التفويض
وهناك شبهة اُخرى ، وهي شبهة تفويض الله العبد في أفعاله إلى قدرته الاستقلالية ، يفعل ما يشاء ويعمل ما يريد ، دون أن تكون هناك سلطنة وإرادة اُخرى على أفعاله . فالعبيد مفوّضون فيما يعملونه ، فإن عوقبوا فالعقاب على
ــ[209]ــ
اختيارهم وسوء إرادتهم .
فهؤلاء وإن التزموا بالمحافظة على ثبوت العدالة لله سبحانه وتعالى ، إلاّ أنّ المحذور في حديثهم نفي سلطنة الله تعالى ، والالتزام بوجود شريك له ، ولهذا وردت الأخبار بلعن المفوّضة وذمّهم(1)، وأنّهم مجوس هذه الاُمّة(2)، حيث التزموا ـ أعني المجوس ـ بوجود إلهين ، أحدهما للخير وثانيهما للشرّ ، وأطلقوا على الأول اسم (يزدان) وعلى الثاني اسم (أهريمن) . وهؤلاء المفوّضة بالتزامهم أنّ كل واحد يقتضي أن يكون خالقاً مستقلا فقد عدّدوا الآلهة مثلهم ، ولكن بتعدّد البشر والتزموا بأن يكون الناس والله خالقين ، غاية الأمر الفرق بينهما في المخلوق ، فالله سبحانه وتعالى يخلق الإنسان ، والإنسان يخلق الأفعال المتعدّدة .
وقد استدلّوا على التفويض ـ بعد ردّ شبهة المجبرة ـ بأنّ الممكنات وإن احتاجت في حدوثها إلى علّة موجدة ، إلاّ أنّها ليست محتاجة إليها في بقائها لاستغناء البقاء عن المؤثّر . فالعبد بعد إفاضة الوجود عليه من خالقه لا يحتاج في بقائه وصدور الأفعال عنه إلى شيء ، وإليه يستند التأثير التامّ في إيجادها ، لا إلى علّته المحدثة له ، وإذا تمّ هذا لزم نفي السلطنة عن الله عزّوجلّ على عبيده نفياً تاماً .
ويرد عليه : أنّ الممكنات كما تحتاج في حدوثها إلى المؤثّر تحتاج في بقائها إليه ، إذ هي في مرحلة بقائها لا تخرج عن حيّز الإمكان إلى الوجوب ، ومن لوازم الإمكان الذاتية افتقاره واحتياجه إلى المؤثّر في جميع آناته ، بل هو عين الحاجة إليه ، ليفيض عليه الوجود ، وإلاّ لانعدم. وعلى هذا فالعبد محتاج في جميع الآنات إلى خالقه ليفيض عليه وعلى أفعاله الوجود والقدرة وسائر المبادئ ، وإلاّ لما تمكّن من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار 5 : 9 / 13 ، 14 ، 18 وغيرها .
(2) بحار الأنوار 5 : 9 / 13 .
ــ[210]ــ
إيجاد أفعاله .
وكيف كان ، فالالتزام بأحد القولين ـ أعني الجبر ، والتفويض ـ غير صحيح إذ الجبر يستلزم نفي العدالة عنه ، وإثبات السلطنة على العبد . والتفويض يستلزم نفي السلطنة عنه ، وإثبات العدالة له . فلابدّ من اتّخاذ طريق يكون وسطاً بينهما ، وأمراً بين الأمرين .
|