امكان النسخ - النسخ في التوراة 

الكتاب : البيان في تفسـير القرآن - خطبـة الكتاب   ||   القسم : التفسير   ||   القرّاء : 4898

امكان النسخ:
المعروف بين العقلاء من المسلمين وغيرهم هو جواز النسخ بالمعنى المتنازع فيه "رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والإنشاء" وخالف في ذلك اليهود والنصارى فادعوا استحالة النسخ، واستندوا في ذلك إلى شبهة هي أوهن من بيت العنكبوت.
وملخص هذه الشبهة:
إن النسخ يستلزم عدم حكمة الناسخ، أو جهله بوجه الحكمة، وكلا هذين اللازمين مستحيل في حقه تعالى، وذلك لأن تشريع الحكم من الحكيم المطلق لا بد وأن يكون على طبق مصلحة تقتضيه، لأن الحكم الجزافي ينافي حكمة جاعله، وعلى ذلك فرفع هذا الحكم الثابت لموضوعه إما أن يكون مع بقاء الحال على ما هو عليه من وجه المصلحة وعلم ناسخه بها، وهذا ينافي حكمة الجاعل مع أنه حكيم مطلق، وإما أن يكون من جهة البداء، وكشف الخلاف على ما هو الغالب في الأحكام والقوانين العرفية، وهو يستلزم الجهل منه تعالى. وعلى ذلك فيكون وقوع النسخ في الشريعة محالا لأنه يستلزم المحال.

ــ[278]ــ

والجواب:
إن الحكم المجعول من قبل الحكيم قد لا يراد منه البعث، أو الزجر الحقيقيين كالأوامر التي يقصد بها الامتحان، وهذا النوع من الأحكام يمكن إثباته أولا ثم رفعه، ولا مانع من ذلك، فان كلا من الإثبات والرفع في وقته قد نشأ عن مصلحة وحكمة، وهذا النسخ لا يلزم منه خلاف الحكمة، ولا ينشأ من البداء الذي يستحيل في حقه تعالى، وقد يكون الحكم المجعول حكما حقيقيا، ومع ذلك ينسخ بعد زمان، لا بمعنى أن الحكم بعد ثبوته يرفع في الواقع ونفس الأمر، كي يكون مستحيلا على الحكيم العالم بالواقعيات، بل هو بمعنى أن يكون الحكم المجعول مقيدا بزمان خاص معلوم عند الله، مجهول عند الناس، ويكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان، لانتهاء أمده الذي قيد به، وحلول غايته الواقعية التي أنيط بها.
والنسخ بهذا المعنى ممكن قطعا، بداهة: أن دخل خصوصيات الزمان في مناطات الأحكام مما لا يشك فيه عاقل، فإن يوم السبت - مثلا - في شريعة موسى(عليه السلام) قد اشتمل على خصوصية تقتضي جعله عيدا لأهل تلك الشريعة دون بقية الأيام، ومثله يوم الجمعة في الإسلام، وهكذا الحال في أوقات الصلاة والصيام والحج، وإذا تصورنا وقوع مثل هذا في الشرايع فلنتصور أن تكون للزمان خصوصية من جهة استمرار الحكم وعدم استمراره، فيكون الفعل ذا مصلحة في مدة معينة، ثم لا تترتب عليه تلك المصلحة بعد انتهاء تلك المدة، وقد يكون الأمر بالعكس.
وجملة القول: إذا كان من الممكن أن يكون للساعة المعينة، أو اليوم المعين أو الاسبوع المعين، أو الشهر المعين تأثير في مصلحة الفعل أو مفسدته أمكن دخل السنة في ذلك أيضا، فيكون الفعل مشتملا على مصلحة في سنين معينة، ثم لا تترتب

