التنبيه الثاني : في الفرق بين المبدأ والمشتق .
المعروف بين الفلاسفة(1) ـ على ما نسب إليهم ـ أنّ الفرق بين المبدأ والمشتق هو لحاظ الأول بشرط لا ، ولحاظ الثاني لا بشرط . وقد فسّر صاحب الفصول (قدّس سرّه)(2) كلامهم بما يراد من هذين اللفظين في بحث المطلق والمقيّد ، فقد ذكروا أنّ الماهية إذا لوحظت بالإضافة إلى الخارج ، فقد تلاحظ مقترنة بوجوده أو بعدمه ، أو مطلقة غير مقيّدة بشيء منهما . ويعبّر عن الأول بالماهية بشرط شيء ، وعن الثاني بالماهية بشرط لا ، وعن الثالث بالماهية لا بشرط .
فلو أنّ لفظاً ورد في مقام الإثبات غير مقيّد بشيء ، وحصل الشكّ في إطلاقه ثبوتاً ، أمكن استكشاف ذلك من الإطلاق في مقام الإثبات بعد تمامية مقدّمات الحكمة ـ كالبيع ـ فإنّه لو شكّ في شموله للفظي والفعلي لأمكن التمسّك باطلاقه من دليل الإثبات ، وهو قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(3).
ثمّ أورد عليهم بأنّ الفرق المذكور غير مستقيم ، فإنّ قابلية الحمل وعدمها لا تختلف من حيث لحاظ الشيء لا بشرط أو بشرط لا ، فإنّ العلم والحركة يمتنع حملهما على الذات ، فلا يقال زيد علم ، وهذا لا يرتفع بلحاظه لا بشرط . فالمطلق والمقيّد كلاهما غير قابلين للحمل .
وغير خفي أنّ الفلاسفة لم يريدوا من كلامهم هذا المعنى ، فما أورده عليهم في
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع الشواهد الربوبية : 43 (الإشراق الثامن من الشاهد الثالث من المشهد الأوّل) .
(2) الفصول الغروية : 62 .
(3) البقرة 2 : 275 .
ــ[182]ــ
غير محلّه .
وقد ذكر صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(1) في بيان مرادهم : أنّ الفارق بينهما ذاتي ليس باعتباري ، فإنّ بعض المفاهيم في مقام ذاته لا بشرط ، بمعنى أنّه غير آب عن الحمل ، كالمشتق ، وبعضها في مقام ذاته بشرط لا ، وطبعه الإباء عن الحمل على الذات ، كالمبدأ .
وغير خفي أنّ هذا بعيد عن كلام الفلاسفة ، فإنّه ليس لخصوص المبدأ والمشتق ، بل هو فارق بين كل مفهوم قابل للحمل على الذات وما لا يكون قابلا له كالعلم والجدار ، بل إنّ هذا الأمر الواضح البديهي لا يناسبه تصدّي الفلاسفة لبيانه . فلا وجه لحمل كلامهم عليه .
فالصحيح أن يقال : إنّ مرادهم هو أنّ المفهوم الواحد يختلف حاله باللحاظ فقد يلحظ لا بشرط فيكون مشتقاً ، وقابلا للحمل على الذات . وقد يلحظ بشرط لا فيكون مبدأً ، فلا يقبل الحمل . ويظهر ذلك من كلماتهم في مقام الفرق بين الجنس والمادّة ، والفصل والصورة(2).
بيان ذلك : أنّ النوع له وجود في حدّ نفسه ، فالإنسان موجود بوجود واحد حقيقة ، وليس له وجودان ، أحدهما للحيوان وثانيهما للناطق ، وإنّما العقل يحلّل ذلك إلى جنس وفصل . أمّا الجنس فهو الجهة المشتركة بين هذا النوع والأنواع الباقية ، وأمّا الفصل فهو الجهة المميّزة لهذا النوع عن البقية . ولا يعقل تحقّق جهة الامتياز بدون جهة الاشتراك ، كما لا يعقل تحقّق جهة الاشتراك مع عدم انضمام ما به الفعلية إليها .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 55 .
(2) راجع نهاية الحكمة : 79 وما بعدها ، بداية الحكمة : 77 وما بعدها .
ــ[183]ــ
وإذا ثبت هذا فنحن نجد جهة الاشتراك تارةً يعبّر عنها بالجنس ، واُخرى بالمادّة . كما أنّ جهة الامتياز قد يعبّر عنها بالفصل ، وقد يعبّر عنها بالصورة ، وما ذلك إلاّ لأنّ اللحاظ مختلف بينهما ، فإنّه قد تلاحظ جهة الاشتراك بما له من الحدّ الوجودي ، وهو كونه قوّة ومادّة ، وقد تلاحظ جهة الامتياز بما له من الحدّ الوجودي الخاص ، وهو كونه فعلية وصورة ، وهما متغايران حينئذ ، لا يحمل أحدهما على الآخر ، فإنّ المادّة لا تكون صورة ، كما أنّ الصورة لا تكون مادّة أبداً .
