ــ[390]ــ
اعتبار قصد التوصّل
وقد نسب إلى الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه)(1) اختصاص وجوب المقدّمة بما إذا قصد بها التوصّل إلى الواجب ، دون مطلق المقدّمة . فمتى خلت الأفعال الخارجية عن هذا القصد لم تقع على صفة الوجوب .
والفرق بين مقالة صاحب المعالم (رحمه الله) ومقالة العلاّمة الأنصاري (قدّس سرّه) هو أنّ الأول يجعل قيد العزم والإرادة من قيود الوجوب نفسه ، بمعنى أنّ وجوب المقدّمة لا يتمّ إلاّ بما قصد به إرادة الواجب . أمّا الثاني فيجعله من قيود الواجب ، لا الوجوب .
واُشكل عليه بما في الكفاية(2) بأنّ الملاك الذي يقتضي اتّصاف المقدّمة بالوجوب هو توقّف الواجب النفسي والتمكّن منه عليها ، وهذا الملاك حاصل في كلتا المقدّمتين ، سواء قصد التوصّل أم لم يقصد . فإذا كان قصد التوصّل غير دخيل في واجدية الملاك ، لم يكن دخيلا في الوقوع على صفة الوجوب أيضاً .
وربما يوجّه مراد الشيخ (قدّس سرّه) بما حاصله : أنّ الذي يتّصف بالوجوب الغيري إنّما هو الفعل بعنوان المقدّمية ، ولابدّ حين إتيانها من لحاظ هذا العنوان
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مطارح الأنظار : 72 .
(2) كفاية الاُصول : 114 .
ــ[391]ــ
وقصده ، ولما كان قصد التوصّل إلى الواجب عين عنوان المقدّمية لزم قصده لا محالة ، نعم إنّ إتيان الأفعال الخارجية وحدها مجرّدة من قصد التوصّل يكون مسقطاً للغرض المطلوب ، لا أنّه يكون إتياناً للواجب ومصداقاً له ، لما عرفت من أنّ الواجب ما كان بعنوان المقدّمة ، وهو عين قصد التوصّل .
واُشكل عليه بأنّ عنوان المقدّمية من الجهات التعليلية التي تكون باعثة على إنشاء الحكم على الفعل ، لا أنّها متعلّقة للحكم ومورداً للتكليف ، فهي كالمصالح والمفاسد الكامنة في المتعلّقات ، والأفعال الخارجية هي التي تعلّق الخطاب بها ، من دون مدخلية للعنوان في ذلك ، هذا .
وقد تصدّى بعض مشايخنا المحقّقين (رحمهم الله)(1) إلى توجيه مراد الشيخ (رحمه الله) وابتناه على مقدّمتين :
اُولاهما : ما ذكره من أنّ الجهات التعليلية في الأحكام الشرعية وإن كانت تختلف عن الجهات التقييدية ، إلاّ أنّها لا تختلف عنها في الأحكام العقلية ، فإنّها عينها ، سواء ذلك في الأحكام العقلية النظرية أم الأحكام العقلية العملية .
أمّا بيان الاختلاف في الأحكام الشرعية فذلك كالصلاة ، فإنّ جهتها التقييدية نفس هذا العنوان الذي يعبّر عن جملة اُمور ، كالنيّة والتكبيرة والقراءة والركوع والسجود وغير ذلك . وأمّا الجهة التعليلية فيها فهي نفس المصلحة الحاصلة في الحكم أو المتعلّق ، التي أوجبت الحكم عليها . ومن البديهي أنّ إحدى الجهتين تغاير الاُخرى .
وأمّا بيان عدم الاختلاف بينهما في الأحكام العقلية فواضح ، أمّا في الأحكام العقلية النظرية ، مثل قولنا : العقل يحكم باستحالة أخذ داعي الأمر في المتعلّق للزوم
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نهاية الدراية 2 : 133 .
ــ[392]ــ
الدور ، فلأنّ الدور ـ وهو الجهة التعليلية هنا ـ عين الحكم(1)، وهو المحالية في المثال وليس بينهما اثنينية أصلا ، إلاّ من حيث كون أحدهما وهو الدور مصداقاً للآخر وهو المحالية . وإن شئت أن تقول : إنّ الجهة التقييدية هنا من مصاديق الجهة التعليلية .
وأمّا الأحكام العقلية العملية ـ كحكم العقل بحسن ضرب اليتيم للتأديب ـ فالجهة التعليلية فيها إنّما هي حسن التأديب ، ولا ريب أنّ هذه الجهة هي نفس الجهة التقييدية ، حيث يقال : التأديب حسن ، وإنّما يكون الضرب حسناً لانطباقه عليه .
ومن هذه المقدّمة الاُولى تعرف أنّ ما نحن فيه كذلك ، فإنّنا لو قلنا : الوضوء واجب عند وجوب الصلاة بحكم العقل لأنّه مقدّمة ، فالجهة التعليلية هي المقدّمية والواجب بحكم العقل إنّما هو المقدّمة ، والوضوء إنّما يجب لانطباقها عليه . ففي الحقيقة أنّ الوضوء من مصاديق تلك الجهة التعليلية .
