أمّا شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(2) فقد ارتضى مقالة الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) من تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي ، وخالف بذلك صاحب الكفاية (قدّس سرّه) مستدلا على ذلك باُمور ثلاثة :
الأمر الأول : أنّ الإطلاق الشمولي عبارة عن انحلال الحكم المعلّق على الطبيعة المأخوذة على نحو مطلق الوجود ، فيتعدّد بتعدّد الأفراد أو الأحوال ، مثل : لا تكرم فاسقاً . بينما نرى أنّ الإطلاق البدلي عبارة عن حكم واحد ، صالح للانطباق على كل فرد من أفراد الطبيعة التي اُخذت على نحو صرف الوجود ، مثل :
ــــــــــــــ (2) أجود التقريرات 1 : 235 وما بعدها .
ــ[337]ــ
أكرم العالم .
ولا ريب أنّ رفع اليد عن مفاد الإطلاق البدلي مع المحافظة على الإطلاق الشمولي يوجب تضييقاً من ناحية الانطباق والصلاحية التي كان المكلّف مخوّلا بها دون تصرّف في الحكم ، بخلاف التصرّف في الإطلاق الشمولي ، فإنّه يوجب رفع اليد عن الحكم في بعض الأفراد .
ومتى دار الأمر بين التصرّف في رفع اليد عن الحكم ، والتصرّف في التوسعة والضيق من جهة الانطباق مع المحافظة على الحكم ، كان الثاني أولى ، لأنّ إبقاء الحكم خير من رفعه ، ولهذا يقدّم الإطلاق الشمولي على البدلي .
وغير خفي أولا : أنّ ما أفاده لا يساعد الدليل عليه ، إذ لو سلّم المعنى المذكور فتقديم أحدهما على الآخر لا يكون إلاّ بالجمع العرفي ، من جهة أقوائية الدلالة وأظهريتها . وما ذكر في المقام أقرب إلى الجموع التبرّعية منه إلى الجمع العرفي .
وثانياً : أنّ الإطلاق البدلي وإن كان بمقتضى دلالته المطابقية يفيد ثبوت الحكم لواحد من أفراد الطبيعة على سبيل البدل ، إلاّ أنّه بمقتضى دلالته الالتزامية يفيد الحكم الترخيصي من ناحية انطباق تلك الطبيعة على أي فرد من أفرادها ، وأنّ المكلّف مخيّر في تطبيقها على ما يشاء ، ولذا قلنا إنّ التخيير فيه شرعي ، وليس بعقلي ، فكان الإطلاق البدلي من هذه الجهة كالإطلاق الشمولي من ناحية تعدّد الحكم ، وانحلاله بانحلال أفراد متعلّقه .
غاية الأمر أنّ الإطلاق الشمولي أفاد الحكم الوجوبي الإلزامي المتعدّد بتعدّد أفراد متعلّقه مطابقة ، والإطلاق البدلي أفاد الحكم الترخيصي كذلك التزاماً والاختلاف بينهما في نوع الدلالة لا يكون موجباً للفرق ، فهما إذن متكافئان ومتعارضان .
ــ[338]ــ
الأمر الثاني : أنّ الإطلاق في كل من الشمولي والبدلي وإن توقّف على مقدّمات الحكمة ، إلاّ أنّ الإطلاق البدلي يزيد على الإطلاق الشمولي بمقدّمة واحدة ، وتلك إحراز تساوي الأفراد التي ينطبق عليها العنوان في الوفاء بالغرض بلا تفاوت بينها أصلا ، فلو تفاوت وفاء بعضها عن بعض امتنع التمسّك بالإطلاق . بينما الإطلاق الشمولي غني عن هذه المقدّمة ، فإنّ إطلاقه يتمّ حتّى مع العلم بتفاوت ملاك بعض الأفراد عن بعض شدّة وضعفاً ، كالكذب على الله ورسوله ، فإنّه أشدّ من الكذب على سائر المكلّفين من البشر .
وكيف كان ، فهذه المقدّمة التي احتاجها الإطلاق البدلي لابدّ من إحرازها بدليل خارجي . ومتى كان الإطلاق الشمولي موجوداً كان صالحاً لبيان التعيين في بعض الأفراد ، وأشدّية الملاك فيها دون الآخر ، ومعه لا ينعقد الإطلاق البدلي بالضرورة.
وغير خفي أنّ جهة الإحراز في الوفاء بالغرض ثبوتاً لا تستدعي إثباتها في الخارج ، بل نفس بيان المولى وإطلاقه يدلّ عليه ، إذ بعد أن فرضنا أنّ الأشدّية لو كانت حاصلة في بعض الأفراد لزم عليه بيانها ، وحيث أطلق ولا بيان يعلم أنّ جميع الأفراد موافقة لغرضه ووافية به .
ويؤيّده أنّ المكلّف لو تردّد وتحيّر في صلاحية فرد من حيث الوفاء بالغرض تمسّك بالإطلاق ، وأثبت بذلك وفاء الجميع والصلاحية في مقام الامتثال . وبناءً عليه كلاهما متعارضان .