كما قد يلاحظان لا بشرط ، باعتبار شمول الوجود الواحد لهما خارجاً من حيث سريان الوجود من الصورة وما به الفعلية إلى ما به القوّة ـ أعني المادّة ـ لأنّهما موجودان بوجود واحد ، فإنّ التركيب بينهما ليس انضمامياً ، بل اتّحادي ، بمعنى أنّ الوجود سار ممّا به الفعلية إلى ما به القوّة ، وبهذا اللحاظ صحّ الحمل . وفي هذا الاعتبار يعبّر عن جهة الاشتراك بالجنس ، وعن جهة الامتياز بالفصل ، فيقال : الحيوان ناطق . وهاتان الحيثيتان واقعيّتان ، اختلفتا لحاظاً مع وحدة المفهوم .
والمشتق ومبدؤه من هذا القبيل ، مثلا الضرب له مفهوم واحد ، فقد يلحظ بما أنّه موجود من الموجودات الخارجية ، وهذا معنى أخذه بشرط لا ، فيكون قبال الذات ، فلا يصحّ حمله عليها . وقد يلحظ لا بشرط ، بمعنى أنّه يعتبر بما أنّه عرض ووصف من أوصاف الذات ، فيكون من طوارئها ومتّحداً معها ، فإنّ طور الشيء لا يباينه ، فيصحّ حمله على الذات .
فإذا ظهر لك مرادهم من قولهم : إنّ المشتق مأخوذ لا بشرط ، والمبدأ مأخوذ بشرط شيء ، فاعلم أنّ هذا القول غير صحيح من وجوه :
أوّلا : لما أوضحناه سابقاً(1) من بيان الفارق ، وهو أنّ المشتق مركّب من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص173 ـ 181 .
ــ[184]ــ
شيء ثبت له المبدأ ، على أن يكون المراد من الشيء هو مفهومه المبهم المندمج المعرّى عن كلّ خصوصية ، إلاّ من حيث الاتّصاف بالمبدأ . فالمشتق يدلّ على الذات المقيّدة بثبوت المبدأ لها ، والمبدأ نفس القيد الذي ثبت للذات .
أمّا ادّعاء الفرق بينهما بلحاظ لا بشرط وبشرط لا ، فهو غير صحيح ، لأنّ وجود العرض مغاير لوجود الجوهر ، وليس هما وجوداً واحداً خارجاً ، ومعه كيف يكون العرض بلحاظ لا بشرط متّحداً مع الذات . فلا وجه لقياس ما نحن فيه على الفصل والجنس ، لأنّهما موجودان بوجود واحد ، وما نحن فيه موجودان بوجودين .
ثانياً : لعدم تمامية المعنى المتقدّم في المشتقّات الاعتبارية ، كالإمكان والوجوب والملكية ، فإنّها ممّا لا وجود لها أصلا ليقال : إنّ وجوده في نفسه عين وجوده لمعروضه ، فهو طور من أطوار معروضه ، وطور الشيء لا يباينه لاختصاص هذا المعنى بالعرض ، دون الاُمور الاعتبارية .
ثالثاً : لو تم المعنى المتقدّم في العرض لما جرى في المشتقّات التي ليست بمعروضات ، كأسماء الآلة والمكان والزمان والمفعول ، فإنّه لو كان وجود العرض في نفسه عين وجوده لمعروضه لما كان عين وجوده لمكانه أو زمانه .
فالصحيح ما ذكرناه أنّ الفارق بينهما ، هو أنّ المشتق يدلّ على الذات المقيّدة بثبوت المبدأ لها ، والمبدأ نفس القيد الذي ثبت للذات .
التنبيه الثالث : قد يكون الموضوع الذي يحمل عليه المشتق مغايراً لمبدئه كما في زيد قائم ، وقد يكون متّحداً معه ، كما في صفاته تعالى ، مثل الله عالم وقادر . ولا ريب في صحّة الأول ، إنّما الإشكال في الثاني من جهتين :
الاُولى : أنّه يعتبر في المشتق ـ كما عرفت ـ تغاير المبدأ مع الذات ، وكيف يتم هذا المعنى في صفاته تعالى المحمولة عليه ، التي اتّحد المبدأ فيها مع الذات .
ــ[185]ــ
الثانية : أنّ المشتق عبارة عن قيام المبدأ بالذات ، وهو يقتضي الاثنينية بينهما ، وفرض اتّحاده مع الذات ـ كما في صفاته تعالى ـ يستلزم تلبّس الشيء بذاته أو قيام الشيء بنفسه ، وهو محال . مضافاً إلى انتفاء الاثنينية على هذا التقدير .
|