عدم دلالة الفعل على الزمان
الأمر الثاني : أنّك عرفت ـ ممّا سبق(1)ـ خروج الأفعال عن محل النزاع لعدم صحّة حملها وجريها على الذات ، وذلك لعدم دلالتها إلاّ على انتساب المادّة وقد أشرنا سابقاً إلى عدم دلالتها على الزمان ، ويجدر بنا أن نتعرّض لذلك تفصيلا فنقول:
إنّ اعتبار مفهوم الزمان في الأفعال على أن يكون جزءاً من المعنى باطل جزماً ، لأنّ كل فعل مشتمل على مادّة وهيئة ، أمّا المادّة فتفيد نفس الحدث ، وأمّا الهيئة فمفادها مفاد المعنى الحرفي ، وهو عبارة عن نسبة المادّة إلى الذات بنحو من النسبة ، والزمان أجنبي عن كليهما .
أمّا اعتبار الزمان قيداً في الأفعال على أن يكون معنى الفعل الحدث المقيّد بالزمان ، بنحو يكون القيد خارجاً عن المدلول والتقييد به داخلا ، فهو أمر ممكن في نفسه ، ولكنّه غير مأخوذ في الأفعال ، لما نرى من صحة استعمال الأفعال وإسنادها إلى نفس الزمان ، أو إلى ما فوق الزمان ، من دون عناية وتجريد عن الخصوصية فيقال : مضى الزمان ، وعلم الله . ولو كان الزمان مأخوذاً في الفعل لما صحّ إسناده إلى الزمان ، إذ الزمان لا يقع في الزمان ، وإلاّ لدار أو تسلسل . كما أنّ أفعال ما فوق الزمان لا تقع في الزمان ، لعدم تحديدها بحدّ ، هذا .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص150 .
ــ[159]ــ
والإنصاف : أنّنا نجد الفرق بين الفعل الماضي والمضارع ، إذ لا يصحّ استعمال أحدهما في موضع الآخر ، وهو كاشف عن وجود خصوصية في كل منهما .
فالتحقيق أن يقال : إنّ الفعل الماضي يدلّ على تحقّق المادّة مقيّداً بكونه قبل زمن التكلّم ، وهو لا يكشف عن وقوعها في الزمن الماضي . فلو قلنا : الزمان وجد أو كان ، فمفاده تحقّق الزمان قبل زمن التكلّم ، دون وقوعه في الماضي .
نعم لو اُسند الفعل إلى الزماني مثل ضرب زيد ، فيدلّ بالمطابقة على تحقّق مادّة الضرب قبل زمن التلفّظ به ، وبالالتزام على وقوعه في الزمن الماضي ، من جهة أنّ الفاعل زماني ، ولا تصدر الأفعال منه إلاّ في الزمان ، وبما أنّه وقع قبل هذا الكلام فلا محالة يدلّ بالملازمة على تحقّقه في الزمن السابق .
وأمّا المضارع : فيدلّ على تحقّق المادّة في زمن التكلّم ، أو في الأزمنة المتأخّرة عنه ، وهذا لا يدلّ على وقوعها في الزمن الحالي أو الاستقبالي . فلو قلنا : يمضي الزمان ، أو يعلم الله ، فمفاده تحقّق المادّة حال تحقّق التلفّظ ، دون وقوعه في الحال أو الاستقبال .
نعم لو كان المسند إليه زمانياً فبالدلالة الالتزامية يدلّ المضارع على الحال أو الاستقبال ، باعتبار أنّ الزماني يقع في الزمان .
هذا كلّه لو كان الفعل مطلقاً ، وأمّا إذا قيّد بالسبق واللحوق بالإضافة إلى أمر آخر غير التكلّم ، فلابدّ حينئذ من لحاظهما بالإضافة إلى ذلك الأمر ، أو باللحوق إليه ، كما في مثل يجيء زيد في هذه السنة وقد ضرب غلامه . فالسبق إنّما هو بالإضافة إلى شيء آخر ، وهو المجيء ، لا زمن التكلّم .
فالمتحصّل : أنّ الأفعال لا تدلّ على الزمان بنحو الجزء أو القيد دلالة مطابقية ، نعم بالدلالة الالتزامية لا مانع من دلالتها عليه إذا كان المسند إليه زمانياً وهو لا يوجب صيرورة الزمان جزءاً أو قيداً في المعنى ، لاشتراك الجمل الاسمية في
ــ[160]ــ
ذلك ، أي دلالتها بالالتزام على وقوع المحمول في أحد الأزمنة الثلاثة فيما لو كان الفاعل زمانياً ، مثل قولنا : زيد قائم .
الأمر الثالث : هل يراد بالحال المأخوذ في عنوان المسألة حال النطق ، أو التلبّس ؟ لا إشكال في عدم دلالة الأسماء على خصوص زمان ، لا بنحو الجزئية ولا القيدية ، سواء في ذلك أسماء الأجناس أم غيرها . كما لا دلالة فيها على أحد الأزمنة الثلاثة ، لأنّ تلك الأوصاف كما تستند إلى الزمانيات كذلك تستند إلى نفس الزمان وإلى ما فوقه .
فمرجع النزاع حينئذ إلى سعة المفاهيم الاشتقاقية وضيقها ، بمعنى أنّها وضعت بازاء مفاهيم لو وجدت في الخارج لكانت منطبقة على خصوص المتلبّس بالفعل ، أو بازاء مفاهيم كلّية لو حصلت خارجاً كان مصداقها الأعم من المتلبّس بالفعل أو من انقضى عنه .
وأمّا ما يدّعى من أنّ ظاهر حمل المشتق على شيء فعلية التلبّس ، بمعنى ظهوره في تلبّسه بالمبدأ حين النطق والتكلّم ، لأنّ ظاهر قولنا : زيد آكل ، كونه كذلك بالفعل ، فهو صحيح ، لكنّه لا يستلزم أن يكون ذلك من جهة الوضع لخصوص المتلبّس بالمبدأ حين النطق ، بل هذا الظهور مستفاد من الإطلاق وعدم التقييد بغير حال النطق .
وعليه فالمراد بالحال هو حال التلبّس ، لصحة قولنا : زيد كان ضارباً بالأمس ، أو سيكون ضارباً غداً ، حقيقة بلا إشكال ، وإن لم يكن حال النطق متلبّساً به .
|