية ، ويأتي للعفاف بيان زائد على ذلك عند التكلم على الوجه الرابع .

   والمتحصل : أن العناوين المذكورة غير منطبقة على الصفات النفسانية بوجه .

   الرابع : صحيحة (1) عبدالله بن أبي يعفور قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السّلام) :

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هكذا عبّروا عنها في كلماتهم إلاّ أن الأمر ليس كذلك لأنها قد رويت بطريقي الصدوق والشيخ (قدّس سرّهما) وكلا الطريقين ضعيف . أما طريق الصدوق (قدّس سرّه) فلأن فيه أحمد بن محمد ابن يحيى العطّار وقد مرّ غير مرّة عدم ثبوت وثاقته . وأما طريق الشيخ (قدّس سرّه) فلأن فيه محمد بن موسى الهمداني وهو وإن كان ممن وقع في أسانيد كامل الزيارات ومقتضى ذلك وثاقته إلاّ أنه معارض بتضعيفه ، وهذا لا لأنه مستثنى من كتاب نوادر الحكمة ، لأنه مستند إلى توهّم أن الرجل قد وضع أصلي زيد النرسي والزرّاد وهذا خطأ لأن أصلهما مما رواه عنهما ابن أبي عمير وقد عثروا على طريق معتبر إليهما من دون أن ينتهي إلى الرجل على ما نبّه عليه السيد الطباطبائي والسيد الصدر كما لا يخفى على من راجع ترجمة زيد الزرّاد ، بل لما ذكره ابن الوليد من أن الرجل كان يضع الحديث . فإنه مما لا يمكن حمله على وضعه خصوص أصلي الزيدين لاطلاقه . إذن لا يمكن الاعتماد على روايات الرجل بوجه .

ــ[221]ــ

«بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم ؟ فقال : أن تعرفوه بالستر والعفاف ، وكف البطن والفرج واليد واللسان ، ويعرف باجتناب الكبائر الّتي أوعد الله عليها النار من شرب الخمر ، والزنا ، والربا ، وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير ذلك ، والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه وتفتيش ما وراء ذلك ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته في الناس ، ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن ، وحفظ مواقيتهن بحضور جماعة من المسلمين ، وأن لا يتخلف عن جماعتهم في مصلاهم إلاّ من علّة ...» (1) .

   وتقريب الاستدلال بها يتوقف على مقدمتين :

   إحداهما : أن يكون قوله (عليه السّلام) «أن تعرفوه بالستر والعفاف» معرّفاً منطقياً بأن تكون الجملة المذكورة حداً أو رسماً للعدالة وبياناً لماهيتها نظير قولنا : حيوان ناطق في الجواب عن أن الانسان ما هو . إذن العدالة عين الاشتهار والمعروفية بالستر والعفاف وغيرهما مما ذكر في الحديث .

   ثانيتهما : أن يكون العفاف والستر من الصفات النفسانية . فإنه إذا ضممنا إحدى المقدمتين المذكورتين إلى الاُخرى أنتجت أن العدالة ملكة ومن الصفات النفسانية كما ادعوه . وكلتا المقدمتين ممنوعتان :

   أما المقدّمة الاُولى : فلأن الجملة المذكورة معرّف اُصولي لغوي أعني ما ينكشف به الشيء ، وليست معرّفاً منطقياً بمعنى الحد أو الرسم وكون المعرِّف عين المعرَّف وذلك :

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وسائل الشيعة 27 : 391 / أبواب الشهادات ب 41 ح 1 .

ــ[222]ــ

   أما أوّلاً : فلأن ظاهر قوله (عليه السّلام) أن تعرفوه بعد قول السائل : بم تعرف عدالة الرجل ؟ أنه إنما سأل عمّا يعرف ويستكشف به العدالة لا أنه (عليه السّلام) سأل عن حقيقتها وماهيتها ، فإن المعرّف المنطقي اصطلاح حديث بين المنطقيين ، ومن البعيد أن يكون مراد السائل بقوله : بم تعرف . هو السؤال عن حقيقة العدالة وأن معرّفها على اصطلاح المنطقيين أي شيء ؟ فإن وزانه وزان قولنا : بم يعرف الشيء الكذائي أو الشخص المعيّن ، فإن المراد بمثله في المحاورات العرفية الدارجة هو السؤال عمّا ينكشف به الشيء وما يدل عليه ، لا السؤال عن حدّه ورسمه . إذن حمل الجملة المذكورة على المعرّف المنطقي بعيد .

