مقدّمة المستحبّ
ثمّ لو بنينا على وجوب المقدّمة شرعاً ، فلا نقول باختصاصه بالوجوب فقط بل الأمر يسري إلى المقدّمات المستحبّة ـ أيضاً ـ التي يتوقّف عليها الأمر
ــ[429]ــ
الاستحبابي ، بنفس الملاك المتقدّم في المقدّمة الوجوبية ، غاية الأمر في مقدّمة الواجب تكون الإرادة إلزامية كنفسه ، وفي مقدّمة الندب تكون الإرادة غير إلزامية كنفسه .
مقدّمة الحرام
قسّم شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(1) مقدّمة الحرام إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : هو الذي لا يتوسّط بين المقدّمة وذيها اختيار وإرادة للفاعل بمعنى أنّ الإنسان لو أتى بالمقدّمة فذو المقدّمة يقع خارجاً قهراً عليه ، على نحو لا يقدر المكلّف على التخلّف عن ارتكاب الحرام ، نظير العلّة والمعلول .
والحكم في هذا القسم ـ أعني حرمة المقدّمة ـ يكون نفسياً لا غيرياً ، إذ النهي الوارد على ذي المقدّمة وارد عليها حقيقة ، لأنّها هي المقدورة للمكلّف دونه .
القسم الثاني : هو الذي يتوسّط بين المقدّمة وذيها اختيار وإرادة للفاعل ولكن المكلّف يقصد بالمقدّمة التوصّل إلى الحرام ، بمعنى أنّه بعد إتيانه المقدّمة يكون قادراً على ترك الحرام وإتيانه ، ولكنّه يرتكب المقدّمة بقصد التوصّل إلى الحرام .
وفي هذا القسم حكم (قدّس سرّه) بالحرمة ، وتردّد فيها بين النفسية والغيرية وأنّ ذلك من قبيل التجرّي أو السراية من ذي المقدّمة ، بعد ظهور حرمتها أيضاً .
القسم الثالث : هو الذي يتوسّط بين المقدّمة وذيها اختيار وإرادة للفاعل ويكون المكلّف بعد إتيانه المقدّمة قادراً على إتيان ذيها ، ولكن لديه صارف
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أجود التقريرات 1 : 361 .
ــ[430]ــ
عن إتيانه .
وفي هذا القسم حكم (قدّس سرّه) بعدم حرمة المقدّمة ، وإنّما المحرّم نفس ذي المقدّمة ، باعتبار أنّ فاعل المقدّمة لم يقصد التوصّل بها إلى الحرام ، ولم يكن علّة في الوقوع في الحرام ، فلا وجه لحرمتها ، إذ المفروض أنّه مع الإتيان بها يتمكّن من ترك الحرام ، ومعه لا يكون ملاك المقدّمية موجوداً فيها .
وفي جميعها نظر ، ما عدا القسم الأخير .
أمّا النقاش في القسم الأول ، فنقول : إنّ تحريم المقدّمة يتبع القول بوجوب مقدّمة الواجب ، لوحدة الملاك بينهما ، وهو توقّف امتثال التكليف . ففي مقدّمة الواجب يتوقّف امتثال الواجب على الإتيان بها ، وفي مقدّمة الحرام يتوقّف ترك الحرام على تركها .
وأمّا ما ذكره (قدّس سرّه) من أنّ النهي حقيقة منصبّ عليها لأنّها هي المقدورة دونه ، فهو على خلاف مبناه في غير المقام من أنّ المقدور بالواسطة مقدور ، والمعلول وإن لم يكن مقدوراً ابتداءً إلاّ أنّه مقدور بواسطة علّته كما لا يخفى . نعم هنا لو ارتكب المقدّمة يكون آثماً ، لوقوعه في الحرام الذي هو ذو المقدّمة بسوء اختياره ، لأنّ المفروض أنّه لا ينفكّ عنه ، لا أنّ المقدّمة تكون محرّمة بالحرمة الترشّحية بحيث يكون مرتكباً لحرامين .
