الأصل العملي عند الشكّ في التعبّدية والتوصّلية
إنّه لو فرض أنّ دليل الواجب لم يكن لفظياً ، بل كان لبّياً كالإجماع ونحوه . أو كان الدليل عليه لفظياً ، ولكن المولى لم يكن في مقام البيان . أو كان في مقام البيان ولكن التزمنا باستحالة الإطلاق لعدم إمكان التقييد ، فهل الأصل العملي يقتضي توصّلية ذلك الواجب ، أو تعبّديته ؟
واعلم أنّ الأصل يختلف باختلاف المسالك ، من حيث إمكان أخذ داعي الأمر في المتعلّق واستحالته .
فعلى ما سلكناه من إمكان أخذ داعي الأمر في العبادة فحال هذا القيد كسائر الأجزاء والشرائط ، فمع الشكّ في اعتبار ذلك في المأمور به يكون المرجع عند الشكّ هو البراءة بكلا قسميها ، لأنّه شكّ في تكليف زائد على المأمور به .
وكذا على مسلك شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) من عدم إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر الأول ، بل لابدّ له من أمر ثان يدلّ على اعتباره واشتراطه في
ــ[257]ــ
العبادة ، فالمرجع عند الشكّ في اعتباره إلى البراءة ، لأنّه شكّ في تكليف زائد على الأمر الأول الذي دعا إلى إتيان الفعل مجرّداً عن كل قيد .
وأمّا على مسلك صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(1) فالأصل هو الاشتغال والوجه فيه : أنّه بعد أن ادّعى استحالة اعتبار قصد الأمر في متعلّق الأمر الأول والثاني ، واعتبر ذلك دخيلا في غرض المولى ، فمع الشكّ في تحقّقه يكون المرجع هو الاشتغال ، دون البراءة العقلية والنقلية ، هذا.
وقد فرّق (قدّس سرّه) بين ما نحن فيه ومسألة الأقل والأكثر الارتباطيين حيث جوّز هناك جريان البراءة الشرعية دون العقلية عند الشكّ في الزائد(2)، بينما نفى جريانها هنا .
والسرّ فيه : أنّ في مسألة الأقل والأكثر ـ كالشكّ في اعتبار السورة في الصلاة مثلا ـ علماً إجمالياً بتكليف ووجود غرض متعلّق إمّا بالأقل أو بالأكثر ، ومقتضاه لزوم الاحتياط ، وهو الإتيان بالأكثر ، ومعه لا تجري البراءة العقلية ، ولكن البراءة الشرعية بمقتضى إطلاقها كانت رافعة لذلك الشكّ . فإذا ضمّ ذلك إلى وجوب ما علمناه إجمالا ثبت لنا الإطلاق الظاهري ، الذي هو وجوب الصلاة بدون السورة .
أمّا ما نحن فيه فالعلم الإجمالي بوجود غرض للمولى متعلّق إمّا بالعبادة المجرّدة وإمّا بالعبادة المقرونة بداعي الأمر ، يوجب علينا الإتيان بالأكثر ، الذي معناه إتيان العمل بداعي الأمر . أمّا البراءة الشرعية فهي لا تجري هنا ، لأنّ المعتبر من جريانها في مورد أن يكون ذلك الشيء قابلا للوضع والرفع الشرعيين ، وحيث كان التقييد بداعي الأمر مستحيلا ، فليس لقصد الأمر وجوب ضمني شكّ فيه
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 75 .
(2) كفاية الاُصول : 363 ـ 366 .
ــ[258]ــ
لتجري البراءة فيه ، وتثبت لنا الإطلاق الظاهري .
وغير خفي أنّ ما أفاده (قدّس سرّه) هنا من الحكم بالاشتغال يبتني على مقدّمتين :
إحداهما : عدم جريان البراءة العقلية في المقام ، كالأقل والأكثر الارتباطيين .
ثانيتهما : عدم جريان البراءة الشرعية هنا ، من جهة استحالة التقييد .
وكلتا المقدّمتين ممنوعة .
أمّا الاُولى : فسوف يجيء ـ إن شاء الله تعالى في بحث الاشتغال(1) جريان البراءة العقلية ، وانحلال العلم الإجمالي بها .
وأمّا الثانية : فلما عرفت(2) من إمكان تقييد متعلّق الأمر بداعي القربة . مضافاً إلى ذلك أنّه على تقدير الالتزام هناك بوجوب تحصيل الغرض ، وأنّ العلم الإجمالي منجّز ، فلابدّ من الالتزام بالاشتغال في المقامين ، ولا تنفع البراءة الشرعية هناك في نفي الأكثر ، لأنّها لا تكون دليلا على أنّ الغرض متعلّق بالأقل لئلاّ يجب الاحتياط ، اللهمّ إلاّ أن تقوم أمارة على عدم وجوب الأكثر ، فتكون مثبتة لوفاء الأقل بالغرض ، باعتبار أنّ لوازمها حجّة .
