ــ[307]ــ
مقدّمة الواجب
ويقع البحث عن اُمور :
الأمر الأول : في بيان الوجوب المبحوث عنه في المقام ، فنقول : إنّ الوجوب المبحوث عنه هنا ليس هو الوجوب العقلي ، ضرورة أنّ العقل بعد أن أدرك توقّف الواجب خارجاً على وجود المقدّمة ، ورأى أنّ تركها يؤدّي إلى ترك نفس الواجب ، فلابدّ أن يحكم بلزوم إتيانها ، مراعاةً للامتثال ، وتأميناً من العقوبة وعلى هذا فإنّ معنى الوجوب العقلي هو اللاّبديّة العقلية . وإنكار اللاّبديّة العقلية مساوق لإنكار نفس المقدّمية ، وأنّ بحثنا إنّما كان عن وجوب المقدّمة بعد الفراغ عن أصل مقدّميتها .
كما وإنّ الوجوب المبحوث عنه هنا ليس هو الوجوب النفسي الثابت لذي المقدّمة ، باعتبار صحّة إسناده إلى المقدّمة مجازاً وعدم صحّته ، وذلك فإنّ الاُصولي ليس من شأنه أن يبحث عن صحّة الإسناد المجازي وعدم صحّته ، بل وظيفته البحث عمّا يقع في طريق الاستنباط .
كما وأيضاً أنّ الوجوب المبحوث عنه ليس هو الوجوب الغيري الترشّحي الفعلي ، بأن يدّعى أنّ المولى متى أوجب شيئاً فقد أوجب جميع مقدّماته فعلا ، وذلك فإنّ الوجوب الفعلي يقتضي التفات الآمر دائماً إليه وملاحظة نفس المقدّمة عند إيجاب ذيها ، وكثيراً ما لا يلتفت الآمر إلى نفس المقدّمة فضلا عن وجوبها ، لغفلة
ــ[308]ــ
منه .
فالصحيح أن يقال : إنّ وجوب المقدّمة المبحوث عنه هنا وجوب غيري ترشّحي تبعي ، بمعنى أنّ الآمر لو التفت إلى نفس المقدّمة لأوجبها كما أوجب ذيها . فكل مقدّمة متّصفة بالوجوب ، لاشتمالها على هذا الملاك . والأولى تسمية ذلك بالوجوب الترشّحي الارتكازي .
الأمر الثاني : هل المسألة المبحوث عنها هنا من المسائل الفقهية ؟ ربما يدعى ذلك ، فإنّ البحث عن ثبوت الوجوب يسمّى بحثاً فقهياً لا محالة ، فإنّ الوجوب أحد الأحكام الخمسة التي يبحث عنها في علم الفقه .
وقد أورد على ذلك شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) بأنّ الفقه إنّما يبحث فيه عن بيان أحوال موضوعات خاصّة ، كالصلاة والزكاة والخمس والحجّ مثلا ، ومن المعلوم أنّ وجوب المقدّمة حكم لكلّي المقدّمة التي تنطبق على مفاهيم مختلفة ، ولا ينحصر صدقها بموضوع خاصّ ، فلا تدخل ضمن مسائل الفقه .
ولا يخفى ما فيه ، فإنّ المباحث الفقهية لا تقتصر في البحث عن بيان أحوال الموضوعات الخاصّة ، بل تشمل حتّى العناوين العامّة القابلة للصدق على الأفعال المختلفة ماهية وعنواناً ، كوجوب الوفاء بالنذر ، فإنّه منطبق على النذر المتعلّق بالصوم ، والمتعلّق بزيارة الحسين (عليه السلام) والمتعلّق بصلاة ركعتين ، وغير ذلك من المصاديق المختلفة التي تندرج تحت عنوان النذر .
فالصحيح أن يقال في وجه خروج المسألة عن المباحث الفقهية : إنّ البحث هنا ليس عن ثبوت الوجوب للمقدّمة وعدمه ، وإنّما هو عن ثبوت الملازمة بين طلب الشيء وطلب مقدّماته ، سواء كان الطلب وجوبياً أو استحبابياً ، وهو ليس
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1 : 310 .
ــ[309]ــ
بحثاً فقهياً .
وقد يدّعى أنّ البحث عن وجوب المقدّمة بحث كلامي ، لأنّ المسألة عقلية . ولكنّه غير صحيح ، إذ ليس كل مسألة عقلية هي من المسائل الكلامية .
وربما يدّعى(1) أنّ البحث في هذه المسألة داخل في المبادئ الأحكامية ، ولكنّه يندفع بما سبق(2) بيانه من أنّ المبادئ لا تخلو عن أن تكون إمّا تصوّرية أو تصديقية . والمبادئ التصوّرية هي التي يبحث فيها عن نفس الموضوع أو المحمول والبحث عن وجوب المقدّمة لا يعود إلى ذلك . وأمّا المبادئ التصديقية فهي التي يتوقّف عليها تشكيل قياس العلم ، ومنها المسائل الاُصولية بالنسبة إلى علم الفقه لأنّها التي تقع نتيجتها في طريق الاستنباط ، وقد قلنا بأنّ المبادئ الأحكامية لا نتصوّرها في قبال المبادئ التصوّرية والتصديقية .
والحقّ في المقام أن يقال : إنّ البحث عن وجوب المقدّمة من المسائل الاُصولية العقلية غير المستقلّة .
أمّا كونها من المسائل العقلية فواضح ، لأنّ الحاكم بهذه الملازمة على تقدير تحقّقها هو العقل ، خلافاً لصاحب المعالم (قدّس سرّه)(3) حيث يستفاد من كلامه أنّ البحث لفظي ، فقد علّل نفي وجوب المقدّمة بأنّه لو دلّ عليه لدلّ بإحدى الدلالات الثلاث : المطابقة أو التضمّن أو الالتزام .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المدّعي هو المحقّق الأصفهاني في هداية المسترشدين 2 : 84 ، والبهائي في زبدة الاُصول : 78 من جهة عدّه البحث من المبادئ الأحكامية التي هي المطلب الثالث من المنهج الأوّل في مقدّمات الكتاب .
(2) لم يسبق ذلك في المباحث المتقدّمة من الكتاب .
(3) معالم الدين : 62 .
ــ[310]ــ
وأمّا كونها من المسائل العقلية غير المستقلّة ، فلأنّ استنتاج الحكم الشرعي منها موقوف على ضم مقدّمة شرعية ، وهي حكم الشارع في وجوب ذيها ، بخلاف الأحكام العقلية المستقلّة كباب التحسين والتقبيح العقليين ، لعدم توقّفه على أيّة مقدّمة اُخرى غير عقلية .
|