الأمر بين الأمرين
وقد صرّحت الروايات الشريفة(1) بأنّه لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين ، أو منزلة بين المنزلتين . فكان لزاماً علينا أن نتّخذ طريقاً وسطاً بين القولين ، نأمن به من مشكلة الاستقلال في العمل التي تستلزم الجبر أو التفويض وتثبت بذلك العدالة والسلطنة لله سبحانه وتعالى . فندّعي أنّ كل فعل صادر من العبد إنّما هو مستند إليه ، وإلى الله تعالى .
ولنقرّب ذلك بفروض ثلاثة ، توضّح ما يراد من هذا التعبير ـ الأمر بين الأمرين ـ مع ضرب بعض الأمثلة على ذلك :
اُولاها : نفرض شخصاً مرتعش اليد ، وقد فقد إرادته واختياره في تحريك يده ـ مثلا ـ وقد جاءه آخر فربط يده المرتعشة بسيف قاطع ، وكان إلى جنبه شخص راقد وهو يعلم بأنّ اليد ستقع على ذلك النائم فتهلكه حتماً ، ففي هذه الصورة عندما يقع الفعل لا يرى العقلاء صاحب اليد المرتعشة مجرماً ، بل المجرم من ربط بيده السيف . وإلى هذا يرجع حقيقة الجبر الذي يستلزم نفي العدالة عنه تعالى .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع الكافي 1 : 160 / 13 ، 10 ، 8 ، 9 . بحار الأنوار 5 : 11 / 18 ، 27 ، 28 ، 1 وغيرها .
ــ[211]ــ
وثانيها : أن نفرض شخصاً أعطى سكّيناً شخصاً آخر ، فصادف أنّ قتل بها نفساً محترمة باختياره . فالقتل يستند إلى المباشر دون المعطي ، وإن كان قد علم المعطي أنّ إعطاءه السيف ينجر به إلى القتل ، وهو مع ذلك يستطيع أخذ السيف من المعطى له متى شاء . وإلى هذا يرجع حقيقة التفويض الذي يستلزم نفي السلطنة عنه تعالى ، وإيكال الاُمور إلى العبد المستلزم ذلك للشرك .
ثالثها : أن نفرض حدّاً وسطاً بين المثالين ، فنفرض أنّ تياراً كهربائياً لو اتّصل بجسم شخص لبعث في عضلاته قوّة ونشاطاً نحو العمل ، ولولا تلك القوّة الكهربائية لأصبح الشخص غير قادر على تحريكها ، ولنفرض أنّ رأس السلك الكهربائي بيد طبيب حاذق كان هو الساعي لإيصال تلك القوّة في كل آن إلى جسم ذلك الشخص ، فلو أوصل الطبيب تلك القوّة بالجسم ، وذهب الشخص فقتل نفساً محترمة بغير حقّ ، والطبيب يعلم بذلك ، فالعمل مستند إلى كليهما . أمّا الطبيب فلأنّه هو المعطي للقوّة والقدرة حال العمل ، وأمّا العبد فقد كان متمكّناً من الإيجاد وعدمه ، بعد أن وجدت القدرة فيه ، وقد فعل العمل باختياره . وهذا هو الأمر بين الأمرين .
وأفعال العباد كلّها من هذا القبيل ، فإنّ الله سبحانه وتعالى أفاض عليهم الوجود ، وأعطاهم قدرة كاملة في أنفسهم في كل آن لاحتياج الممكن إلى علّة حدوثاً وبقاءً ، فكان تعالى هو الموجد للمقتضي في الشخص نفسه ، فاستند الفعل إليه تعالى لهذه الجهة ، كما استند إلى العبد نفسه ، باعتبار أنّه صدر الفعل منه بإرادته واختياره ، وأوجده بعد أن كان متمكّناً من عدم إيجاده ، وأعمل القدرة في ذلك فاختار العمل السيء بالرغم من تمكّنه من إعمال قدرته في الموارد الحسنة ، لأنّ الله سبحانه وتعالى لم يمنحه قدرة محدّدة خاصّة ، وإنّما هي عامّة ، يستطيع أن يعملها في سائر الموارد الحسنة والقبيحة ، ولكن سوء اختياره دفعه إلى ارتكاب العمل
ــ[212]ــ
السيء ، فكان جزاؤه العقاب .