والتحقيق أن يقال : إنّ البراءة تجري في كلا المقامين ، لما ذكرناه في مسألة الأقل والأكثر(3) من أن الغرض لا يزيد على أصل التكليف ، فكما أنّ التكليف غير الواصل لا يحكم العقل بوجوب إطاعته ، كذلك الغرض مثله ، فإنّه ما لم يصل إلى
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع مصباح الاُصول 2 (موسوعة الإمام الخوئي 47) : 495 وما بعدها .
(2) في ص240 وما بعدها .
(3) راجع مصباح الاُصول 2 (موسوعة الإمام الخوئي 47) : 507 ـ 508 .
ــ[259]ــ
المكلّف لا يجب تحصيله ، وإنّما يجب تحصيله بمقدار ما ثبت في لسان الدليل ، أمّا الزائد عليه فليس بواجب ، لأنّ تركه غير مستند إلى العبد ليؤاخذ عليه ، بل مستند إلى عدم بيان المولى ، كما أوضحناه في معنى البيان في بحث البراءة(1).
وقد ذكرنا هناك أنّ الحكم الواحد قابل للتفكيك في مرحلة التنجّز دون السقوط ، بأن تكون بعض أجزائه ساقطة وبعضها الآخر غير ساقطة، لأنّ التكليف بما أنّه واحد ارتباطي فالجزء أو الشرط المشكوك فيه إن كان دخيلا في الواجب واقعاً فهو لا يسقط عن الذمّة بدونه ، بل لابدّ من إتيانه ثانياً . وإن لم يكن دخيلا في الواجب في نفس الأمر ، فلا دخل له في حصول الامتثال وسقوط الواجب عن الذمّة . وعلى كل حال ، فأمر الواجب دائر بين أن يسقط بتمامه ، وأن يبقى في الذمّة بتمامه .
وهذا بخلاف مرحلة التنجّز ، فإنّ التفكيك جائز فيها . مثلا لو علم المكلّف باشتمال الصلاة على الركوع والسجود وغيرهما ، فلا يجوز له تركهما ، ولكن السورة لو تركها لم يكن معاقباً عليه ، لعدم ثبوتها .
فبناءً على ما قلناه من أنّ المراد من الغرض الواجب تحصيله هو الغرض الواصل ، فالبراءة العقلية تجري في المقامين .
اقتضاء إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسياً تعيينياً عينياً
إذا علم وجوب شيء وتردّد أمره بين النفسي والغيري ، وبين التعييني والتخييري ، وبين العيني والكفائي ، فما هو مقتضى القاعدة ؟ ولبيان الحقيقة ينبغي البحث عن جهتين : الاُولى : في الأصل العملي ، الثانية : في الأصل اللفظي .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع مصباح الاُصول 2 (موسوعة الإمام الخوئي 47) : 328 .
ــ[260]ــ
الجهة الاُولى : قد اُرجئ البحث عنها إلى محلّه ، فإنّ الترديد الأول مذكور في بحث مقدّمة الواجب(1)، والترديدان الآخران مذكوران في بحث البراءة(2).
الجهة الثانية : أنّ مقتضى الأصل اللفظي إن كان في البين إطلاق ـ وتمّت مقدّمات الحكمة ـ هو أنّ الوجوب نفسي ، تعييني ، عيني .
أمّا الأول : فلأنّ الواجب الغيري عبارة عمّا كان قيداً في المأمور به ، على نحو يكون القيد خارجاً والتقييد داخلا ، أو فقل : إنّ الوجوب الغيري عبارة عن تقييد الواجب النفسي بأمر خارج عن حقيقته من طرف الشارع المقدّس ، ولولا التقييد المذكور لما حصلت العلاقة بين القيد والمقيّد . وهذا المعنى يفتقر في بيانه إلى مؤونة زائدة ، ولابدّ والحالة هذه من توقّف فعلية وجوب القيد على فعلية وجوب المقيّد . وهذا بخلاف الواجب النفسي ، فإنّه غير محتاج إلى ذلك .
وإذا ظهر هذا المعنى فلإثبات نفسية الوجوب طريقان :
الطريق الأول : الأخذ باطلاق دليل الواجب النفسي ، وطرد كل ما يحتمل اعتباره قيداً فيه ، ولازم هذا أنّ الواجب المحتمل دخله في المأمور به نفسي واللوازم حجّة في باب الاُصول اللفظية .
