المسألة الثانية : ما لو شكّ في سقوط واجب إذا حصل الفعل بدون إرادة واختيار ، وقد ادّعى شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) بأنّ مقتضى الإطلاق فيه عدم السقوط .
وليس الوجه فيه دعوى انصراف الخطاب إلى الاختيار ، إذ الاختيار ليس له دخل في المادّة ولا الهيئة .
أمّا المواد فلأنّها تدلّ على ذات الحدث ، كالضرب مثلا ، بلا فرق في صدوره عن اختيار ولا عن اختيار ، نعم بعض المواد وضعت لصدور الفعل عن اختيار
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1 : 152 وما بعدها .
ــ[231]ــ
كالتعظيم ، والتجليل ، والهتك ، والسخرية ونحو ذلك .
وأمّا الهيئات فهي مشتركة بين المواد الاختيارية وغيرها ، لأنّ بعض المواد ـ كما في هيئة علم ، وكرم ، وأبيض ، وأحمر ـ من قبيل الأوصاف دون الأفعال ، وفي بعضها من الأفعال . وهي قد تكون اختيارية كما لو قلنا قام زيد أو أكرم زيد عمراً وقد تكون غير اختيارية مثل أسرع النبض وتحقّق الموت . ومع هذا كيف يعقل أخذ الاختيار والإرادة في المادّة أو الهيئة .
بل الوجه فيما ذهب إليه شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه) هو أحد وجهين :
الوجه الأول : أنّ الغرض من الأمر هو بعث العبد نحو الفعل ، وإيجاد داع في نفسه لتحريك عضلاته نحو المأمور به ، وهذا يستلزم القدرة على المتعلّق . أمّا غير المقدور من الفعل فمن المستحيل تعلّق الطلب به ، لعدم وجود الغرض المذكور فيه .
فالمطلوب في باب الأوامر إنّما هو حصّة خاصّة ، تلك هي الفعل المقدور وهذه الحصّة هي التي تسقط الواجب دون غيرها . فالاختيار ليس جزءاً من مدلول المادّة أو الهيئة ، بل هو من شؤون الطلب . فلو شككنا في فعل ـ بعد أن أمر المولى به ـ أنّه يسقط بمجرّد حصوله ولو كان بدون اختيار ، أم لابدّ من إتيانه اختياراً ، فمقتضى ما قلناه في المسألة الاُولى عدم السقوط لو صدر بدون اختيار .
الوجه الثاني : أنّ الواجب كما يعتبر فيه الاتّصاف بالحسن الفعلي الذي هو المصلحة ، كذلك يعتبر فيه الاتّصاف بالحسن الفاعلي ، أعني به صدوره من الفاعل على وجه حسن يستحقّ أن يمدح عليه . ولا ريب أنّ الفعل الصادر بلا إرادة واختيار لا يتّصف بالحسن الفاعلي ، فلا يكون من أفراد الواجب ، كما وأنّ الواجب لا يسقط به . فقضاء لهذين الأمرين لو شككنا في سقوط واجب عند إتيانه بدون إرادة واختيار هو الحكم بعدم السقوط .
وفي كلا هذين الوجهين مناقشة :
ــ[232]ــ
أمّا في الأول : فلأنّ الطلب وإن سلّم امتناع تعلّقه بغير المقدور ، لاستحالة التكليف بذلك ، إلاّ أنّه ليس بمحال أن يتعلّق بالجامع بين المقدور وغيره ، لأنّ الجامع بين الاختياري وغير الاختياري اختياري لا محالة ، ولا مانع من اعتباره على ذمّة المكلّف لأنّ استحالة طلب الاُمور الخارجة عن الاختيار إنّما هي من جهة اللغوية وعدم الأثر ، ولا يتأتّى هذا في اعتبار الجامع بين الحصّة الاختيارية وغيرها ، فإنّ طبيعي الفعل يجمع المقدور وغيره ، فإنّ الدليل الذي قضى بامتناع تعلّق الطلب بغير المقدور إنّما هو العقل ، وهو لا يمنع من تعلّقه بالطبيعي ، الذي هو وجود الشيء المتحقّق تارةً في ضمن فرد مقدور واُخرى في ضمن فرد غير مقدور ، وذلك كما لو جيء به بدون إرادة واختيار ، فإنّ طبيعي الفعل يتحقّق خارجاً ، كما لو جيء به عن اختياره ، وبذلك يحصل الغرض ويسقط الواجب .
