مقتضى الأصل عند الشك
إذا تردّد في واجب أنّه نفسي أو غيري ، فهل الأصل اللفظي أو العملي يقتضي أحدهما بالخصوص ؟ والبحث يقع في مقامين :
المقام الأول : في الأصل اللفظي .
اعلم أنّ مقتضى الإطلاق هو تعيّن الوجوب النفسي ، وهذا واضح على مسلك المشهور ، وذلك فإنّ تقييد الوجوب بما إذا وجب الغير محتاج إلى مؤونة زائدة . فلو أطلق المولى كلامه ، وكان في صدد البيان ، ولم يقيّد الوجوب بقيد من القيود ، لزم التمسّك باطلاق خطابه ، والحكم بالوجوب النفسي .
وأمّا على مسلك الشيخ (رحمه الله)(1) من استحالة تقيّد الهيئة فحيث إنّه لا يخصّ الواجبات بالنفسية فقط ، غاية الأمر في مرحلة الإثبات يستشكل في إرجاع القيد إلى الهيئة ، باعتبار أنّها من المعاني الحرفية التي من شأنها أن تكون جزئية فيمكن تقريب الإطلاق بوجهين :
الوجه الأول : أن يؤخذ باطلاق الوجوب إذا عبّر المولى عن طلبه بجملة اسمية ، كما ورد في الروايات أنّ غسل الجنابة فريضة من فرائض الله(2) وما شاكل ذلك ، فحينئذ لا مانع من التمسّك بالإطلاق لقبول المعنى الاسمي للتقييد .
الوجه الثاني : التمسّك باطلاق دليل الواجب ورفع ما يحتمل كونه مقدّمة له
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كما تقدّم في ص324 وما بعدها .
(2) الوسائل 3 : 312 / أبواب الأغسال المسنونة ب6 ح3 ، 5 ، 6 (نقل بالمضمون) .
ــ[373]ــ
وذلك فإنّ معنى المقدّمية ليس إلاّ تقيّد الواجب بذلك القيد ، كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، فلو أطلق المولى كلامه وقال (صلّ) وكان في مقام البيان ، ولم يبيّن جهة تقيّد الصلاة بالوضوء ، لزم التمسّك باطلاق قوله (صلّ) ونفي كونه مقيّداً بالوضوء ، ولازم هذا أن لا يكون الوضوء واجباً غيرياً ، وحيث يعلم بأصل كونه واجباً يحكم بكونه واجباً نفسياً ، لأنّ اللوازم في الأدلّة اللفظية تثبت بلا إشكال .
المقام الثاني : في الأصل العملي ، ويقع على صور :
الصورة الاُولى : أن يعلم المكلّف وجوب شيء كالوضوء ، ويتردّد فيه بين النفسي والغيري ، وهو يعلم أنّه على تقدير كونه مقدّمة لواجب لم يكن ذلك الواجب فعلياً ، كالطواف مثلا لعدم الاستطاعة . ففي مثل هذه الصورة لا يعلم المكلّف ثبوت التكليف على كل حال ، بل يحتمل ذلك ، ومعه تجري البراءة .
الصورة الثانية : أن يعلم المكلّف وجوب شيء فعلا ، ويتردّد فيه بين كونه نفسياً وغيرياً ، وهو يعلم أنّه على تقدير كونه غيرياً فالواجب المتوقّف عليه فعلي لم يصل إلينا وجوبه .
وهذا وإن لم نجد له مثالا في الشبهات الحكمية ، ولكنّه في الشبهات الموضوعية كثير ، وهو كما لو تردّد المكلّف في منذور بين كونه وضوءاً أو صلاة ، وهو لا يعلم متعلّق نذره بشخصه ، ولكنّه واثق بأنّ المنذور إن كان هو الوضوء كان وجوبه نفسياً ، وإن كان هو الصلاة كان وجوبه غيرياً ، وهو في نفس الوقت لا يعلم وجوب الصلاة ، فهو يعلم إجمالا إمّا الوضوء وحده واجب ، أو الوضوء مع الصلاة واجب . فالحكم بوجوب الإتيان بالصلاة أيضاً متوقّف على القول بعدم انحلال العلم الإجمالي ، كما أنّه إن قلنا بانحلاله كفى الإتيان بالوضوء .
ويمكن تقريب القول بعدم الانحلال بأنّ الوجوب المعلوم بالإجمال هو الوجوب النفسي ، فإنّه يعلم بوجوب الوضوء أو الصلاة نفساً ، والعلم بوجوب
ــ[374]ــ
الوضوء على كل حال ليس متعلّقاً لوجوبه النفسي ، فلا يعقل الانحلال الذي مرجعه إلى رجوع القضيتين المشكوكتين على سبيل منع الخلو إلى قضية متيقّنة ، وقضية مشكوكة ، وذلك لأنّ المعلوم بالتفصيل في المقام ليس من سنخ المعلوم بالإجمال .
