اختلاف مبادئ المشتقّات
إنّ اختلاف المواد في سائر المشتقات لا مدخلية له في البحث عن الهيئة النوعية للمشتق من حيث الوضع للأعم أو للخصوص ، فإنّ بعض المواد ـ كالقيام والقعود ، والتكلّم من الأفعال الخارجية ـ يكون انقضاؤها برفع اليد عنها آنياً كعدم التكلّم مثلا ، فالمعتبر فيها التلبّس الفعلي .
وبعضها ـ كالاجتهاد مثلا ـ اعتبر فيه القوّة والشأنية ، والانقضاء فيه لا يكون إلاّ بزوال تلك القوّة والملكة ، لا بزوال الاستنباط فعلا .
وبعضها الآخر ـ كما في البناء ، والحداد ـ اعتبر فيه الحرفة والصناعة وانقضاؤها يكون بتركها واتّخاذ حرفة اُخرى . فليس الحداد من اشتغل بعمله فعلا بل من اتّخذ هذا العمل حرفة وصنعة له .
وعلى جميع التقادير فالهيئة صالحة للبحث عن وضعها لخصوص المتلبّس بالمبدأ أو للأعم ، وإن اختلفت أنحاء التلبّس .
ثم إنّ السعة التي كانت بلحاظ الشأنية والقوّة ربما تستفاد من نفس المادّة كما مرّ ، واُخرى تستفاد من الهيئة كما في المفتاح ، فإنّ الفتح وإن ظهر في الفعلية ، إلاّ أنّ
ــ[154]ــ
هيئة مفعال تدلّ على إرادة الشأنية والقوّة . فالمفتاح اسم لكل ما من شأنه الفتح ولو لم يفتح به بالفعل ، نعم لو زالت عنه الشأنية ـ كما لو انكسر بعض أسنانه ، وصار غير قابل للانتفاع به ـ كان ذلك من الانقضاء ، فبناء على الأعم يقال له مفتاح ، وعلى الأخص لا يقال له على نحو الحقيقة ، ويصح استعماله فيه مجازاً .
ومن هنا يظهر ما في كلام شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) تبعاً لصاحب الفصول (قدّس سرّه)(2) من خروج أسماء الآلات وأسماء المفعولين عن محل النزاع من مواضع للتأمّل والإشكال .
أمّا اسم الآلة فقد ذكر في وجه خروجه : أنّه يصحّ صدق المفتاح ـ مثلا ـ حقيقة ولو مع عدم التلبّس بالفتح فعلا .
ولكنّه غير خفي أنّ الهيئة فيه موضوعة للدلالة على قابلية الذات وشأنيّتها للاتّصاف بالمبدأ ـ وهو الفتح في المثال ـ لا للاتّصاف الفعلي ، إذ يصدق المفتاح عليه ولو لم يفتح به شيء أصلا . فالانقضاء فيه إنّما يكون بزوال شأنية الفتح دون فعليّته كما إذا انكسر أحد أسنانه ، فيجري فيه النزاع من وضعه للمتلبّس بالفعل أو للأعم بعد الاتّفاق على أنّه مجاز فيما لم يتلبّس بعد ، كما إذا اُطلق المفتاح على حديدة تصير مفتاحاً بعد ذلك . وأمّا إطلاقه على ما هو آلة الفتح بالفعل وإن لم يفتح به شيء بالفعل ولا فيما مضى ، فهو من الإطلاق على المتلبّس كما عرفت .
وأمّا اسم المفعول فقد ذكر في وجه خروجه عن حريم النزاع : أنّ الهيئة فيه تدلّ على وقوع المادّة على الذات ، فلا يتصوّر الانقضاء في ذلك بمعنى انقضاء كونه ممّن وقع عليه الضرب ـ مثلا ـ لأنّ الشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه ، فهو دواماً ممّن
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1 : 123 ـ 124 .
(2) الفصول الغروية : 60 .
ــ[155]ــ
وقع عليه الفعل . فصدق المشتق حال تلبّسه وانقضائه على نحو واحد .
وغير خفي أنّ ما أفاده (قدّس سرّه) غريب ، إذ لو صحّ هذا لجرى في أسماء الفاعلين أيضاً فيقال : هيئة فاعل تدلّ على صدور الفعل من الفاعل ، فالانقضاء لا يتصوّر هنا ، لأنّ الشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه ، والمادّة الواحدة لا يفترق حالها وإن كانت بالإضافة إلى أحدهما بالصدور ، وإلى الآخر بالوقوع عليه .
فالحلّ الصحيح : هو أنّ الألفاظ وضعت للمفاهيم الكلّية ، لا الموجودات الخارجية ، فلذا يحمل على الموضوع له الوجود تارةً فيقال : الضارب أو المضروب ـ مثلا ـ موجود ، واُخرى يحمل عليه العدم فيقال : الضارب أو المضروب معدوم . وهكذا الإنسان وضع بازاء مفهوم الحيوان الناطق ، لا الحيوان الناطق الموجود خارجاً . فالمشتقّات كذلك .
وهل وضعت بازاء مفهوم لو تحقّق خارجاً كان مصداقه خصوص المتلبّس بالفعل ، أو بازاء مفهوم لو تحقّق خارجاً كان مصداقه الأعم من المتلبّس بالفعل ، أو المنقضي عنه .
وهذا المعنى بنفسه جار في أسماء المفعولين . وليس الموجود الخارجي هو الموضوع له ليتوهّم أنّ انقضاءه من باب انقلاب الشيء عمّا وقع عليه . إذن فاسم الآلة واسم المفعول داخلان في محل النزاع .
|