أدلّة صاحب الفصول
استدلّ صاحب الفصول (قدّس سرّه)(1) على مدّعاه بأدلّة ثلاثة :
الدليل الأول : هو أنّ الحاكم بوجوب المقدّمة إنّما هو العقل المدرك للملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته ، ومن الظاهر أنّه لا يدرك إلاّ الملازمة بين طلب شيء وطلب ما يقع في سلسلة علّة وجود ذلك الشيء في الخارج ، وأمّا ما ينفك عنه ، ولا يترتّب عليه في الخارج ، فالعقل لا يدرك الملازمة بين طلبه وطلب ما يتوقّف عليه .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الفصول الغروية : 86 .
ــ[404]ــ
الدليل الثاني : تجويز العقل بتصريح الآمر بعدم إرادة غير المقدّمة الموصلة وجواز هذا التصريح دليل على وجوب خصوص الموصلة . مثلا للمولى أن يقول لعبده : اُريد الحج ، واُريد المسير الذي يوصل إلى بيت الله الحرام ، ولا اُريد المسير الذي لا يوصل . ومن الواضح أنّ المولى لا يتمكّن من القول بعدم إرادة جميع المقدّمات الموصلة ، وغيرها . وكذا لا يسوغ له التصريح بعدم إرادة خصوص المقدّمة الموصلة ، وهذا آية اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة .
الدليل الثالث : أنّ الغرض من إيجاب المقدّمة إنّما هو إيصالها إلى الواجب ووقوعها في سبيل حصوله ، وإلاّ فلا غرض للمولى في وجود المقدّمة ، فلا جرم يكون التوصّل بالمقدّمة إلى الواجب النفسي معتبراً في مطلوبيتها ، والوجدان شاهد بأنّه إذا اشتاق إلى شيء فلا يشتاق إلاّ إلى المقدّمات التي توصله إلى ما تعلّقت إرادته به . فالإتيان بالطبيب إلى المريض إنّما يكون محبوباً حيث يوصل إلى تداويه وأمّا زيارته إلى داره وعدم مداواته له فهو خال عن المحبوبية ، وهكذا سائر الأمثلة ممّا كان الوجدان حاكماً فيها بعدم محبوبية غير الموصل من المقدّمات ، هذا .
وقد ناقش صاحب الكفاية (رحمه الله)(1) في الأدلّة الثلاثة المتقدّمة .
أمّا مناقشته في الأول فحاصلها : أنّ العقل لا يفرق في الحكم بالملازمة بين المقدّمة الموصلة وغيرها ، وذلك لوجود الملاك في جامع المقدّمة وطبيعيها ، وهو التمكّن من إتيان الواجب وتوقّف القدرة على الإتيان بالواجب عليها . فلا وجه لاختصاص الوجوب بالموصلة .
ولكن الجواب عن هذه المناقشة ظهر ممّا تقدّم(2)، حيث بيّنا أنّ القدرة على
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كفاية الاُصول : 118 .
(2) في ص401 وما بعدها .
ــ[405]ــ
الواجب يتوقّف على القدرة على مقدّمته ، لا على وجودها . والغاية المطلوبة من وجودها إنّما هي خصوص إيصالها إلى الواجب وترتّبه عليها ، فالعقل إنّما يحكم بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب خصوص مقدّماته الموصلة إليه ، وأمّا المقدّمات غير الموصلة فالعقل لا يدرك الملازمة بين وجوبه ووجوبها .
وأمّا مناقشته في الثاني فحاصلها : أنّ تصريح الآمر بعدم إرادة المقدّمات غير الموصلة جزاف صرف ، كيف والملاك ـ وهو التمكّن من إتيان الواجب ـ حاصل في كلتا المقدّمتين : الموصلة وغير الموصلة .
ولكن الجواب عن ذلك واضح بعد ما عرفت من اختصاص ملاك الوجوب بالموصلة ، وعدم شموله لغيرها .
وأمّا مناقشته في الثالث : فهي منحلّة إلى مناقشتين : صغرى ، وكبرى .
أمّا مناقشته في الصغرى : فبأنّ الغاية من إيجاب المقدّمة ليس إلاّ التمكّن من إتيان الواجب النفسي ، لا ترتّبه عليها ، وهذه موجودة في الموصلة وغيرها .
وأمّا مناقشته في الكبرى : فبأنّ الوجدان قاض بأنّ ما اُريد من الإتيان به لأجل غاية من الغايات ، وتجرّد عن الغاية بحيث لم تحصل بعده ، فلا محالة يقع ذلك المأتي به على صفة الوجوب . فإيجاب المقدّمة وإن سلّمنا أنّ الغاية له هو ترتّب الواجب عليه ، لكن الغاية لا تكون قيداً للواجب ، بحيث لو تجرّد عنها لم يقع على صفة الوجوب .
ولا يخفى ما فيهما ، أمّا المناقشة في الصغرى فقد مرّ ما فيها من أنّ التمكّن من الإتيان بذي المقدّمة ليس موقوفاً على الإتيان بالمقدّمة ، بل هو متوقّف على القدرة على المقدّمة ، سواء وجدت المقدّمة في الخارج أم لم توجد .
وأمّا المناقشة في الكبرى : فيردّها أنّ الشيء إذا وجب لغاية من الغايات وكانت الغاية هي التي اقتضت الوجوب ، فكيف يمكن تحقّق الوجوب في مورد مع
ــ[406]ــ
فرض عدم تحقّق الغاية فيه . فإذا فرض أنّ الغاية من إيجاب المقدّمة إنّما هي إيصالها إلى الواجب وترتّبه عليها ، فلو تجرّدت عن هذه الغاية ولم يترتّب الواجب عليها ، فكيف تتّصف بالوجوب .
