أدلّة القائلين بالجبر 

الكتاب : مصابيح الاُصول - الجزء الأوّل من مباحث الألفاظ   ||   القسم : الأصول   ||   القرّاء : 4855


أدلّة القائلين بالجبر

استدلّ القائل بالجبر على المدّعى :

أولا : هو أنّ كل فعل ما لم يجب لم يوجد ، استناداً إلى القاعدة المسلّمة : أنّ


ــ[204]ــ

الشيء ما لم يجب لم يوجد . والفعل الخارجي حيث كان ممكناً احتاج إلى علّة في مقام الوجود ، وعلّته الإرادة ، وهي إمّا أن تنتهي إلى الذات ، والذاتي لا يعلّل ، أو إلى الإرادة الأزلية ، وكلاهما غير اختياريين .

والجواب عنه : أنّ القاعدة المذكورة تتم في الممكنات التي هي خارجة عن اختيار الإنسان ، كإحراق النار ، فيحتاج وجودها إلى المؤثّر ، والشيء ما لم يجب لم يوجد .

أمّا بالنسبة إلى الأفعال الاختيارية التي تقع تحت قدرة الإنسان فهي لا تحتاج في وجودها إلى أن تصل إلى حدّ الوجوب ، بل هي تتوقّف على فاعل ، لأنّ الفعل الاختياري بلا فاعل محال . وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْء أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)(1) فأثبت سبحانه وتعالى احتياج العمل إلى فاعل وخالق .

أمّا الفاعل في المقام لهذه الأفعال فهي النفس ، فإنّها تعمل قدرتها وتسعى نحو الشيء ، فلها أن تشاء ، ولها أن لا تشاء فلا تعمل القدرة فيه . وإعمال القدرة لا يتوقّف على إرادة وشوق لتكون الإرادة علّة لذلك ، لأنّك عرفت أنّ النفس هي الفاعل بالاختيار . فالشخص بنفسه فاعل للاختيار ، نعم اختيار النفس لهذا الفعل الخارجي يفتقر إلى مرجّحات غالباً تقتضي ذلك ، والغالب في مرجّح الفعل نفس الشوق ، وقد يكون غيره .

وإنّما قلنا باحتياجه إلى المرجّحات غالباً إخراجاً له عن اللغوية ، لا أخذاً بدعوى من يقول بقبح الترجيح بلا مرجّح ، لما عرفت في مبحث الوضع(2) من عدم قبح الترجيح بلا مرجّح ، بل قد يكون متعيّناً أحياناً ، كما لو تعلّق غرض شخص

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الطور 52 : 35 .

(2) في ص32 ـ 33 .

ــ[205]ــ

بإيجاد فرد من أفراد الطبيعي ، وكانت الأفراد متساوية ، كما إذا كان ظمآناً وكانت لديه كؤوس ماء متعدّدة متساوية من جميع الجهات ، أفتراه يترك الجميع ويموت ظمأً خوفاً من لزوم الترجيح بلا مرجّح !

وبما ذكرناه يجاب عن شبهة الفخر الرازي(1)، بناءً على الهيئة القديمة من أنّ الأجرام السماوية والكرة الأرضية لمّا كانت محاطة بأفلاك متعدّدة ، كالقمر وعطارد والزهرة ، وكان وراء الجميع فلك الأفلاك المسمّى بالفلك الأطلس ، الذي ليس وراءه خلاء ولا ملاء ، وكان الترجيح بلا مرجّح محالا ، فلنا أن نقول : لماذا كان الجدي في جهة الشمال دون الجنوب ، ولماذا كانت الشمس تطلع من المشرق وتغيب من المغرب ، فليكن الأمر بالعكس ، وما شاكل هذه من الإشكالات .

والصحيح أن يقال : إنّ الترجيح بلا مرجّح غير قبيح ، فإنّ الاحتياج حيث تعلّق بخلق أصل الكرة الأرضية فخصوصياتها المعلومة لا تحتاج إلى مرجّح ، بعد أن كان الاحتياج متمحّضاً في أصل الطبيعة . فاختيار الفرد بهذه الكيفية وإن لم يشتمل على الخصوصية لا يلزم منه المحذور .

