والذي يظهر من مكاسب الشيخ (رحمه الله) في باب التعليق(2) خلاف ما نسب إليه ، حيث ادّعى (رحمه الله) جواز التعليق في البيع ، إلاّ أنّ الإجماع قام على بطلان العقد مع التعليق في المنشأ . وهذا أمر مخالف لما نقل المقرّر عنه .
وكيف كان ، ففي المقام جهتان ينبغي البحث عنهما .
الجهة الاُولى : في دعوى استحالة رجوع القيد إلى مفاد الهيئة .
الجهة الثانية : في لزوم رجوع القيد إلى المادّة .
استحالة رجوع القيد إلى مفاد الهيئة
أمّا البحث عن الجهة الاُولى : فيعود إلى دعاو ثلاث :
الدعوى الاُولى : ما ذكره صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(3) من أنّ مفاد الهيئة معنى حرفي ، والمعاني الحرفية جزئية ، ولا يعقل الإطلاق والتقييد في المعاني الجزئية ، لاستحالة فرض صدقها على كثيرين .
ـــــــــــــ (2) راجع كتاب المكاسب 3 (تراث الشيخ الأعظم 16) 170 ، حيث قال : فلا ريب أنّه أمر متصوّر واقع في العرف والشرع في الأوامر والمعاملات ... .
(3) كفاية الاُصول : 95 ـ 96 .
ــ[326]ــ
وغير خفي أولا : أنّه لا دليل على كون المعاني الحرفية جزئية ، فإنّا قد ذكرنا ـ في مبحث المعنى الحرفي(1)ـ أنّ الحروف وضعت لتضييق المعاني الاسمية ، ولا مانع من أن يكون المعنى بعد تضيّقه قابلا للصدق على كثيرين ، وذلك كما لو كان أحد الطرفين كلّياً ، مثل : سِر من البصرة إلى الكوفة . فإنّ السير كما كان قبل التضييق كلّياً صالحاً للانطباق على كثيرين ، كذلك بعد تضييقه . ولا ريب أنّ المعنى الحرفي يكون كلّياً بتبعه .
ثانياً : أنّ للتقييد معنيين ، أحدهما : التضييق ، ويقابله الإطلاق بمعنى التوسعة . ثانيهما : التعليق ، ويقابله الإطلاق بمعنى التنجيز . والذي يستحيل اتّصاف الجزئي بالتقييد إنّما هو بالمعنى الأول ، دون الثاني ، فإنّ اتّصاف الجزئي بالمعنى الثاني لا محذور فيه ، إذ كما يمكن تعليق وجود الكلّي بشيء يمكن تعليق الجزئي به .
الدعوى الثانية : ما ذكره شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(2) من أنّ الهيئات ـ التي هي معان حرفية ـ وإن كانت كلّية ، إلاّ أنّها ملحوظة باللحاظ الآلي ، ولا ريب أنّ الإطلاق والتقييد من شؤون المعاني الملحوظة باللحاظ الاستقلالي ، ولهذا امتنع رجوع القيد إلى مفاد الهيئة .
وغير خفي أولا : أنّه ليس من المسلّم دائماً أن يكون الحرف ملحوظاً آلياً وطريقاً للغير ، فهناك بعض الموارد يلحظ الحرف فيها بلحاظ استقلالي ، ويكون منظوراً إليه بنفسه ، وذلك كما لو علمنا أنّ زيداً حلّ في بلد ، ونعلم أنّه سكن في مكان ، ولكنّه لا نعلم المكان بخصوصه ، فنسأل عن تلك الخصوصية التي هي مدلول الحرف فنقول : سكن زيد في أي مكان . ولا ريب أنّ المنظور إليه حينئذ نفس
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص63 .
(2) أجود التقريرات 1 : 194 ـ 195 .
ــ[327]ــ
الخصوصية ، مع العلم ببقية جهات القضية .
ثانياً : أنّ كون المعنى الحرفي لابدّ وأن يلحظ باللحاظ الآلي إنّما يوجب المنع عن تقييده حين لحاظه ، وأمّا إذا قيّد المعنى أولا ثمّ لوحظ المقيّد آلياً في مقام الاستعمال فلا محذور فيه .
الدعوى الثالثة : أنّ رجوع القيد إلى الهيئة غير معقول ، لأنّه مستلزم للتفكيك بين الإيجاب والوجوب ، باعتبار أنّ الإيجاب فعلي ، والوجوب مشروط بأمر متأخّر . ومرجع هذا إلى التفكيك بين الإيجاد والوجود ، وهو بديهي البطلان .