والحاصل : المستفاد من المقدّمة الاُولى اتّحاد الجهات التعليلية والتقييدية في الأحكام العقلية .
ثانيتهما : أنّ الواجبات العبادية وغير العبادية إنّما هي من الاُمور الاختيارية التي تحتاج إلى قصد والتفات ، نظراً إلى أنّ متعلّق البعث لا يكون إلاّ أمراً مقدوراً ، فلو أتى بالفعل بلا قصد والتفات فقد سقط الغرض إن كان توصّلياً ولكن ما أتى به لا يتّصف بالوجوب ، لما عرفت من أنّ المتّصف بالوجوب ما كان واقعاً عن اختيار وإرادة .
والنتيجة من ضمّ هاتين المقدّمتين : أنّ المقدّمة ما لم يقصد بها التوصّل إلى
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ] الظاهر أنّه من سهو القلم ، لأنّ الجهة التقييدية هي الموضوع لا الحكم ، فأخذ داعي الأمر في المتعلّق من مصاديق الدور ، والمحكوم بالاستحالة حقيقة هو الدور [ .
ــ[393]ــ
ذيها لا يمكن اتّصافها بصفة الوجوب ، ومن الواضح أنّ قصد عنوان المقدّمة هو بنفسه قصد الواجب النفسي والعزم على إتيانه ، فإنّ المقدّمة الاُولى أثبتت ورود الوجوب على عنوان المقدّمة ، والمقدّمة الثانية أثبتت عدم اتّصاف المقدّمة بالوجوب عند عدم قصد التوصّل بها إلى الواجب ، وإن أسقطت الغرض .
ولا يخفى ما في كلتا المقدّمتين .
أمّا المقدّمة الاُولى : فلأنّ ما جاء به (رحمه الله) ـ من رجوع الجهات التعليلية إلى الجهات التقييدية في الأحكام العقلية ـ أجنبي عن مورد النزاع ، وذلك فإنّ نزاعنا ليس في الوجوب العقلي ، بل هو في الوجوب الشرعي ، لما سبق منّا في بداية البحث من أنّ اللاّبديّة العقلية لا يمكن إنكارها ، وإنّما النزاع في الوجوب الشرعي الكاشف عنه العقل . ومن المعلوم أنّ الجهات التعليلية في الأحكام الشرعية ليست جهات تقييدية كما عرفت . فما جاء به (قدّس سرّه) لا ينطبق على مورد النزاع .
وأمّا المقدّمة الثانية : فلأنّ القدرة التي تعتبر في المأمور به تارةً : تكون قدرة شرعية ، كقوله تعالى : (وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)(1) الخ ، بناءً على أنّ معنى الاستطاعة هي القدرة . وكقوله تعالى : (وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر ... فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)(2) فإنّ إدراج هذه الاُمور في سلسلة واحدة يعطي أنّ المراد من عدم الوجدان إنّما هو عدم القدرة على استعمال الماء ، فإنّ المريض يوجد لديه الماء غالباً ، ولكنّه لا يقدر على استعماله ، ومعنى هذا أنّه في مورد عدم القدرة على الاستعمال ينقلب التكليف إلى التيمّم ، لعدم تحقّق شرط الطهارة المائية .
وفي هذا القسم من الواجب لا ينكشف إلاّ أنّ ما هو المقدور من الأفراد هو
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) آل عمران 3 : 97 .
(2) المائدة 5 : 6 .
ــ[394]ــ
الذي يشتمل على الملاك المقتضي لإيجابه ، وأمّا غير المقدور منها فلا كاشف عن اشتماله على الملاك .
واُخرى : تكون القدرة المعتبرة في المأمور به عقلية ، وفي هذا القسم قد يكون المكلّف عاجزاً عن الامتثال بالمرّة ، ولابدّ معه من سقوط الحكم عنه . وقد يكون عاجزاً عن امتثال بعض الأفراد دون بعض ، كالصلاة مثلا ، فإنّ المكلّف ربما يتمكّن من امتثالها في بلده ، وأمّا في غير بلده من البلدان البعيدة عنه فهو غير قادر فعلا على إتيانها فيه .
وفي هذه الصورة لا موجب لتخصيص الخطاب شرعاً بالأفراد المقدورة ، بل المأمور به نفس الطبيعة الجامعة ، فإنّه يكفي في القدرة عليها المعتبرة في التكليف بحكم العقل القدرة على امتثال فرد منها .
وما نحن فيه كذلك ، فإنّ اعتبار القدرة في إيجاب المقدّمة إنّما هو بحكم العقل فلا يختصّ الواجب بما يصدر عن إرادة واختيار ، بل الواجب هو الطبيعي الجامع ويكفي في صحّة إيجابه القدرةُ على إيجاده في ضمن فرد ما ، فإذا أتى به لا بقصد التوصّل كان مصداقاً للواجب لا محالة .