   وأما ثانياً : فلأنه لم يذكر في الجواب أن العدالة هي الستر والعفاف ، وإنما قال (عليه السّلام) «أن تعرفوه بالستر والعفاف» فقد جعل المعرّف إشتهار الرجل ومعروفيته بهما لا نفس الستر والعفاف ، ومن البديهي أن الاشتهار والمعروفية بهما ليسا بحقيقة العدالة وإنما حقيقتها ـ لو كانت الجملة معرّفاً منطقياً ـ هو الستر والعفاف لا المعروفية بهما كما لا يخفى .

   وعلى الجملة أن ما ادعيناه من أن المعرّف ظاهر في المعرّف الاُصولي ليس لأن السؤال راجع إلى المعرّف بظاهره فحسب ، ليتوهّم أن ذلك غير مانع من أن يجيب (عليه السّلام) أولاً ببيان حقيقة العدالة تفضلاً لمكان جهل السائل بحقيقتها ، وثانياً ببيان الطريق إلى معرفتها بقوله : والدلالة على ذلك ... بل هو مستند إليه وإلى ظهور نفس الجواب في ذلك بالتقريب المتقدم، فلاحظ فإن المعروفية والاشتهار بالستر والعفاف ليسا بحقيقة العدالة كما مرّ .

   كما أن ما ادعوه من أنه من الصفات النفسانية إنما هو نفس العفاف والستر وأما المعروفية بهما فلم يتوهّم أحد كونها من الصفات النفسانية أبداً .

   وعلى الجملة أن الجملة المذكورة معرّف اُصولي لغوي وليست معرّفاً منطقياً بوجه ، كما أنه المراد بقوله (عليه السّلام) : «والدلالة على ذلك ...» بمعنى أنه من المعرّف اللغوي لا المنطقي فإن المراد بالدلالة هو ما ينكشف به اجتناب الكبائر ، ولا يحتمل أن يراد بها المعرّف المنطقي بأن يكون اجتناب الكبائر عين كونه ساتراً لجميع عيوبه

ــ[223]ــ

لوضوح المغايرة والاثنينية بين الدال والمدلول .

   وأما المقدمة الثانية : فلما بيّناه في الوجه السابق من أن العفاف هو الامتناع عمّا لا يحل ، وهو من الأفعال الخارجية لا النفسانية فضلاً عن أن تكون من الصفات النفسانية ، فإن العفيف من لم يرتكب الحرام في الخارج . نعم ، ذكر علماء الأخلاق أن العفة من صفات النفس إلاّ أنه اصطلاح مستحدث بينهم ، ولا يمكننا حمل العفاف الوارد في كلمات الأئمة (عليهم السّلام) عليه . نعم ، العفاف أعني ترك ما لا يحل ، فعل من الأفعال الاختيارية ، ومن الظاهر أن الفعل الاختياري له مبادئ من الاُمور النفسانية حتى مثل الأكل والشرب وغيرهما من الأفعال المتعارفة ، إلاّ أن ذلك غير مسوّغ للقول بأن تلك الأفعال الّتي منها الأكل ونحوه ، من الصفات النفسانية كما هو ظاهر .

   وأما الستر فهو أيضاً كما مرّ بمعنى التغطئة وهي كناية عن عدم ارتكاب المحرمات فكان بينه وبينها حاجزاً وغطاء ، فمعنى كونه ساتراً أنه مغطى ومجتنب عن المحرمات ولعلّه بهذا الاعتبار يُدعى الله سبحانه بالستّار لدفع البلية والهلكة . فإن معناه : يا من يكون حاجزاً بيننا وبين البلية ، إدفع عنّا البلاء بسترك وحجزك . وكيف كان فهو أيضاً من الأفعال الخارجية .

   وأما كف البطن واليد والفرج وغيرها من الأفعال المذكورة في الرواية فكونها من الأفعال الخارجية دون الأفعال النفسية فضلاً عن صفاتها ، أمر ظاهر لا خفاء فيه .

   ثمّ إن بما بيّناه في المقام اندفع ما ذكره شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) من أن قوله (عليه السّلام) «أن تعرفوه بالستر والعفاف» معرّف منطقي للعدالة ، وبيان لماهيتها وحقيقتها وذكر في وجهه : أن الستر والعفاف والكف قد وقع مجموعها المشتمل على الصفة النفسانية معرّفاً للعدالة ، فلا يجوز أن يكون أخص منها بل لا بدّ من مساواته . وقد يكون أعم إذا كان من المعرّفات الجعلية كما جعل (عليه السّلام) في هذه الصحيحة الدليل على هذه الاُمور كون الشخص ساتراً لعيوبه .