الأمر الثالث : أنّ حجّية الإطلاق البدلي بالإضافة إلى جميع الأفراد تتوقّف على أن لا يكون هناك مانع في بعض الأفراد من حيث شمول الإطلاق له ، والإطلاق الشمولي في مورد المعارضة صالح لأن يكون مانعاً عن حجّية ذلك الإطلاق البدلي في الانطباق على ذلك الفرد ، فلو توقّف عدم صلاحيته للمانعية على وجود الإطلاق
ــ[339]ــ
البدلي وشموله للفرد لزم الدور .
وغير خفي أنّ الجواب عنه ظهر من مطاوي الحديث السابق ، فإنّ حجّية الإطلاق البدلي في نفسه وكشفه عن وفاء جميع الأفراد بالغرض لا تتوقّف على دليل خارجي ، بل نفس البيان الذي دلّ على وجوب إكرام العالم ـ مثلا ـ بإطلاقه يثبت هذا المعنى ، وبناءً عليه فكلا الإطلاقين متكافئان ، ويقع التعارض بينهما .
ثمّ لو تنزّلنا عن ذلك وسلّمنا تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي والتزمنا بالكبرى الكلّية ، فالنقاش يقع في الأمر الثاني ـ أعني الصغرى ـ وذلك فإنّ القيد الذي تردّد أمره في الرجوع إلى الهيئة أو المادّة إن كان متّصلا فلا ينعقد ظهور إطلاق ذلك الدليل ، لاحتفافه بما يصلح للقرينية ، ومعه يكون الدليل مجملا .
وإن كان منفصلا ـ بأن جاء بعد تمامية ظهور كلا الدليلين في الإطلاق ـ فلا يتقدّم أحد الدليلين على الآخر ، وذلك فإنّ السبب الذي يدعو إلى تقديم الأقوى من الدليلين على الآخر هو وقوع المعارضة والتنافي في نفس الدليلين ذاتاً ، فيعلم بخطأ أحدهما من حيث كشف كل منهما عن الحكم الواقعي ، ولا يمكن الجمع بينهما إلاّ بطريقة تقديم الأقوى منهما ظهوراً على الآخر .
وأمّا إذا لم يكن التنافي حاصلا بين نفس الدليلين كما نحن فيه ، بل استفيد ذلك من دليل خارجي ـ كالعلم الإجمالي ـ بأن كان أحد الظهورين مخالفاً للواقع ، وذلك لرجوع القيد قهراً إمّا إلى المادّة أو الهيئة ، فتقديم ما هو الأقوى ظهوراً على الآخر للعلم الإجمالي ليس بصحيح ، حتّى لو كان أحد الدليلين بالوضع والآخر بالإطلاق .
والحاصل : أنّ الكبرى المتقدّمة ـ وهي تقديم الإطلاق الشمولي على البدلي ـ لو تمّ تسليمها ، إلاّ أنّ الصغرى ليست من مصاديق تلك الكبرى الكلّية وذلك فإنّ القيد المذكور إمّا أن يكون متصلا أو منفصلا ، والأول يوجب إجمال الدليل ، لاحتفافه بما يصلح للقرينية ، فلا ينعقد الإطلاق من البداية . والثاني لا
ــ[340]ــ
يوجب التقديم المذكور ، لأنّ التنافي بينهما ليس تنافياً ذاتياً بين الدليلين ، بل هو مستفاد من أمر خارجي ، وهو لا يستوجب تقديم الأقوى منهما على الآخر .
الوجه الثاني في الدليل الذي جاء به الشيخ (قدّس سرّه) على عود القيد إلى المادّة دون الهيئة عند التردّد ما حاصله : أنّ كل مورد دار أمره بين رفع اليد عن إطلاق واحد أو إطلاقين كان الأول مقدّماً على الثاني ، وذلك للزوم الاقتصار على الأقل فيما خالف القاعدة من أجل مخالفة الظاهر .
أمّا تطبيق هذه الكبرى على ما نحن فيه فهو أنّ القيد إذا عاد إلى الهيئة ، فكما يلزم رفع اليد عن الإطلاق فيها ، كذلك يلزم رفع اليد عن الإطلاق في المادّة . مثلا إذا كان وجوب الصلاة مقيّداً بتحقّق الزوال ، فالمتّصف بالوجوب حصّة خاصّة من الصلاة ، أعني بها الواقعة بعد الزوال . وأمّا إذا رجع القيد إلى المادّة فلا يلزم منه رفع اليد عن الإطلاق في الهيئة . ومتى تردّد عود القيد إلى أحدهما تعيّن الرجوع إلى المادّة خاصّة ، اقتصاراً على المتيقّن فيما خالف القاعدة كما عرفت .
ولقد سلّم صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(1) هذه المقالة فيما لو كانت القرينة منفصلة ، لانعقاد ظهور كل من الهيئة والمادّة في الإطلاق ، وأمّا لو كانت القرينة متّصلة فالوجه السابق لا يتأتّى فيها ، وذلك فإنّ رجوع القيد إلى الهيئة لا يستلزم مخالفة أصلين ، لعدم انعقاد ظهور في الإطلاق للمادّة ، ومعه لا وقع للترديد المذكور .