وإذا كان تعلّق التكليف بالجامع بين الاختياري وغيره أمراً ممكناً في مقام الثبوت ، فلأجل استكشاف أنّه متعلّق بالجامع المذكور أو بخصوص الحصّة الاختيارية منه ، لابدّ من ملاحظة مقام الإثبات ، فإن كان مطلقاً ، وكان المولى في مقام البيان ، ولم يقم قرينة على التقييد ، لزم التمسّك بالإطلاق وإثبات صحّة الفعل لو جيء به في ضمن فرد غير مقدور .
ولا يقاس الحكم هنا على المسألة المتقدّمة ، فإنّ الإطلاق هناك متعذّر لاستحالة اعتبار الجامع بين فعل المكلّف نفسه وفعل غيره في ذمّة شخص المكلّف . نعم يمكن اعتبار الجامع بين فعل نفسه والاستنابة ، إلاّ أنّك قد عرفت أنّ مجرد الاستنابة ما لم يتحقّق صدور الفعل من النائب لا يحتمل سقوط التكليف بها .
وأمّا في محلّ الكلام فيمكن تصوير جامع بين المقدور وغير المقدور ، يتعلّق الطلب به ، نعم إنّ الذي يرى التلازم بين إمكان الإطلاق وإمكان التقييد ـ كما هو
ــ[233]ــ
مذهب شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) ـ لا يرى إمكان تحقّق الإطلاق هنا ، لأنّ تقييد الواجب بغير المقدور متعذّر ، فالإطلاق أيضاً يكون متعذّراً .
هذا مع وجود إطلاق لفظي نستكشف به غرض المولى ، أمّا مع عدمه فالأصل العملي هو البراءة ، وذلك فإنّ تعلّق الوجوب بالجامع معلوم ، وإنّما الشكّ في التكليف بالخصوصية الزائدة ـ وهي الفعل المقدور ـ ومعه يرجع إلى البراءة ، وعليه فلو جيء بالفعل في ضمن فرد غير مقدور ـ بمعنى أنّه صادر عن لا إرادة واختيار ـ فهو مسقط للواجب .
وأمّا في الثاني : فالمناقشة فيه من ناحيتين :
الناحية الاُولى : أنّ اعتبار الحسن الفاعلي في الواجب لا دليل عليه ، وإنّما الدليل قام على اعتبار الحسن الفعلي ، وهو المصلحة في الفعل ، وهذه هي التي تدعو المولى إلى الإيجاب ، سواء كانت عامّة أم خاصّة .
الناحية الثانية : أنّنا لو اعتبرنا الحسن الفاعلي في الواجب إضافة إلى الحسن الفعلي ، لما كان إتيان الفعل عن إرادة واختيار كافياً في سقوط الواجب ، بل لابدّ من الإتيان به متقرّباً إلى الله سبحانه وتعالى ، والالتزام بهذا المعنى يستلزم إنكار الواجبات التوصّلية ، لأنّ كل واجب يفتقر إلى الحسن الفاعلي ، وهو يحتاج إلى قصد القربة ، والالتزام بهذا يتنافى مع تقسيم الواجب إلى تعبّدي وتوصّلي في بداية البحث ، وعليه فالمعتبر في الواجب إنّما هو الحسن الفعلي دون الفاعلي .
نعم هنا شيء آخر ، وهو أنّ مصداق الواجب الذي يوجب سقوط التكليف ينبغي أن يكون غير قبيح ، كما لو كان محرّماً ، فإنّ المحرّم لا يكون من أفراد الواجب ، وهذا غير اشتراط الواجب بالحسن الفاعلي .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سيأتي في ص242 .
ــ[234]ــ
فالمتحصّل ممّا تقدّم : أنّ الفعل الصادر عن غير إرادة واختيار يوجب سقوط الواجب ، خلافاً للمسألة المتقدّمة ، فإنّ الحكم فيها عدم السقوط لو قام به غير المكلّف .
|