ثمّ إنّ شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) ادّعى أنّ المقرّر أفاد ما هو مراد الشيخ (رحمه الله) من اعتبار قصد التوصّل ، وهو اعتباره في مقام تحقّق الامتثال ، دون أخذه قيداً في المقدّمة ، بمعنى أنّ من لم يقصد التوصّل إلى الواجب بإتيانه المقدّمة لم يكن ممتثلا ، وهذه الجهة لا ترتبط بجهة اعتبار القيد في اتّصاف المقدّمة بالوجوب .
وهذا إن تمّ فله وجه صحيح ، فإنّه بعد إثبات الوجوب الشرعي على المقدّمة ـ كما هو مفروض الكلام ـ لا يحصل الثواب إلاّ بأن يؤتى بالمقدّمة بقصد التوصّل
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لاحظ أجود التقريرات 1 : 340 فإنّه ادّعى أنّ عبارات مقرّر بحثه مشوّشة .
ــ[395]ــ
فيكون من أتى بها وبذيها مستحقّاً لثوابين .
كما وأفاد (قدّس سرّه) مرّة اُخرى بأنّ المراد من اشتراط قصد التوصّل إنّما هو اعتباره في مقام المزاحمة ، وقد نقل شيخنا أنّ شيخه العلاّمة السيّد محمد الأصفهاني (قدّس سرّه) كان جازماً بأنّ مراد الشيخ من اشتراط قصد التوصّل هو ذلك ، ولكن شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه) كان متردّداً بأنّ هذا كان استنباطاً منه ، أو أنّه حكاه عن شيخه السيد الشيرازي (قدّس سرّه) .
وحاصل هذا الوجه : هو أنّ الواجب النفسي ـ كانقاذ الغريق ـ لو توقّف امتثاله على ارتكاب فعل محرّم ـ كالسلوك في الأرض المغصوبة ـ فالمزاحمة تقع بين الوجوب الغيري الثابت للمقدّمة وبين الحرمة النفسية ، وحينئذ فإن قصد المكلّف التوصّل بالمقدّمة إلى الواجب النفسي ارتفعت الحرمة عن ذلك الفرد المحرّم لأجل التوصّل به إلى الواجب النفسي ، لأنّ إنقاذ النفس المحترمة من الغرق أهم من التصرّف بمال الغير ، المتحقّق بسلوك الأرض المغصوبة . وإن لم يقصد ذلك ، بل قصد التنزّه وما شاكله ، كانت الحرمة باقية لا محالة .
وغير خفي أنّ المزاحمة في الحقيقة إنّما هي بين الحرمة النفسية والوجوب النفسي الثابت لذي المقدّمة ، وبعبارة اُخرى : بين وجوب إنقاذ الغريق وحرمة سلوك الأرض المغصوبة ، لأنّ المكلّف لا يستطيع الجمع بين الامتثالين في عرض واحد . وهذا التزاحم موجود ، قلنا بوجوب المقدّمة أم لم نقل ، وإنّما يقدّم الواجب النفسي لأنّ ملاكه أهم من ملاك التحريم .
وأمّا سلوك الأرض المغصوبة فإنّما ترتفع حرمته فيما إذا وقع في طريق الإنقاذ ، فإنّ من المستحيل أن يبقى على حرمته والإنقاذ واجب عليه فعلا ، سواء قصد به التوصّل أم لا . غاية الأمر أنّه لو لم يقصد بها التوصّل إلى الواجب كان متجرّياً . وأمّا لو لم يقع السلوك في سلسلة علّة الإنقاذ ، ولم يترتّب الإنقاذ عليه ، لم
ــ[396]ــ
يكن موجب لارتفاع حرمته ، قصد به التوصّل أم لم يقصد ، غاية الأمر أنّه إن قصد التوصّل به ، ولم يترتّب الواجب عليه أحياناً كان معذوراً في ارتكاب الحرام .
وممّا تقدّم تظهر لنا الثمرة ـ بناءً على ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري (رحمه الله) ـ من إيجاب المقدّمة التي يقصد بها التوصّل ، إذ بناءً عليه ـ في مسألة سلوك الأرض المغصوبة ـ ترتفع الحرمة عن المقدّمة التي يقصد بها التوصّل ، لا غيره ولكن بناءً على ما ذهب إليه صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(1) من إيجاب جميع المقدّمات فليس هناك مقدّمة محرّمة ، بل ترتفع الحرمة في الجميع ، سواء قصد التوصّل أم لا ، هذا .
وقد تعرّض شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه) للفروع التي ذكرها المقرّر عن الشيخ (رحمه الله) تفريعاً على مطلبه ، ولكنّه في نفس الوقت استبعد صدورها عن الشيخ (قدّس سرّه) . ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 114 .
|