والخلاصة : أنّ الإنسان إذا حصل له شوق مؤكّد في نفسه نحو فعل من جهة ملائمة الطبع لذلك ، يعمل قدرته في سبيل تحصيله ، فيوجد الفعل بلا قهر عليه ، وهذا أمر وجداني . مثلا لو تردّد الشخص بين طريقين ، أحدهما على يمينه وفيه ما تشتهيه نفسه ، وثانيهما على يساره وفيه ما ينفر عنه طبعه ، لعدم ملائمته له ، فلا ريب أنّنا نجده يتّخذ طريق اليمين مسلكاً له ، ولكن ليس قهراً عليه بل بحسب اختياره وإرادته.

ولو توسّعنا في الأمر لأمكننا أن ننكر وجود شوق للإنسان في بعض الأحيان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع المباحث المشرقية 2 : 487 ، وحكاه صدر المتألّهين في شرح المشاعر : 289 .

ــ[206]ــ

عندما يعمل قدرته نحو شيء ، وذلك كما لو اُجبر على قتل أو ضرب أحد ولديه ، إمّا الأكبر الذي لا يرتضي سلوكه ، أو الأصغر الذي يرتضيه ، فلا محالة أنّه يختار الأول  ، محافظة على الأصغر ، مع أنّه غير مشتاق إلى عمله بالإضافة إلى كلا الولدين  ، حبّاً لهما وحنواً عليهما . نعم الغالب في أفعال الإنسان أن تكون مع الشوق والإرادة كما عرفت ، وقد يكون المرجّح غيرها .

وثانياً : أنّ الإرادة الأزلية إذا تعلّقت بوجود فعل من العبد أو بعدمه ، فإمّا أن يكون ما في الخارج على طبقها ، وهو المطلوب ، فلا أثر لاختيار العبد وعدمه . وإمّا أن يكون ما في الخارج على خلاف الإرادة الأزلية ، بأن تغلب إرادة العبد على إرادته تعالى ، فيلزم نسبة العجز إليه تعالى ، وعدم القدرة على التصرّف فيما هو واقع في سلطانه ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .

والجواب عنه : أنّ الإرادة الأزلية بالإضافة إلى الأفعال الاختيارية الصادرة من العبد ليس لها مساس بوجودها أو عدمها ، بل الله سبحانه وتعالى منح الإنسان قدرة وقوّة على الفعل وعدمه ، وأوضح له الطرق الصحيحة من الفاسدة ، وأخذ العبد يفعل الشيء ويتركه بحسب اختياره وإرادته ، من دون دخل للإرادة الأزلية في ذلك أصلا . نعم ربما يريد الله سبحانه وتعالى عدم بعض الأفعال ، فيبدي الموانع عن تحقّقه ، كإنزال المطر وغيره ، وهذا أجنبي عن التصرّف في إرادة العبد .

على أنّ وصف الإرادة بالأزلية لا يخلو من تسامح ، لما حقّقناه من أنّ الإرادة من صفات الأفعال ، لا من صفات الذات لتكون أزلية .

وتقريب ذلك : أنّ الضابط في صفات الأفعال إمكان اتّصاف الذات بمقابلها مع اختلاف المتعلّق ، وهذا الضابط منطبق على إرادته تعالى ، فيقال : إنّه مريد لحياة زيد ، وليس بمريد لحياة عمرو .

ــ[207]ــ

ولو رجعنا إلى الروايات التي وردت في باب الإرادة(1) لوجدناها صريحة في الدلالة على أنّ الإرادة من صفات الفعل ، لا الذات لتكون أزلية ، حيث ورد (إنّ الله كان عالماً وقادراً ولم يكن مريداً فأراد)(2) ولا يمكن أن يقال لم يكن قادراً فقدر وفي بعضها الحكم بكفر من يدّعي أزلية الإرادة(3). ولو كانت الإرادة من الصفات الذاتية لكانت أزلية ، كالعلم والقدرة .