الطريق الثاني : التمسّك باطلاق دليل الواجب المحتمل كونه نفسياً ، وذلك لأنّ الوجوب إن كان غيرياً فهو مشروط بوجوب آخر نفسي لا محالة ، وإن كان نفسياً فهو مطلق وغير مقيّد به . فإذا شكّ في أنّه نفسي أو غيري ، فمقتضى إطلاقه وعدم تقييده بما إذا وجب شيء آخر هو الحكم بأنّه نفسي .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص373 .
(2) راجع مصباح الاُصول 2 (موسوعة الإمام الخوئي 47) : 520 ، ولكنّه لم يصرّح بالدوران بين العيني والكفائي .
ــ[261]ــ
والفرق بين الإطلاقين أنّ الأول إطلاق بالنسبة إلى مادّة الواجب المعلوم كونه نفسياً أو غيرياً ، والثاني إطلاق بالنسبة إلى هيئة الوجوب المشكوك فيه بين النفسي والغيري ، فإذا ثبت كلا الإطلاقين أو أحدهما كفى في الحكم بالنفسية .
أمّا الثاني : وهو التمسّك بالإطلاق لإثبات الوجوب التعييني دون التخييري ، فبيانه محتاج إلى توضيح حقيقة الواجب التخييري .
الوجه الأول : أن يدعى أنّ الوجوب التخييري عبارة عن وجوب كل من الفردين أو الأفراد تعييناً ، ولكنّه مشروط بعدم الإتيان بالآخر . مثلا العتق والصيام والإطعام في كفّارة شهر رمضان كل واحد منها واجب تعييني ، ولكن وجوبه كذلك مشروط بعدم الإتيان بالآخر .
وفيه أولا : أنّه مستلزم لتعدّد العقاب عند المخالفة .
وثانياً : أنّ تعدّد الواجب إنّما هو بتعدّد الغرض ، فإنّ كل واجب لا يصدر إلاّ عن غرض واحد ، وبما أنّه ليس في البين هنا إلاّ غرض واحد ، فقد انكشف أنّه ليس عندنا في البين إلاّ وجوب واحد .
الوجه الثاني : أن نقول : إنّ الوجوب متعلّق بالجامع الانتزاعي ، وهو مفهوم أحد الفردين أو الأفراد ، وبقاؤه مشروط بعدم تحقّق شيء منهما أو منها خارجاً وذلك لاستكشافه من وحدة الغرض المقتضية لوحدة التكليف ، ومن الممكن تعلّق التكليف بأمر انتزاعي بعد ما كان منشأ الانتزاع مقدوراً للمكلّف ، فكل فرد لو لاحظناه كان وافياً بالغرض المترتّب على الجامع .
وعلى كلا القولين فالإطلاق يقتضي التعيين ، دون التخيير .
أمّا على الوجه الأول : فالتمسّك بالإطلاق لإثبات التعيين واضح ، لأنّه لو شكّ في وجوب المأتي به مشروطاً بعدم إتيان الآخر أمكن الأخذ بالإطلاق وطرد الاحتمال المذكور ، وبه يثبت الوجوب التعييني .
ــ[262]ــ
وأمّا على الوجه الثاني : فدوران الأمر بين التعييني والتخييري وإن كان مرجعه إلى دوران الأمر في متعلّق التكليف بين التوسعة والضيق ، إلاّ أنّه لا مانع من الأخذ بالإطلاق ، فإنّ الإطلاق في مقام الإثبات وعدم التقييد بذكر العدل لما تعلّق به الأمر كاشف عن اختصاص الوجوب بما تعلّق به الأمر ، وأنّه لا يسقط بالإتيان بما يحتمل أن يكون عدلا له ، فيثبت بذلك أنّ الوجوب تعييني ، لا تخييري .
وأمّا الثالث ـ وهو التمسّك بالإطلاق لإثبات الوجوب العيني دون الكفائي ـ فالأمر فيه كالأمر في الواجب التخييري ، إذ تارةً يقال بأنّ الوجوب متعلّق بكل فرد من أفراد المكلّفين مشروطاً بعدم قيام فرد آخر منهم بالمأمور به ، واُخرى يقال بتعلّقه بالجامع ، وهو الطبيعة الصالحة للانطباق على كل واحد ، وبقاء الوجوب على فرد مشروط بعدم إتيان فرد آخر .
فالفرق بين التخييري والكفائي ليس إلاّ أنّ الأول متعلّق بالمأمور به ، والثاني بالمكلّفين . أمّا وجه التمسّك بالإطلاق فيعلم ممّا مرّ .
فالمتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ مقتضى الأصل اللفظي في الموارد الثلاثة كون الوجوب نفسياً ، تعيينياً ، عينياً .
|