ومن ذلك يظهر أنّه لا يقاس المقام بمبحث الأقل والأكثر الارتباطيين ، فإنّ المعلوم بالتفصيل هناك من سنخ المعلوم بالإجمال ، لأنّ الحكم إذا تعلّق بمركّب فلا محالة ينحل إلى أجزاء ذلك المركّب ، فيكون لكل جزء وجوب نفسي يعبّر عنه بالوجوب الضمني ، فيعلم تفصيلا بأنّ الأقل واجب بوجوب نفسي ، ويشكّ في وجوب الجزء الزائد على ذلك ، وهذا هو معنى الانحلال.
وهذا المعنى لا يتأتّى هنا ، إذ الحكم لا ينحل بالنسبة إلى المقدّمات الخارجية والوجوب النفسي لا يتعدّى إليها ، فلا يمكن الالتزام بانحلال الوجوب النفسي للصلاة .
ولكن التحقيق هو الحكم بالانحلال بتقريب : أنّا نعلم أنّ ترك الوضوء على كل تقدير يستوجب عقاباً ، أمّا على فرض كونه نفسياً فواضح ، وأمّا على فرض كونه غيرياً فكذلك ، لا لأنّ ترك المقدّمة يستوجب ذلك ، بل لتفويت الواجب النفسي به ، ومع القطع بأنّ تركه يستوجب العقاب يلزم الإتيان به . وأمّا الصلاة فوجوبها النفسي محتمل ، وهو مجرى للأصل .
والحاصل : أنّنا نعلم أنّ ترك الوضوء مستلزم لتحقّق العقاب على كل حال بخلاف الصلاة فإنّها مستلزمة ذلك على تقدير أنّ الوجوب وارد عليها ، ومع الشكّ في ذلك تجري البراءة العقلية والشرعية ، ومعه لا يكون العلم الإجمالي منجّزاً ، بناءً على ما هو الصحيح من أنّ التنجّز فرع تعارض الأصلين وتساقطهما وفي المقام لا معنى لإجراء أصالة البراءة بالنسبة إلى الوضوء .
الصورة الثالثة : ما إذا علم تفصيلا بوجوب كل واحد منهما ، وشكّ في أنّ
ــ[375]ــ
أحد الواجبين مقيّد بوجود الواجب الآخر ، مع العلم بتماثل الوجوبين من حيث الاشتراط والتقييد في بقية الجهات ، بمعنى أنّنا نعلم أنّ هذين الوجوبين متساويان إطلاقاً وتقييداً ، كالوضوء والصلاة المقيّدين بالوقت .
فقد حكم شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) في هذه الصورة بجريان البراءة وذلك للشكّ في الواجب النفسي ـ وهو الصلاة ـ أنّه مقيّد بالوضوء ، وأنّ جهة التقييد ملحوظة من قبل الشارع المقدّس ليكون الوضوء واجباً غيرياً ، أو ليست ملحوظة ليكون واجباً نفسياً . وحيث كنّا نعلم بوجوب الصلاة ونشكّ في التقييد فأصالة البراءة تجري في نفي التقييد ، وتكون النتيجة هي الإطلاق وعدم اشتراط الصلاة بالوضوء . فللمكلّف أن يأتي بالوضوء قبل الصلاة وبعدها .
وفيه ما لا يخفى ، فإنّ جريان البراءة عن تقيّد الصلاة بالوضوء معارض بأصل آخر ، يجري في نفي احتمال الوجوب النفسي عن الوضوء ، وذلك فإنّنا نعلم تفصيلا بوجوب الوضوء وجوباً جامعاً بين النفسي والغيري ، ولا نعلم خصوصية أحدهما من النفسي والغيري ، فالعلم الإجمالي بثبوت إحدى الخصوصيتين يمنع من جريان الأصل في كل منهما ، ومعه يحكم العقل بالاحتياط ، ولا يتم إلاّ بإتيان الوضوء أوّلا ، ثمّ إتيان الصلاة بعده ، ومرجعه بحسب النتيجة إلى أنّ وجوب الوضوء غيري ، وليس بنفسي .
الصورة الرابعة : وهي ما إذا علم تفصيلا وجوب كل واحد من الأمرين وشكّ في أنّ وجوب أحدهما غيري للآخر ، مع عدم العلم بتماثل الوجوب فيه من حيث الشرائط ، كما إذا علمنا أنّ الصلاة التي هي واجب نفسي مشروطة بالوقت ، وشككنا في أنّ وجوب الوضوء نفسي أو غيري . فعلى تقدير النفسية فهو غير
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1 : 247 ـ 248 .