إلاّ أنّ بعض الفلاسفة المحدثين ـ كصدر المتألّهين(4) وصاحب الوافي(5)ـ مع نقلهم لهذه الروايات ذهبوا إلى أزلية الإرادة ، فاضطرّوا إلى حمل الروايات على الإرادة الفعلية ، بمعنى أنّه لم يكن مريداً فعلا لا أزلا .

وقد عرفت أنّ الإرادة ليس لها معنيان أو أكثر ، بل لها معنى واحد ، وهو إعمال القدرة ، ولهذا جعلت من صفات الأفعال ، حيث قيل : لم يكن مريداً فأراد ومعنى ذلك أنّها حادثة وليست بأزلية ، ولذا ورد في بعض الروايات : إنّ الله خلق الأشياء بالمشيئة وخلق المشيئة بنفسها(6) بمعنى أنّه خلق الأشياء حسب إعمال قدرته ، أمّا إعمال قدرته فلم تكن باعمال قدرة اُخرى ، وإلاّ لتسلسل .

وأمّا ما عن بعض الفلاسفة من رواية الحديث (إنّ الله تعالى خلق الأشياء

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع البحار الأنوار 5 : 84 / ب3 القضاء والقدر والمشية والإرادة ، 4 : 134 / ب4 القدرة والإرادة .

(2) راجع الكافي 1 : 109 / 1 (ورد بالمضمون) .

(3) بحار الأنوار 4 : 145 / 18 .

(4) راجع شرح اُصول الكافي : 278 ، الأسفار 6 : 355 وما بعدها .

(5) راجع الوافي 1 : 455 / ب44 (صفات الفعل) ذيل ح1 ، رسالة في الجبر والاختيار (ضمن كلمات المحقّقين) : 507 .

(6) بحار الأنوار 4 : 145 / 20 (نقل بالمضمون) .

ــ[208]ــ

بالمشيئة والمشيئة بنفسها) وتفسيره بأنّ المشيئة موجودة بنفسها ، فهو باطل ، فإنّ الحديث كما نقلناه .

وكيف كان ، فالإرادة غير أزلية ليقال بانتهاء الأفعال إليها ، بل الإرادة من صفات الفعل ، وهي بمعنى إعمال القدرة .

وثالثاً : أنّ تعلّق العلم الأزلي لله عزّوجلّ بأفعال عبيده يقتضي استحالة صدور ما هو على خلاف ما يعلمه الله تعالى ، إذ لو صدر غير ما هو المعلوم أزلا لزم أن يكون الصادر مجهولا لله تعالى أزلا ، وهو محال .

والجواب عنه : أنّ علم الله تعالى لا يرتبط بالإرادة التكوينية له ، وليس هو علّة للفعل ، فلا يمنع أن يتعلّق بالفعل الذي يختاره العبد ، أي أنّ الفعل بواقعه ينكشف له ، وليس العلم إلاّ انكشاف الواقع ، من دون أن تكون له أيّة مدخلية فيه ، وهو بهذا المعنى لا ينافي الاختيار ، إذ لا يتعلّق إلاّ بما يختاره العبد فيفعله .

والحاصل : أنّ الأشاعرة نفوا وجود سلطنة لدى العبد ، يستطيع أن يعملها في أفعاله الصادرة منه ، وأثبتوها لله سبحانه وتعالى ، واعتبروا العبد آلة بيده ، نظراً إلى انتهاء إرادة العبد إلى الإرادة الأزلية ، وكيف يختار ما هو خلاف الإرادة ، وبهذا وقعوا في الالتزام بلوازم واضحة البطلان ، كنفي العدالة عنه تعالى لمعاقبته العبيد على ما ليس باختيارهم وهو ظلم ، وكادّعائهم بأنّ العقل لا يستطيع أن يدرك حسن بعض الأشياء وقبحها ، بل الحسن ما أمر به المولى ، والقبيح ما نهى عنه .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net