الأمر عقيب الحظر أو توهّمه
وقع نزاع بين القوم في دلالة صيغة (افعل) الواقعة عقيب الحظر أو توهّمه على الإباحة ، كما هو المعروف . أو على الوجوب ، كما ذهب إليه الكثير من العامّة(1). أو تبعيته لما قبل النهي إن علّق الأمر بزوال علّة النهي ، وإن لم يعلّق فأحد الأمرين .
والظاهر أنّه لا دلالة لها على واحد من الوجوه المذكورة ، وذلك لأنّ الحمل
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المحصول 2 : 96 ، لكن لاحظ منهاج الوصول : 256 .
ــ[263]ــ
على الوجوب يتوقّف على القول بوضع الصيغة للوجوب ، وأن تكون أصالة الحقيقة حجّة تعبّدية ، لا من جهة بناء العقلاء على العمل بالظهورات ـ كما نسب ذلك إلى السيّد المرتضى (قدّس سرّه)(1) ـ وقد عرفت في بحث دلالة الأمر على الوجوب(2)أنّ الصيغة لم توضع للدلالة عليه . وعلى تقدير تسليمه فحجّية أصالة الحقيقة تعبّداً غير مقبولة ، والصيغة غير ظاهرة في الوجوب ، إذ من المعلوم أنّ العرف لا يستطيع استظهار المعنى الحقيقي من اللفظ إذا احتفّ الكلام بما يحتمل القرينية .
فبناءً على ظهور الأمر في الوجوب وضعاً ، أو استفادة الوجوب بحكم العقل ما لم يرد ترخيص في الترك من المولى ، لا يمكن استفادة الوجوب من الصيغة الواقعة عقيب الحظر ، وذلك لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، إذ من الممكن أن يراد من الصيغة معنى غير الوجوب لو وقعت عقيب الحظر أو توهّمه ، ومعه لا مجال للظهور الفعلي في الوجوب .
وأمّا دعوى الحمل على الإباحة ، أو تبعيتها لما قبل النهي إن علّق الأمر بزوال علّة النهي ، فهي أيضاً ممنوعة ، لأنّ وقوعها عقيب الحظر أو توهّمه ليس قرينة عامّة في الحمل على أحدهما ، وحيث اختلفت الموارد استعمالا أصبح اللفظ مجملا ، لا يمكن حمله على الوجوب ، لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية . ولا على الإباحة أو ما قبل النهي ، لعدم القرينة على ذلك . فلابدّ إذن من الرجوع إلى أصل آخر لفظي أو عملي .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لاحظ الذريعة إلى اُصول الشريعة 1 : 13 .
(2) في ص218 ـ 222 .
ــ[264]ــ
المرّة والتكرار
لا إشكال في انحلال الحكم في النواهي الشرعية بانحلال الموضوع خارجاً مثل قضية لا تشرب الخمر ، حيث يستفاد منها ـ كما في سائر القضايا الحقيقية ـ أنّه متى ما وجد خمر خارجاً كان محكوماً بالحرمة ، ومعنى هذا تعدّد الحكم بتعدّد الموضوع .
وأمّا في الأوامر الشرعية فقد يستفاد ذلك منها أيضاً ، بسبب الدليل الخارجي ، كما في الصلاة والصوم ، كقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) الخ(1) وقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)(2) فإنّ المستفاد منهما بوسيلة الدليل الخارجي تكرار العمل بتكرّر الوقت وتحقّقه خارجاً .
وقد يستفاد منها العكس وهو المرّة ، بسبب الدليل الخارجي أيضاً ـ كالحجّ ـ مثل قوله تعالى : (وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا)(3) حيث يستفاد منها أنّ مجرد تحقّق الاستطاعة التامّة لدى المكلّف تقتضي وجوب الحجّ عليه ، فلو امتثل مرّة واحدة كفى ، ولا يلزمه التكرار بعد ذلك .
ومن المعلوم أنّ الصيغة في كلا الموردين مستعملة في معناها الموضوعة له واستفادة الانحلال وعدمه إنّما كان بسبب الدليل الخارجي ، لا أنّه بسبب أنّ الوضع يقتضي الانحلال ، لتكون في موارد عدمه مجازاً ، أو بالعكس .
والوجه في ذلك : أنّ الهيئة وضعت لإنشاء الوجوب أو إبراز شيء على اعتبار المكلّف ، والمادّة تدلّ على نفس الطبيعة والماهية ، ومن المعلوم خروج الانحلال
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإسراء 17 : 78 .
(2) البقرة 2 : 185 .
(3) آل عمران 3 : 97 .
ــ[265]ــ
وعدمه عن مفاد كل منهما .
والحاصل : أنّ المرّة والتكرار في الأفراد الطولية ، والوجود الواحد والمتعدّد في الأفراد العرضية كلّه خارج عن حقيقة معنى الصيغة ودلالتها على الموضوع له الذي هو إنشاء الوجوب المتعلّق بصرف الطبيعة ، الصادق على المرّة الواحدة في ضمن وجود واحد . اللهمّ إلاّ أن يقوم دليل بالخصوص على تقيّد الطلب بإحدى الخصوصيات المذكورة ، فلابدّ من اتّباعه .
ومع الشكّ في ذلك فما هو مقتضى الأصل اللفظي والعملي ؟
أمّا الأصل اللفظي ـ الذي يستفاد من الإطلاق بعد تمامية مقدّمات الحكمة ـ ففي الأفراد الطولية من المرّة والتكرار هو الاكتفاء بالمرّة الواحدة ، لا من جهة مدخلية ذلك في هيئة الطلب أو مادّته ، إذ ـ كما عرفت ـ عدم دلالتها على شيء من ذلك ، بل الوجه فيه أنّ الطلب متعلّق بصرف الطبيعة ، وهي كما تصدق بالمرّة الواحدة تصدق بالتكرار ، إلاّ أنّ الاكتفاء بها في ضمن المرّة الواحدة قهري ، لصدق الطبيعة خارجاً الموجب لسقوط الأمر .
وأمّا في الأفراد العرضية من الوجود الواحد أو المتعدّد فكذلك بعد أن عرفت تعلّق الطلب بالطبيعة الجامعة بين الوجود الواحد والمتعدّد . فمتى ما تحقّق الفرد الواحد في ضمن الوجود الواحد كان ذلك مصداقاً للطبيعة ، ومعه يسقط الطلب لا محالة .
وأمّا الأصل العملي : ففي الأفراد الطولية من المرّة أو التكرار فكذلك ، فإنّا لو شككنا أنّ المعتبر هو المرّة الواحدة أو المرّتان ـ ليكون غير ممتثل في المرّة الاُولى ـ فمقتضى الأصل هو البراءة في نفي اعتبار كلا القيدين : بشرط شيء أو بشرط لا فيثبت الإطلاق في مرحلة الظاهر ، ويكتفى بالمرّة لا محالة .
وأمّا في الأفراد العرضية من الوجود الواحد أو المتعدّد فكذلك أيضاً ، فإنّا لو
ــ[266]ــ
شككنا في أنّه يعتبر في الإتيان بفرد أن يكون مشروطاً بشرط لا ، أو بشرط شيء بالنسبة إليه ، فالبراءة قاضية بنفي كلا التقديرين ، ومعه يثبت الإطلاق في مرحلة الظاهر ، ويكتفى بالوجود الواحد .
|