والله سبحانه وتعالى وإن تمكّن من أن يصدّ العبد عن ارتكاب هذا العمل وذلك بإيجاد المانع ، أو بعدم إفاضته القدرة حال العمل ، إلاّ أنّ مقدرته على ذلك لا توجب أن لا يسأل العبد عن فعله ، ولا يعاقب بما ارتكبه . وبهذه الطريقة أمكن الاحتفاظ بحدود السلطنة والعدالة لله سبحانه وتعالى ، وأنّه معاقب على ما هو بالاختيار .
والحاصل : أنّ هنا فِرَقاً ثلاثاً :
المجبّرة : وهي التي تدّعي أنّ الأفعال الصادرة من العبيد ليست صادرة عن اختيارهم وإرادتهم ، بل هي بإرادة الله تعالى ، وقد اضطرّ العبد إلى العمل ، وأصبح مجبوراً في حركاته وسكناته ، فهو كالآلة بيد غيره . ومعنى هذا نفي العدالة عنه تعالى ، لأنّ لازمه العقاب على ما ليس بالاختيار ، وقد عرفت ـ ممّا تقدّم ـ بطلان هذا القول وجداناً ، للفرق بين حركة نبضنا وحركة إصبعنا ، وأنّ الثانية غير الاُولى وللعبد اختيار الفعل والترك . وبرهاناً كما تقدّم تفصيله(1).
المفوّضة : وهي التي تدّعي أنّ الفعل يصدر من العبد استقلالا ، ففي مرحلة الحدوث يفتقر إلى قدرة من قبل الله سبحانه وتعالى ، ولكن في مرحلة البقاء والآنات المتأخّرة لا يحتاج العبد في عمله إلى علّة جديدة ، بل العلّة الأُولى كافية في بقاء الاختيار له حتّى النهاية ، فصار يعمل ما يشاء باختياره ، ويفعل ما يريد بقدرته ، وقد جعل الله تعالى في معزل من الأمر .
وهذا يبتني ـ كما عرفت ـ على الاكتفاء بحدوث العلّة بقاء ، واستغناء الممكن في الآنات المتأخّرة عن المؤثّر ، نعم لا يضايق المفوّضي من الالتزام بقدرة الله على
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص198 وما بعدها .
ــ[213]ــ
إماتة العبد ، أو على سلب قوّة من قواه حتّى لا يتمكّن العبد من إيجاد الفعل خارجاً .
وهذا وإن صحّح استحقاق العبد العقاب من قبل الله سبحانه وتعالى ، لأنّه عقاب على ما هو بالاختيار ، إلاّ أنّه يستلزم استقلال العبد في عمله ، ونفي السلطنة عنه تعالى ، وقد عرفت ـ ممّا تقدّم(1) ـ بطلان هذا القول أيضاً .
الشيعة : وهي التي تقول بالأمر بين الأمرين ، وتدّعي أنّ العمل الخارجي قد صدر من العبد حسب اختياره وإرادته وقدرته ، وأمّا نفس قدرة العبد فقد جاءت من قبل الله تعالى ، فكان إيجاد القدرة للعمل وإفاضتها آناً فآناً منه تعالى وإعمالها في الخارج من العبد .
وهذه الفرقة المحقّة تلتزم بأنّ كل ممكن كما يحتاج في حدوثه إلى علّة تقتضيه كذلك يحتاج في بقائه إلى علّة . فالممكن في كل آنات البقاء يفتقر إلى علّة وسبب .
وبعبارة اُخرى : بقاء كل ممكن بعد حدوثه لمّا كان متساوي الطرفين من حيث الوجود والعدم ، كان ترجيح أحدهما على الآخر مفتقراً إلى سبب خارجي فلو وجدت علّة الحدوث كانت مرحلة البقاء مفتقرة إلى العلّة أيضاً . فكل فعل يصدر من الشخص اختياراً إنّما هو ممكن محتاج إلى العلّة ، وقد أوجد الله تعالى قدرة كاملة في العبد بعد أن أفاض الوجود عليه ، وحدوثها لا يكفي في بقائها ، بل لابدّ فيه من إفاضة القدرة آناً فآناً ، فمتى انقطعت انعدمت القدرة بنفسها .