ــ[376]ــ
مشروط بالوقت ، وعلى تقدير الغيرية فهو مشروط به لا محالة ، وذلك لتبعية الوجوب الغيري للنفسي في الإطلاق والتقييد ، كما هو مقتضى الملازمة العقلية .
فقد حكم شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) في هذه الصورة بجريان البراءة من جهات :
الاُولى : بالنسبة لتقيّد الصلاة بالوضوء ، فيحكم بصحّة الصلاة حينئذ بغير وضوء .
الثانية : للشكّ في أنّ الوضوء واجب قبل الوقت ، أو ليس بواجب ، فيحكم بعدم وجوبه قبل الوقت .
الثالثة : للشكّ في أنّ المكلّف لو جاء بالوضوء قبل الوقت ـ وإن قلنا بعدم وجوبه ـ هل يكون مسقطاً ومجزياً عن الوضوء بعد الوقت ؟ فإنّ الشكّ حينئذ في أنّ وجوب الوضوء بعد الوقت مطلق أو مقيّد بمن لم يتوضّأ قبله ، فتجري البراءة عن الوجوب بالنسبة إلى من توضّأ قبله ، وإذا جرت البراءة في ذلك فقد ثبت الخيار للمكلّف ، من أنّه كيف شاء إتيان الوضوء قبل الوقت وبعده ، أو قبل الصلاة أو بعدها . هذا ما أفاده (قدّس سرّه) .
وغير خفي أنّ الصورة الأخيرة تقرّب بوجهين :
الوجه الأول : هو أنّا نعلم بوجوب الوضوء مردّداً بين النفسي والغيري من دون علم بالتماثل إطلاقاً وتقييداً ، إلاّ أنّا نعلم أيضاً أنّ الوضوء لو كان واجباً نفسياً فهو واجب قبل الوقت ، ولو كان واجباً غيرياً فهو واجب بعد الوقت .
ففي هذا الوجه لا يمكن إجراء البراءة من تقيّد الصلاة بالوضوء ، ومن وجوبها النفسي قبل الوقت ، وذلك للزوم المخالفة القطعية العملية لما هو المعلوم
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1 : 248 ـ 249 .
ــ[377]ــ
بالإجمال ، حيث إنّنا نعلم إجمالا بأنّ وجوب الوضوء إمّا نفسي أو غيري ، فهذا العلم الإجمالي وإن كان بالنسبة إلى التدريجيات ، إلاّ أنّه منجّز على المختار ، فيمنع من إجراء البراءة بالنسبة إلى الوجوب النفسي والغيري . فلو رفعنا اليد عن الوجوب الغيري المحتمل بعد الوقت ، ورفعنا اليد أيضاً عن الوجوب النفسي المحتمل قبل الوقت ، لزمت المخالفة القطعية ، وهو باطل .
فمقتضى العلم الإجمالي هو الحكم بالنفسية والغيرية من باب الاحتياط ولكن يكفي الإتيان بوضوء قبل الوقت ، فإنّه على تقدير الغيرية وإن كان لا يجب الإتيان به قبل الوقت ، إلاّ أنّه يجزي عن الوضوء بعده .
الوجه الثاني : هو أنّا نعلم بوجوب مردّد بين النفسي والغيري ، بلا علم بالتماثل إطلاقاً وتقييداً ، إلاّ أنّنا واثقون بأنّ وجوب الوضوء إن كان غيرياً فهو بعد الوقت ، وإن كان نفسياً فهو مطلق غير مقيّد بما بعد الوقت أو قبله .
ففي هذا الوجه لا معنى لإجراء البراءة عن وجوب الوضوء قبل الوقت لعدم احتمال التقيّد به . وأمّا بعد الوقت فيحكم بوجوب الوضوء ، للعلم الإجمالي بوجوبه إمّا نفسياً أو غيرياً ، وهو منجّز حينئذ بلا إشكال ولا يمكن إجراء البراءة عن الوجوب النفسي والغيري .
نعم هنا شيء آخر ، وهو أنّه لو شككنا في وجوب إعادة الوضوء بعد الوقت على تقدير كونه غيرياً ، أمكن رفعه بالبراءة ، وذلك لعدم وجوب الإعادة . أمّا على فرض النفسية فواضح ، لأنّه مطلق . وأمّا على الغيرية ، فلأنّ وجوب المقدّمة وإن تابع وجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط إلاّ أنّ هذا لا ينافي الإتيان بها قبلا ، فإنّ المقدار المعلوم على تقدير الغيرية هو أصل تقيّد الواجب بها ، وأمّا تقيّده بها بخصوصية أن يؤتى بها بعد الوقت فهو مجهول ، ويدفع احتماله بأصالة البراءة .
|