بيان ذلك : أنّ إيجاب المولى إنّما يتحقّق بانشائه ، فإذا تحقّق الإيجاب وتحقّق معه الوجوب بنفس الإنشاء فقد رجع القيد إلى المادّة ، وصار الوجوب فعلياً كالإيجاب ، وإن كان الواجب أمراً استقبالياً . وأمّا إذا لم نقل بذلك ، والتزمنا برجوع القيد إلى الهيئة ، لزم تحقّق الإيجاب فعلا دون الوجوب ، حيث إنّه يتحقّق عند تحقّق قيده وشرطه ، ولازم هذا انفكاك الإيجاب عن الوجوب ، لعدم إنشاء آخر كما هو الفرض ، ومرجعه إلى تخلّف الوجود عن الإيجاد ، وهو محال ، فإنّ كل موجود إذا وجد في الخارج فبملاحظة فاعله إيجاد ، وبملاحظة قابله وجود .
وبعبارة اُخرى : لا مناص من الالتزام بأحد أمرين : إمّا كون القيد راجعاً إلى المادّة فالوجوب فعلي ، أو كونه راجعاً إلى الهيئة فيتأخّر الوجوب عن الإيجاب وحيث لا سبيل إلى الثاني تعيّن الأول بالضرورة .
وأجاب عن هذا صاحب الكفاية (قدّس سرّه) بما لفظه : المنشأ إذا كان هو الطلب على تقدير حصوله ، فلابدّ أن لا يكون قبل حصوله طلب وبعث ، وإلاّ لتخلّف عن إنشائه(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 97 .
ــ[328]ــ
وفيه : أنّه لو أمكن إنشاء أمر معلّق على تقدير ، فما أفاده (رحمه الله) من لزوم كون المنشأ تقديرياً وغير موجود حين الإنشاء تام ، إلاّ أنّ الحديث في إمكانه وعدمه ، وهذا نظير ما تقدّم(1) في الشرط المتأخّر من القول بأنّ الشرط لم يتأخّر بل المتأخّر بوصف تأخّره صار شرطاً ، فلو كان متقدّماً كان خلفاً . وقد مرّ أنّه لا يصحّح المطلب .
والصحيح أن يقال : إنّ منشأ الإشكال هو توهّم أنّ الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ في نفس الأمر ، فالجملة الإنشائية إنّما هي آلة لإيجاد معانيها في نفس الأمر وحينئذ يتوجّه الإشكال المزبور ـ كيف يتأخّر الوجود عن الإيجاد ـ ولكنّك قد عرفت في محلّه ـ في باب الخبر والإنشاء(2)ـ بأنّ هذا المبنى فاسد ، ولا يمكن المساعدة عليه ، إذ ليس للفظ إلاّ الحكاية والإبراز ، ولا يكون اللفظ آلة لإيجاد أيّ معنى أصلا ، غاية الأمر أنّ المبرز قد يكون قصد الحكاية فيطلق عليه الإخبار ، وقد يكون اعتبار شيء فيطلق عليه الإنشاء .
ثمّ إن اعتبر على ذمّة المكلّف أمراً فعلياً فالمعتبر فعلي ، وإن اعتبر أمراً مقيّداً بشيء متأخّر فالمعتبر استقبالي أو تقديري .
فعلى هذا إن اُريد من الإيجاب إبراز ما اعتبر في عالم الاعتبار النفساني ، فلا إشكال في فعلية الإبراز ، والمبرز ، والبروز . ولا يكون شيء منها معلّقاً على أمر متأخّر .
وإن اُريد به نفس ذلك الاعتبار النفساني فبما أنّه من الاُمور النفسانية ذات الإضافة مثل العلم والشوق ونحوهما ، فلا محذور في تعلّقه بأمر متأخّر ، إذ كما يمكن
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في ص316 .
(2) في ص67 .
ــ[329]ــ
تعلّق العلم بأمر متأخّر ، كذلك يمكن تعلّق الاعتبار بأمر متأخّر . فلا فرق بين أن يكون المعلوم متأخّراً عن العلم مثل قيام زيد غداً ، وبين أن يكون المعتبر متأخّراً عن الاعتبار كوجوب قيام زيد غداً ، فالوجوب حينئذ استقبالي ، والتفكيك إنّما هو بين الاعتبار والمعتبر ، ولا محذور فيه قطعاً .
ويشهد لما ذكرنا باب الوصية التمليكية ، فلو قال الموصي : هذه الدار لزيد بعد وفاتي ، فلا إشكال في تحقّق الملكية للموصى له بعد الوفاة ، مع أنّ الإنشاء فعلي . وليس هذا إلاّ أنّه قد اعتبر الموصي فعلا الملكية للموصى له بعد الوفاة . وأمّا احتمال كون الملكية فعلية ولكن المملوك ـ وهو الدار ـ مقيّدة بما بعد الوفاة ، فهو بعيد غايته بل لا يمكن القول به ، لأنّ الجوهر غير قابل للتقييد بالزمان ، نعم يمكن هذا في الأعراض ، فيصحّ إنشاء الملكية الفعلية للمنفعة المتأخّرة ، كما في الإجارة .
وعلى الجملة : إنّ لازم ما ذكر من استحالة رجوع القيد إلى الهيئة رجوع القيد في باب الوصية إلى الموصى به ، وهذا لا يمكن الالتزام به ، ولذا لم يلتزم به أحد أصلا .
|