دليل أخر على إيجاب المقدّمة الموصلة
وممّا يستدلّ به على إيجاب خصوص المقدّمة الموصلة جواز تحريم المولى المقدّمات غير الموصلة ، مع استحالة تحريم مطلق المقدّمة ، أو خصوص الموصلة منها ، والتفرقة بين الموصلة وغيرها بذلك دليل على عدم وجوب غير الموصلة منها . وهذا الاستدلال منسوب إلى السيد صاحب العروة (قدّس سرّه)(1).
وأجاب صاحب الكفاية (قدّس سرّه)(2) عن ذلك بجوابين :
الجواب الأول : أنّ ما ذكر خارج عن مورد النزاع ، لأنّ محل البحث هو ما كانت المقدّمات فيه مباحة ، وأمّا إذا كان بعضها محرّماً فعدم اتّصافها بالوجوب الغيري إنّما هو لوجود المانع ، وهو الاتّصاف بالحرمة ، لا لعدم المقتضي . فلا دلالة لجواز المنع عن المقدّمة غير الموصلة على اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة .
وهذا الجواب صحيح ، ويزيده وضوحاً جواز المنع عن بعض المقدّمات حتّى إذا فرض إيصالها إلى ذي المقدّمة أيضاً ، مع أنّه لا إشكال في عدم اختصاص الوجوب الغيري ببعض أقسام الموصلة دون بعضها الآخر .
الجواب الثاني : أنّ تصريح المولى بحرمة المقدّمة غير الموصلة غير معقول لأنّه مستلزم إمّا لطلب الحاصل ، أو لجواز تفويت الواجب النفسي مع الاختيار
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نسبه في أجود التقريرات 1 : 346 إلى صاحب الفصول ، راجع الفصول الغروية : 86 .
(2) كفاية الاُصول : 120 .
ــ[407]ــ
وكلاهما محال :
بيان الأول : هو أنّ وجوب ذي المقدّمة يتوقّف على القدرة عليه ، وهي تتوقّف على جواز مقدّمته ، وهو يتوقّف على الإتيان بالواجب النفسي ، إذ بدونه لا تتّصف المقدّمة بالجواز . ونتيجة ذلك : أنّ وجوب الواجب النفسي يتوقّف على الإتيان به ، وهو طلب الحاصل .
وأمّا بيان الثاني : فلأنّ المكلّف إذا لم يأت بالواجب النفسي كانت مقدّمته محرّمة على الفرض ، فلا يكون الواجب مقدوراً ، فيجوز له ترك الواجب اختياراً لأنّ تحصيل القدرة غير لازم .
وبعبارة اُخرى : أنّ وجوب الواجب النفسي مشروط بالقدرة على نفس الواجب ، والقدرة عليه موقوفة على التمكّن من المقدّمة عقلا وشرعاً ، بحيث لو لم يكن متمكّناً منها لما تمكّن من امتثال الواجب النفسي ، وبما أنّ جواز المقدّمة لا يكون إلاّ عند الإتيان بالواجب النفسي ، فمع عدمه تكون المقدّمة محرّمة ، فلا يكون الواجب النفسي مقدوراً ، فمع مخالفته لا يستحق العقاب .
والجواب عن ذلك : أنّ الإيراد المذكور إنّما يتم لو اعتبر الإيصال قيداً في الوجوب ، فإنّ جواز المقدّمة حينئذ يكون مشروطاً بالإيصال الخارجي ، وأمّا لو اعتبر قيداً في الواجب فلا يلزم المحذور ، وذلك لأنّ جواز المقدّمة لا يتوقّف على الإيصال الخارجي ، وإنّما هو ثابت قبل تحقّقه خارجاً ، وإنّما تعلّق الجواز بالمقدّمة الموصلة ، والمفروض تمكّن المكلّف منها ، فلا يجوز بناءً على هذا ترك الواجب النفسي أصلا .
وبعبارة اُخرى : لمّا كان العبد قادراً على الإتيان بالمقدّمة الموصلة للقدرة على قيدها ، كان امتثال التكليف بالواجب النفسي مقدوراً ، فلا يستطيع العبد على مخالفته .
ــ[408]ــ
المقدّمة حال الإيصال
ثمّ إنّ شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) بعد أن رأى أنّ الوجدان لا يساعد على القول بوجوب المقدّمة مطلقاً ، ورأى أنّ الدليل لا يساعد على وجوب خصوص المقدّمة الموصلة ، تابع صاحب حاشية المعالم (قدّس سرّه)(2) في اختيار مسلكه من أنّ المقدّمة واجبة من حيث الإيصال ، وإن خالفه في بعض صوره .
بيان ذلك : أنّه بناءً على أنّ العقل يحكم بالملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها شرعاً ، بمعنى أنّ المولى إذا أمر بشيء وكان موقوفاً على مقدّمة ، فلابدّ وأن يحكم بوجوب تلك المقدّمة ، لتوقّف الواجب عليها ، لا محالة يكون الغرض قائماً بخصوص المقدّمة الموصلة إلى ذلك الواجب ، وإلاّ فغير الموصلة لا ترتبط بمطلوبه ليتعلّق طلبه بها ، وهذا أمر وجداني .
إلاّ أنّ البرهان لمّا لم يساعد على تقييدها بالموصلة ـ لما ذكرنا سابقاً(3) في الإشكال على صاحب الفصول (رحمه الله) من استلزامه الدور أو التسلسل ـ تعيّن حينئذ أن نسلك مسلكاً آخر فنقول : إنّ قيد الإيصال لا يخلو أمره ، إمّا أن يعود إلى
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1 : 348 .
(2) هداية المسترشدين 2 : 177 .
(3) في ص399 .
|