ــ[279]ــ

عليه تلك المصلحة بعد انتهاء تلك السنين، وكما يمكن أن يقيد إطلاق الحكم من غير جهة الزمان بدليل منفصل، فكذلك يمكن أن يقيد إطلاقه من جهة الزمان أيضا بدليل منفصل، فإن المصلحة قد تقتضي بيان الحكم على جهة العموم أو الإطلاق، مع أن المراد الواقعي هو الخاص أو المقيد، ويكون بيان التخصيص أو التقييد بدليل منفصل. فالنسخ في الحقيقة تقييد لإطلاق الحكم من حيث الزمان ولا تلزم منه مخالفة الحكمة ولا البداء بالمعنى المستحيل في حقه تعالى، وهذا كله بناء على أن جعل الأحكام وتشريعها مسبب عن مصالح أو مفاسد تكون في نفس العمل. وأما على مذهب من يرى تبعية الأحكام لمصالح في الأحكام أنفسها فإن الأمر أوضح، لأن الحكم الحقيقي على هذا الرأي يكون شأنه شأن الأحكام الامتحانية.
النسخ في التوراة:
وما قدمناه يبطل تمسك اليهود والنصارى باستحالة النسخ في الشريعة، لاثبات استمرار الأحكام الثابتة في شريعة موسى. ومن الغريب جدا أنهم مصرون على إحالة النسخ في الشريعة الإلهية، مع أن النسخ قد وقع في موارد كثيرة من كتب العهدين:
1 ـ فقد جاء في الاصحاح الرابع من سفر العدد (عدد 2، 3):
"خذ عدد بني قهات من بين بني لاوي حسب عشائرهم، وبيوت آبائهم من ابن ثلاثين سنة فصاعدا إلى ابن خمسين سنة، كل داخل في الجند ليعمل عملا في خيمة الاجتماع".
وقد نسخ هذا الحكم، وجعل مبدأ زمان قبول الخدمة بلوغ خمس وعشرين سنة

ــ[280]ــ

بما في الاصحاح الثامن من هذا السفر (عدد 23، 24): "وكلم الرب موسى قائلا هذا ما للاويين من ابن خمس وعشرين سنة فصاعدا، يأتون ليتجندوا أجنادا في خدمة خيمة الاجتماع".
ثم نسخ ثانيا: فجعل مبدأ زمان قبول الخدمة بلوغ عشرين سنة بما جاء في الاصحاح الثالث والعشرين من أخبار الأيام الاول (عدد 24، 32): "هؤلاء بنو لاوي حسب بيوت آبائهم رؤوس الآباء حسب إحصائهم في عدد الأسماء، حسب روؤسهم عامل العمل لخدمة بيت الرب من ابن عشرين سنة فما فوق... وليحرسوا حراسة خيمة الاجتماع، وحراسة القدس".
2 ـ و جاء في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر العدد (عدد 3 ـ 7):
"وقل لهم هذا هو الوقود الذي تقربون للرب، خروفان حوليان صحيحان، لكل يوم محرقة دائمة. الخروف الواحد تعمله صباحا، والخروف الثاني تعمله بين العشاءين. وعشر الايفة من دقيق ملتوت بربع الهين من زيت الرض تقدمة… وسكيبها ربع الهين للخروف الواحد".
وقد نسخ هذا الحكم: وجعلت محرقة كل يوم حمل واحد حولي في كل صباح، وجعلت تقدمته سدس الايفة من الدقيق، وثلث الهين من الزيت بما جاء في الاصحاح السادس والأربعين من كتاب حزقيال (عدد 13 ـ 15): "وتعمل كل يوم محرقة للرب حملا حوليا صحيحا صباحا تعمله. وتعمل عليه تقدمة صباحا صباحا سدس الايفة. وزيتا ثلث الهين لرش الدقيق تقدمة للرب فريضة أبدية دائمة، ويعملون الحمل والتقدمة والزيت صباحا صباحا محرقة دائمة".
3 ـ وجاء في الاصحاح الثامن والعشرين من سفر العدد أيضا (عدد 9، 10):

 
 