وعلى هذا فالفعل الخارجي يستند إلى العبد لأنّه فاعله باختياره وإرادته ويستند إلى الله تعالى ، نظراً إلى إفاضة القدرة على الفعل للعبد آناً فآناً ، ولولاهما لما تمكّن العبد من الاختيار ، فصحّ إسناد الفعل إلى كليهما .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص209 .
ــ[214]ــ
وعلى هذا تحمل الآية الشريفة : (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ)(1) أي لا يمكن أن يصدر الفعل من العبد استقلالا ، إلاّ وأن يخلق الله تعالى القدرة في العبد ويمكّنه من القوّة والاختيار ، فيشاء العبد بواسطة تلك القوّة .
وهكذا تحمل الآية الاُخرى على المعنى المذكور : (وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَىْء إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ)(2) وليس معنى الآية أنّ كل أحد لا يقول أفعل كذا إلاّ أن يقول بعده إن شاء الله ، بل المعنى أنّك لا تقول لشيء سأفعل كذا غداً إلاّ أن يشاء الله خلافه ، وتكون جملة (إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ) مقول القول ، كما لو قلت : اُريد أن أفعل كذا إلاّ أن يمنع مانع ، وهو المعبّر عنه بالفارسية (اگر خدا بگذارد) ، ولازم هذا ثبوت الاستقلال في التصرّف التام ، الذي ينشأ منه التفويض .
تنبيه : سبق أن قلنا إنّ الفعل الخارجي الصادر من العبد بحسب اختياره منسوب إلى الله تعالى وإلى العبد نفسه ، فباعتبار أنّ قدرة العبد نحو العمل إنّما هي من قبل الله تعالى فالعمل منسوب إليه تعالى ، وباعتبار أنّ العبد أعمل قدرته بحسب اختياره ، وأوقع العمل بنفسه خارجاً ، فالعمل منسوب إلى العبد . فكان للعمل فاعلان : فاعل مباشر ، وفاعل موجد للمقتضي ، بلا فرق بين أن تكون الأعمال حسنة أو قبيحة .
وقد ينسب العمل إلى واحد منهما دون الآخر في نظر العرف ، فالأعمال الحسنة إن صدرت من الشخص فهي منسوبة إلى من هيّأ مقدّمات ذلك الشيء ، أمّا الأعمال القبيحة إن صدرت فهي منسوبة إلى فاعلها .
مثلا لو بذل شخص زاداً وراحلة لشخص آخر في الذهاب إلى الحجّ ، وسعى
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإنسان 76 : 30 .
(2) الكهف 18 : 23 ـ 24 .
ــ[215]ــ
له في إنجاز مهمّاته ، وقد أحضر له طائرة خاصّة فذهب بها إلى الحجّ وأدّى الفريضة فالعرف يرى صدور الفعل ممّن هيّأ له المقدّمات دون فاعله . أمّا لو اتّفق أن استقلّ الطائرة ، وذهب بها إلى أماكن لا ترضي الله ورسوله ، وعمل ما عمل هناك ، فالفعل في نظر العرف منسوب إلى الفاعل ، دون من هيّأ المقدّمات .
وهكذا الأمر في أفعال العبيد ، فإن كانت أفعالهم حسنة استندت في نظر العرف إلى الله تعالى وإن فعلها العبد بنفسه ، وإن كانت قبيحة استندت إلى العبد نفسه دون ربّه ، وإن كان العمل في الحقيقة منسوباً إلى كليهما كما عرفت .
وعلى هذا يحمل ما ورد في بعض الروايات بحسب المضمون : إنّي أولى بحسناتك من نفسك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي(1)، فإنّ المنظور إليه هو النظر العرفي دون الدقّي ، وهذا المعنى لا يتنافى مع ما قلناه من صحّة استناد العمل إلى الله تعالى وإلى فاعله العبد .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكافي 1 : 160 / 12 .
|