أمّا البحث عن المسألة الاُولى : فليعلم أنّ محل النزاع هو ما إذا كان المأتي به في أوّل الوقت مأموراً به بالأمر الواقعي الاضطراري ، أمّا إذا كان مأموراً به بالأمر الخيالي أو الظاهري فهو مشمول للمسألتين الآتيتين .
توضيح ذلك : أنّ الموضوع للأمر الواقعي ] الاضطراري [ إمّا أن يكون وجود العذر حين الإتيان بالواجب ، أو العذر المستوعب لجميع الوقت ، ومورد الكلام هو الصورة الاُولى . أمّا الصورة الثانية فليست من مصاديق الأمر الاضطراري ، إذ أنّ جواز البدار إلى الإتيان بالعمل الاضطراري إمّا أن يكون للقطع باستيعاب العذر ، أو لقيام الحجّة ـ كالبيّنة ـ على الاستيعاب ، ومع انكشاف الخلاف في هاتين الصورتين ينكشف أنّه لا أمر اضطراري ابتداءً ليقال إنّه مجز عن الواقع أو لا . فمحل البحث حقيقة في المأتي به بالأمر الاضطراري وإجزائه عن الأمر الواقعي لو انكشف له العذر أثناء الوقت .
وقد ذهب صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(1) إلى إنّ الأمر لا يخلو من صور أربع :
الصورة الاُولى : أن يكون المأمور به بالأمر الاضطراري وافياً بتمام الغرض والمصلحة التي اشتمل عليها الأمر الواقعي ، لكن جواز البدار حينئذ يدور مدار كون العمل بمجرد الاضطرار مطلقاً ، أو بشرط الانتظار ، أو مع اليأس عن طروء
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 84 .
ــ[277]ــ
الاختيار ذا مصلحة ووافياً بالغرض .
الصورة الثانية : أن يكون وافياً ببعض المصلحة ، ولا يمكن استيفاء الباقي .
الصورة الثالثة : أن يكون وافياً بالبعض ، ويجب تدارك الباقي .
الصورة الرابعة : أن يكون وافياً بالبعض ، ويستحبّ تدارك الباقي .
أمّا الصورة الاُولى : فلا إشكال في إجزائها عن الأمر الواقعي ، وذلك لعدم الفرق بين صورتي القدرة على القيد وعدمه في وفاء المأتي به بالملاك .
وأمّا الصورة الثانية : فلابدّ من القول بالإجزاء فيها ، وذلك لعدم إمكان تدارك الباقي من المصلحة ، نعم لا يجوز البدار حينئذ ، لأنّ فيه تفويت مقدار من المصلحة ، إلاّ أن يكون في البدار مصلحة أهم من المقدار الفائت من مصلحة الواجب ، بل لولا أهمية مصلحة الوقت لما جاز الأمر بذلك الناقص ، لأنّه مفوّت لبعض الغرض والمصلحة ، ولكن مصلحة الوقت اقتضت أن يأمر الشارع بالناقص وإن استلزم امتثاله فوات مقدار من مصلحة الواجب .
وأمّا الصورة الثالثة : فالمتيقّن فيها القول بعدم الإجزاء ، لأنّ المأتي به حال الاضطرار ناقص عن المصلحة الواقعية ، والمفروض أنّ المكلّف يستطيع بعد ارتفاع العذر أن يأتي بالعمل تامّاً . فهو مخيّر بين البدار بإتيان الناقص ، وإعادة عمله بعد ارتفاع العذر ، أو الانتظار حتّى ارتفاع العذر وإتيان العمل الاختياري تامّاً .
وأمّا الصورة الرابعة : فلابدّ من القول بالإجزاء فيها أيضاً ، وذلك لعدم إلزام الشارع بالباقي .
هذا بحسب مقام الثبوت ، وأمّا بحسب مقام الإثبات فقد حكم(1) بالإجزاء من جهة إطلاق الدليل إن كان ، وإلاّ فبأصالة البراءة من وجوب الإعادة والقضاء .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 85 .
ــ[278]ــ
وقد ادّعى شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) الإجزاء في جميع الصور المتقدّمة ثبوتاً ، بلا حاجة إلى معرفة مرحلة الإثبات ، وذلك لأنّ تكليف العبد حين العذر بالأمر الاضطراري وتكليفه بإعادة العمل بعد ارتفاعه يقتضي أن يكون المطلوب من المكلّف ست صلوات في اليوم الواحد ، مع أنّ الروايات الشريفة(2) والإجماع والضرورة من الدين تقتضي الخمس ، دون الست . وأمّا الجمع بين الظهر والجمعة أو القصر والإتمام في بعض الموارد فإنّما هو للاحتياط .
ومن هنا يعلم إجزاء المأتي به بالأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي إذا انكشف العذر أثناء الوقت .
وغير خفي أنّ ما جاء به شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه) متين جدّاً ، ولكنّه أخصّ من المدّعى ، حيث يتم في الصلاة خاصّة ، لقيام الإجماع والروايات ، دون غيرها من سائر الواجبات ، مع أنّ البحث اُصولي ، لا يختصّ بباب دون باب .
ثمّ اعلم أنّ ما جاء به صاحب الكفاية (قدّس سرّه) من تقسيم الأمر الاضطراري إلى ما يترتّب عليه الإجزاء ـ وهو الصورة الاُولى ، والثانية والرابعة ـ وإلى ما لا يترتّب عليه الإجزاء وهو الصورة الثالثة ، فهو ممّا لا يمكن الالتزام به ، إذ الأمر الاضطراري في الصورة الثالثة غير معقول ، لاستلزامه التخيير بين الأقل والأكثر كما اعترف هو (قدّس سرّه) بذلك ، وهو غير ممكن كما سيجيء البحث عنه إن شاء الله تعالى(3)، فإنّ الشارع بعد أن ألزم العبد باتيان العمل التامّ بعد ما يرتفع العذر ـ سواء بادر إلى إتيان الناقص أم لم يبادر ـ فلا معنى لإيجابه
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1 : 284 .
(2) الوسائل 4 : 10 / أبواب أعداد الفرائض ب2 .
(3) راجع محاضرات في اُصول الفقه 3 (موسوعة الإمام الخوئي 45) : 229 وما بعدها .
ــ[279]ــ
الإتيان بالفعل الناقص في بداية الوقت ، إذ لازمه أن يكون العمل الناقص واجباً على تقدير المسارعة ، وليس بواجب على تقدير عدم المسارعة ، وهو باطل .
وبعبارة اُخرى : الأقل هو إتيان العمل تامّاً بعد ارتفاع العذر ، والزائد عليه وهو الإتيان بالعمل ناقصاً حال الاضطرار . فالمكلّف إذا كان مخيّراً بين الإتيان بالناقص حال الاضطرار مع الإتيان بالتامّ بعد الارتفاع ، وبين الإتيان بالعمل تامّاً فقط بعد زوال العذر ، فلازمه تعيّن الإتيان بالتامّ وتخيير المكلّف بين الإتيان بالناقص وعدمه ، ومعه كيف يمكن الالتزام بوجوب الناقص أيضاً ، فإنّ مرجعه إلى أنّه واجب يجوز تركه لا إلى بدل ، وهو غير معقول .
|