ــ[281]ــ

"وفي يوم السبت خروفان حوليان صحيحان، وعشران من دقيق ملتوت بزيت تقدمة مع سكيبه. محرقة كل سبت فضلا عن المحرقة الدائمة وسكيبها".
وقد نسخ هذا الحكم: وجعلت محرقة السبت ستة حملان وكبش، وجعلت التقدمة إيفة للكبش، وعطية يد الرئيس للحملان، وهين زيت للايفة بما جاء في الاصحاح السادس والأربعين من كتاب حزقيال أيضا (عدد 4، 5): "والمحرقة التي يقربها الرئيس للرب في يوم السبت ستة حملان صحيحة، وكبش صحيح. والتقدمة إيفة للكبش، وللحملان تقدمة عطية يده، وهين زيت للايفة".
4 ـ وجاء في الاصحاح الثلاثين من سفر العدد "عدد 2":
"إذا نذر رجل نذرا للرب، أو أقسم أن يلزم نفسه بلازم فلا ينقض كلامه، حسب كل ما خرج من فمه يفعل".
وقد نسخ جواز الحلف الثابت بحكم التوراة بما جاء في الاصحاح الخامس من إنجيل متى (عدد 33، 34): "أيضا سمعتم انه قيل للقدماء لا تحنث، بل أوف للرب أقسامك. وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة".
5 ـ وجاء في الاصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج (عدد 23 ـ 25):
"وإن حصلت أذية تعطي نفسا بنفس، وعينا بعين وسنا بسن ويدا بيد ورجلا برجل، وكيا بكي وجرحا بجرح ورضا برض".
وقد نسخ هذا الحكم بالنهي عن القصاص في شريعة عيسى بما جاء في الاصحاح الخامس من إنجيل متى (عدد 38): "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن، وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا".

ــ[282]ــ

6 ـ وجاء في الاصحاح السابع عشر من سفر التكوين (عدد 10) في قول الله لإبراهيم:
"هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك، يختن منكم كل ذكر". وقد جاء في شريعة موسى إمضاء ذلك. ففي الاصحاح الثاني عشر من سفر الخروج (عدد 48 ـ 49): "وإذا نزل عندك نزيل، وصنع فصحا للرب فليختن منه كل ذكر، ثم يتقدم ليصنعه فيكون كمولود الأرض، وأما كل أغلف فلا يأكل منه، تكون شريعة واحدة لمولود الأرض، وللنزيل النازل بينكم". وجاء في الاصحاح الثاني عشر من سفر اللاويين (عدد 2، 3): "إذا حبلت امرأة وولدت ذكرا تكون نجسة سبعة أيام كما في أيام طمث علتها تكون نجسة، وفي اليوم الثامن يختن لحم غرلته".
وقد نسخ هذا الحكم، ووضع ثقل الختان عن الأمة بما جاء في الاصحاح الخامس عشر من أعمال الرسل (عدد 24 ـ 30) وفي جملة من رسائل بولس الرسول.
7 ـ وجاء في الاصحاح الرابع والعشرين من التثنية (عدد 1 ـ 3):
"إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه، لأن وجد فيها عيب شيء، وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها، وأطلقها من بيته، ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر، فإن أبغضها الرجل الآخر وكتب لها كتاب طلاق، ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها له زوجة، لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود يأخذها، لتصير له زوجة".
وقد نسخ الإنجيل ذلك وحرم الطلاق بما جاء في الاصحاح الخامس من متى

ــ[283]ــ

(عدد 31 ـ 32): "وقيل من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاقها، وأما أنا فأقول لكم إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني". وقد جاء مثل ذلك في الاصحاح العاشر من مرقس: عدد (11، 12) والاصحاح السادس عشر من لوقا (عدد 18).
وفيما ذكرناه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد، ومن أراد الاطلاع على أكثر من ذلك فليراجع كتابي إظهار الحق(1) والهدى إلى دين المصطفى (2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) للشيخ رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي، وهو كتاب جليل نافع جدا.
(2) للإمام البلاغي.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net