   ودعوى : أن ظاهر السؤال وقوعه من الأمارة المعرّفة للعدالة بعد معرفة مفهومها تفصيلاً ، والصفات المذكورة ليست أمارة ، بل هي على هذا القول عينها فيدور الأمر

ــ[224]ــ

بين حمل السؤال على وقوعه عن المعرّف المنطقي لمفهومها بعد العلم إجمالاً وهو خلاف ظاهر السؤال ، وبين خلاف ظاهر آخر وهو حمل الصفات المذكورة على مجرد ملكاتها ، فتكون ملكاتها معرفة وطريقاً للعدالة وحينئذ فلا يصلح أن يراد بها إلاّ نفس اجتناب الكبائر المسبب عن ملكة العفاف والكف وهو القول الثاني .

   مدفوعة : ببعد إرادة مجرد الملكة من الصفات المذكورة بخلاف إرادة المعرّف المنطقي الشارح لمفهوم العدالة ، فإنه غير بعيد خصوصاً بملاحظة أن طريقية ملكة ترك المعاصي لتركها ، ليست أمراً مجهولاً عند العقلاء محتاجاً إلى السؤال ، وخصوصاً بملاحظة قوله فيما بعد : والدليل على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لعيوبه ، فإنه على ما ذكر يكون أمارة على أمارة ، فيكون ذكر الأمارة الاُولى أعني الملكة خالية عن الفائدة مستغنى عنها بذكر أمارتها ، إذ لا حاجة غالباً إلى ذكر أمارة تذكر لها أمارة اُخرى بخلاف ما لو جعل الصفات المذكورة عين العدالة فإن المناسب بل اللاّزم أن يذكر لها طريق أظهر وأوضح للناظر في أحوال الناس (1) . انتهى ما أردنا نقله .

   والوجه في الاندفاع يتلخص في اُمور :

   الأوّل : ما قدمناه من أن ظاهر الرواية أن المعرّف معرّف اُصولي لغوي وليس معرّفاً منطقياً بوجه .

   الثاني : أن الستر والعفاف وغيرهما مما ورد في الرواية ليس من الأفعال النفسية فضلاً عن أن يكون من صفاتها .

   الثالث : أن ما أفاده لو تمّ فإنما يتم فيما إذا جعل المعرّف نفس الستر والعفاف أو غيرهما مما ورد في الرواية ، وقد عرفت أن المعرّف هو الاشتهار والمعروفية بتلك الأوصاف لانفسها ، والاشتهار والمعروفية لم يتوهّم أحد كونها من الصفات النفسانية وبهذا يظهر أن المعرّف في الرواية لا مناص من أن يكون معرّفاً اُصولياً ولا مجال لتوهّم كونه معرّفاً منطقياً ، لأن العدالة ليست هي المعروفية والاشتهار بتلك الصفات كما أنهما ليسا من التعريف باللاّزم المساوي وإن ذهب إليه بعض مشايخنا المحققين

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رسالة في العدالة : 327 .

ــ[225]ــ

(قدّس سرّهم) مدعياً أن الاستقامة العملية في جادة الشرع تلازم الكف والاجتناب عن المعاصي ، وأن السرّ في التعريف باللاّزم أن اللاّزم أقرب إلى الفهم عن ملزومه غالباً ، فالكف والاجتناب معرّفان منطقيان للعدالة (1) .

   والوجه فيما ذكرناه أن الاشتهار والمعرّفية بالستر والعفاف ليسا من لوازم الاستقامة العملية بوجه وإنما هما معرّفان وكاشفان تعبديان عن العدالة فحسب .