وأمّا النقاش في القسم الثاني : فهو أنّ اتّصاف المقدّمة بالحرمة الغيرية ممنوع ، وذلك لعدم توقّف الاجتناب عن المحرّم على ترك المقدّمة ، فإنّه بعد الإتيان بالمقدّمة قادر على ترك الحرام . وليس المقام كمقدّمة الواجب ، لأنّ مقدّمة الواجب عند تركها يتعذّر الإتيان بالواجب ، وهنا عند الإتيان بالمقدّمة لا يتعذّر ترك الحرام .
ــ[431]ــ
وأمّا الحرمة النفسية فعلى تقديرها تبتني على حرمة التجرّي ، وقد قلنا(1): إنّ التجرّي لا يكون حراماً شرعاً ، نعم يظهر من بعض الأخبار كما روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) من أنّ القاتل والمقتول في النار ، فقيل : يارسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ فقال (صلّى الله عليه وآله) : إنّه نوى قتل صاحبه(2)، إلاّ أنّ هذه الحرمة من جهة نيّة الحرام ، لا من جهة المقدّمة ، هذا . مع أنّ هناك روايات متعدّدة ذكرت في مقدّمة الوسائل ، وهي تعطي أنّه لا إثم في نيّة الحرام ، ولا يكتب عليه إلاّ بعد ارتكابه ، بينما تكتب له نيّة الخير قبل ارتكابه(3).
وقد جمع الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه)(4) بين الطائفتين بوجهين ، كان الثاني منهما محل الاعتماد عندنا ، وحاصله : أنّ نيّة السوء إنّما لا تكتب فيما إذا كان العبد قد ارتدع عنها برادع نفساني ، وتكتب فيما لو لم يرتدع العبد عن تلك النيّة التي أضمرها في نفسه وبقيت مستمرّة عنده ، أو كان الرادع غير اختياري كالموت ، إلاّ أنّ مانعاً خارجياً منع من تحقيقها غير الارتداع النفساني .
وكيف كان ، فالبحث عن كون نيّة الحرام حراماً نفسياً ، أو من باب التجرّي أو ليست بحرام ، شيء آخر غير حرمة المقدّمة ، ولا ترتبط بها.
وأمّا القسم الثالث : فالقول بعدم موجب للحرمة هو الحقّ ، لأنّ اجتناب المحرّم وتحصيل غرض المولى لا يتوقّفان على ترك المقدّمة ، وإنّما الفعل والترك كانا داخلين تحت إرادته واختياره ، فمن الضروري إذن أن لا تتصف المقدّمة بالحرمة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع مصباح الاُصول 2 (موسوعة الإمام الخوئي 47) : 25 .
(2) الوسائل 15 : 148 / أبواب جهاد العدو ب67 (نقل بالمضمون) .
(3) الوسائل 1 : 51 / أبواب مقدّمة العبادات ب6 ح6 ـ 8 ، 10 ، 20 ، 21 .
(4) فرائد الاُصول 1 : 13 .
ــ[432]ــ
الغيرية ، لما عرفت من عدم تمامية ملاك التوقّف فيها ، فكان حكمها حكم عدمها .
فالمتحصّل من مقدّمة الحرام : أنّها ليست بمحرّمة ، إلاّ في صورة واحدة وهي الاُولى ، وهذه تتوقّف على ثبوت الوجوب شرعاً ، وحيث انتفى ذلك فلا حرمة أصلا .
مقدّمة المكروه
وهي معلومة من مقدّمة الحرام ، والتفاصيل كلّها جارية فيها . إلاّ أنّ البحث في مكروهية مقدّمته تتمّ بعد البناء على أنّ الشارع حكم بالكراهة بين المقدّمة وذيها ، وإلاّ فلا ، فهي كالمحرّم .
لقد تمّ والحمد لله الجزء الأول من كتابنا ، ويتلوه الجزء الثاني إن شاء الله تعالى .
|