وشيخنا الاُستاذ (رحمه الله)(2) وافق الشيخ الأنصاري في مقالته ، ولم يفرّق في ذلك بين القرينة المتّصلة والمنفصلة .
أمّا في القرينة المتّصلة فلأنّ القدر المتيقّن من التقييد هو رجوع القيد إلى
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 107 .
(2) أجود التقريرات 1 : 240 .
ــ[341]ــ
المادّة ، لأنّه إمّا ابتداءً ، أو من جهة رجوعه إليها بتبع رجوعه إلى الهيئة .
وأمّا تقييد الهيئة فإنّه محتاج إلى اعتبار خصوصية زائدة ، وهي أخذ ذلك القيد مفروض الوجود ، ومع احتمالها يدفع باطلاق القيد . وحديث احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية لينتج عدم انعقاد الإطلاق لا يتم في المقام ، وذلك فإنّه إذا لم يكن تقيّد معلوم على كل تقدير ، وفي المقام تقيّد المادّة معلوم مفصّلا .
ولا يخفى ما في جميع هذه الدعاوى .
أمّا بطلان ما ادّعاه الشيخ (رحمه الله) من لزوم تقيّد المادّة إذا قيّدت الهيئة فواضح ، فإنّ تقيّد كل من المادّة والهيئة محتاج إلى خصوصية ، وهي في الهيئة عبارة عن أخذ القيد مفروض الوجود ، غير داخل تحت الطلب أصلا ، اختيارياً كان أو غير اختياري ، بمعنى أنّه إذا تحقّق القيد صار الحكم فعلياً . وأمّا الخصوصية في المادّة فهي عبارة عن أخذ التقيّد داخلا تحت الطلب ، ومعناه وجوب تحصيل القيد على المكلّف إذا كان اختيارياً .
والنسبة بين هاتين الخصوصيتين عموم من وجه ، ومادّة الاجتماع لهما ـ والتي يقيّد كل من المادّة والهيئة بقيد ـ فكالوقت الخاص بالنسبة إلى الصلاة ووجوبها فإنّها من حيث كونه شرطاً لصحّة الصلاة فهو قيد للواجب ، ومن حيث إنّه ما لم يتحقّق لا يكون الوجوب فعلياً فهو قيد للوجوب . ومورد افتراق تقيّد المادّة عن الهيئة ـ بأن تكون المادّة هي المقيّدة دون الوجوب ـ فكاشتراط الصلاة بالاستقبال . ومورد افتراق تقيّد الهيئة عن المادّة فكاشتراط وجوب الحجّ بالاستطاعة ، فإنّها شرط للوجوب ، لكنّها لم تعتبر في الحجّ نفسه . فلو استطاع ووجب عليه لكنّه أزال الاستطاعة باختياره وحجّ متسكّعاً صحّ حجّه .
وإذا تبيّن من هذا الجواب بطلان الملازمة ، وأنّ هناك مورداً يمكن تقيّد الهيئة فيه دون المادّة وبالعكس ، عرفت أنّ ما ادّعاه الشيخ من الكبرى المتقدّمة غير
ــ[342]ــ
صحيح .
وأمّا تصديق صاحب الكفاية (رحمه الله) للدعوى المتقدّمة في خصوص القرينة المنفصلة فقد عرفت بطلانه ، وذلك حيث انعقد الظهور في الإطلاق لكل من المادّة والهيئة ، ثمّ بعده جاءت القرينة الخارجية التي دلّت على عدم إرادة أحد الظهورين ، فمقتضى العلم الإجمالي سقوطهما ، للعلم بالمقيّد ، إمّا المادّة أو الهيئة ، وقد عرفت أنّ تقيّد كل منهما محتاج إلى خصوصية زائدة ، فكان رفع اليد عن الإطلاق في أحدهما دون الآخر ترجيحاً بلا مرجّح . فلابدّ من سقوط كلا الظهورين في الإطلاق .
ومنه اتّضح جلياً بطلان ما جاء به شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه) ، أمّا في القرينة المتصلة فلإجمال الكلام ، من أجل احتفافه بما يصلح للقرينية . وأمّا في المنفصلة فلما عرفت من الردّ السابق ، من أنّ تقيّد كل من إطلاق المادّة والهيئة محتاج إلى خصوصية وعناية ، فرفع اليد عن الإطلاق في أحدهما للعلم الإجمالي ترجيح بلا مرجّح ، فيسقط كلا الظهورين في الإطلاق .
فانقدح ممّا ذكرناه أنّ تقيّد الهيئة لا يستلزم تقيّد المادّة بالمعنى الذي قلناه ـ أعني كون التقيّد داخلا تحت الطلب ـ الذي هو محل البحث والنزاع ، نعم هنا معنى آخر لتقيّد المادّة ، ونحن لا نناقش فيه ، وأنّه يستلزم تقيّد الهيئة تقيّد المادّة ، ويحصل بذلك تضيّق قهري . وهو لا يرتبط بالبحث .
|