   إذن الصحيح أن الرواية ليست لها أية دلالة على اعتبار الملكة في العدالة بل لا نظر لها إلى بيان حقيقة العدالة بنفسها أو بلازمها وإنما أو كلته إلى الراوي نفسه ، لوضوح معناها عند كل من يفهم اللغة العربية أعني الاستقامة وعدم الانحراف كما مرّ ، ولعلّه لذلك لم يسأله الراوي أيضاً عن حقيقة العدالة ، فهي ساكتة عن بيانها بنفسها أو بلازمها وإنما سيقت لبيان كاشفها ومعرّفها ، لأنه مورد السؤال عن الإمام (عليه السّلام) وقد جعلت الكاشف عنها هو الاشتهار والمعروفية والستر وغيرهما مما ورد في الحديث . إذن هي كواشف تعبدية عن العدالة ، وأما أن العدالة أي شيء فالرواية ساكتة عن بيانها ، إذ لا يكاد أن يستفاد منها غير أنها كواشف عن العدالة وأن الارتباط بينها وبين العدالة من ارتباط المعرِّف والمعرَّف والكاشف والمنكشف وحيث إن معرفة كون المكلف معروفاً بالعفاف يتوقف على الصحبة وطول المعاشرة فقد جعل (عليه السّلام) الاجتناب عن الكبائر الّتي أوعد الله عليها النار طريقاً وكاشفاً عن المعروفية بترك المحرمات والاتيان بالواجبات وذلك بداعي التسهيل للمكلفين .

   ثمّ إن كونه مجتنباً عن الكبائر لما لم يكن أمراً ظاهراً في نفسه وكان محتاجاً إلى طول المعاشرة ، لأن المكلف قد يجتنب عن المفطرات مثلاً وبذلك يحسبه الناس صائماً وغير مرتكب للمحرّم ، إلاّ أنه يمكن أن لا ينوي الصوم أصلاً أو يأتي به رياءً ليكون تاركاً للواجب وآتياً بالمحرّم من دون أن يلتفت الناس إليه ، احتاج ذلك أيضاً إلى طريق كاشف عنه بالسهولة ولو بالتعبد . وقد جعل (عليه السّلام) الكاشف عن ذلك كون الرجل ساتراً لجميع عيوبه وهذا هو المعبّر عنه بحسن الظاهر في كلماتهم ، بأن لا  يكذب عندهم ولا يغتاب ولا يعامل معاملة ربوية ويتحفظ على جميع عيوبه ، ولا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رسالة في الاجتهاد والتقليد (الاصفهاني) : 82 .

ــ[226]ــ

يرتكب المحرمات في مجامع المسلمين ومنظرهم . وأما الواجبات فلم تعتبر الرواية الاتيان بها لدى الناس طريقاً معرّفاً إلى ذلك إلاّ الصلاة ، حيث دلت على أن الاتيان بالفرائض في المجامع علناً وبمرئى ومنظر من المسلمين أمر لا بدّ منه ، وأنه كاشف تعبدي عن أن فاعلها مجتنب عن المحرمات بحيث لو لم يتعاهد الفرائض في المجامع لم يحكم بعدالته ، لاحتمال أنه لم يصل أصلاً ومقتضى الرواية أن حمل فعل المسلم على الصحة لا يأتي في مثلها لأنها عمود الدين ولا خير في من لا صلاة له أو لغير ذلك من الوجوه ، ولعظمتها وأهميتها اعتبر في العدالة أن يكون الرجل متعاهداً بالحضور في جماعة المسلمين . نعم ، لا بأس في غير الفرائض من الصلوات المسنونات بالاتيان بها خفاءً بل هو الأرجح فيها كما لا يخفى .

   وعلى الجملة دلتنا الرواية على أن الرجل متى ما تعاهد الاتيان بالفرائض في المجامع العامة ، وكان ساتراً لجميع عيوبه المعبّر عنه بحسن الظاهر في كلماتهم حكم بعدالته . ولا دلالة فيها على اعتبار الملكة فيها بوجه . إذن العدالة كما قدّمناه بمعنى الاستقامة العملية في جادة الشرع .

   نعم ، لا بدّ أن تكون الاستقامة مستمرة وكالطبيعة الثانوية للانسان حتى يصدق أنه مستقيم ، فإن الاستقامة في بعض الأوقات دون بعض لا يوجب صدق الاستقامة كما أشرنا إليه آنفاً واحتملنا أن يكون هذا هو المراد بالملكة في كلام من اعتبرها في العدالة ، فإن بذلك ترتفع المخاصمة من البين وتقع المصالحة بين الطرفين . والّذي يسهّل الخطب أن الرواية ضعيفة السند وغير قابلة للاستدلال بها على شيء .

    بقى في المقام أمران

   أحدهما : لا كلام ولا شبهة في أن الكبائر ـ وهي الّتي أوعد الله عليها النار في كتابه كما في الرواية المتقدمة ـ هادمة للعدالة ومانعة عن تحققها ، وأما الصغائر فهل هي كالكبائر أو لا ؟ فيه كلام بين الأعلام .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net