4 ـ مصاحف التابعين والصحابة: مما لا ريب فيه أن مصاحف التابعين والصحابة - قبل جمع عثمان وبعده - كانت مشتملة على البسملة، ولو لم تكن من القرآن لما أثبتوها في مصاحفهم، فان الصحابة منعت أن يدرج في المصحف ما ليس من القرآن، حتى أن بعض المتقدمين منعوا عن تنقيط المصحف وتشكيله. فإثبات البسملة في مصاحفهم شهادة منهم بأنها من القرآن كسائر الآيات المتكررة فيه. وما ذكرناه يبطل احتمال أن إثباتهم إياها كان للفصل بين السور. ويبطل هذه الدعوى أيضاً إثبات البسملة في سورة الفاتحة، وعدم إثباتها في أول سورة براءة. ولو كانت للفصل بين السور، لأثبتت في الثانية، ولم تثبت في الأولى. وذلك يدلنا قطعاً على أن البسملة آية منزلة في الفاتحة دون سورة براءة. أدلة نفاة جزئية البسملة: واستدلَّ القائلون بأن البسملة ليست جزءاً من السورة بوجوه: الوجه الأول: أن طريق ثبوت القرآن ينحصر بالتواتر، فكل ما وقع النزاع في ثبوته فهو ليس
ــ[449]ــ
من القرآن، والبسملة مما وقع النزاع فيه. والجواب أولاً: أن كون البسملة من القرآن مما تواتر عن أهل البيت (عليهم السلام) ولا فرق في التواتر بين أن يكون عن النبي (صلى الله عليه وآله) وبين أن يكون عن أهل بيته الطاهرين بعد أن ثبت وجوب اتباعهم. وثانياً: إن ذهاب شرذمة إلى عدم كون البسملة من القرآن لشبهة لا يضرّ بالتواتر، مع شهادة جمع كثير من الصحابة بكونها من القرآن، ودلالة الروايات المتواترة عليه معنى. وثالثاً: أنه قد تواتر أن النبي (صلى الله عليه وآله) قرأ البسملة حينما يقرأ سورة من القرآن وهو في مقام البيان، ولم يبين أنها ليست منه وهذا يدل دلالة قطعية على أن البسملة من القرآن نعم لا يثبت بهذا أنها جزء من السورة. ويكفي لإثباته ما تقدم من الروايات، فضلاً عما سواها من الأخبار الكثيرة المروية من الطريقين. والجزئية تثبت بخبر الواحد الصحيح، ولا دليل على لزوم التواتر فيها أيضاً. الوجه الثاني: ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة قال: "سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل: فإذا قال العبد: {الحمدُ للّهِ رب العالمين} قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم}، قال: أثنى عليَّ عبدي وإذا قال: {مالكِ يومِ الديّن }، قال الله تعالى: مجَّدني عبدي، وإذا قال العبد: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال الله تعالى: هذا بيني
ــ[450]ــ
وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الِصّرَاطَ المْستَقِبمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيرِ المْغضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّآلِّين}، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل"(1). وتقريب الاستدلال في هذه الرواية أنها تدل – بظاهرها- على أن ما بعد آية إياك نعبدُ وإياك نستعين يساوي ما قبلها في العدد، ولو كانت البسملة جزءاً من الفاتحة لم يستقم معنى الرواية، وذلك: لأن سورة الفاتحة - كما عرفت - سبع آيات، فان كانت البسملة جزءاً كان ما بعد آية: {إياك نعبدُ وإياك نستعينُ} آيتين، ومعنى ذلك أن ما قبل هذه الآية ضعف ما بعدها، فالفاتحة لا تنقسم إلى نصفين في العدد. والجواب عنه أولاً: أن الرواية مروية عن العلاء، وقد اختلف فيه بالتوثيق والتضعيف. وثانياً: أنه لو تمت دلالتها، فهي معارضة بالروايات الصحيحة المتقدمة الدالة على أن الفاتحة سبع آيات، مع البسملة لا بدونها. وثالثاً: إنه لا دلالة في الرواية على أن التقسيم بحسب الألفاظ، بل الظاهر انه بحسب المعنى، فالمراد أن أجزاء الصلاة بين ما يرجع إلى الرب وما يرجع إلى العبد بحسب المدلول. ورابعاً: أنه لو سلمنا أن التقسيم هو بحسب الألفاظ فأي دليل على انه بحسب عدد الآيات، فلعله باعتبار الكلمات، فان الكلمات المتقدمة على آية {إياك نعبدُ وإياك نستعينُ}، والمتأخرة عنها، مع احتساب البسملة وحذف المكررات عَشر كلمات. ــــــــــــــــــــــــــــ (1) صحيح مسلم: كتاب الصلاة، رقم الحديث: 598 وسنن أبي داود: كتاب الصلاة، رقم الحديث: 699. وسنن النسائي: كتاب الافتتاح، رقم الحديث: 900.
ــ[451]ــ
الوجه الثالث: ما رواه أبو هريرة: من أن سورة الكوثر ثلاث آيات (1)، وأن سورة الملك ثلاثون آية(2) فلو كانت البسملة جزءاً منها، لزاد عددهما على ذلك. والجواب: إن رواية أبي هريرة في سورة الكوثر على فرض صحة سندها معارضة برواية أنس، وقد تقدمت (3) وهي رواية مقبولة روتها جميع الصحاح غير موطأ مالك (4)، فرواية أبي هريرة مطروحة أو مؤولة بإرادة الآيات المختصة، فإن البسملة مشتركة بين جميع السور، وهذا هو جواب روايته في سورة الملك. ــــــــــــــــــــــــــــ (1) لم اعثر على هذه الرواية في كتب الروايات. (المؤلف) لكن في صحيح البخاري، عن ابن شبرمه: "نظرت كم يكفي الرجل من القرآن فلم أجد سورة أقل من ثلاث آيات..." كتاب فضائل القرآن، رقم الحديث: 4633. (2) مستدرك الحاكم: 1 / 565، وصحيح الترمذي: 11 / 30، كتاب فضائل القرآن، رقم الحديث: 2816، وكنز العمال: 1 / 516، 525 فضائْل السور والآيات. (3) في الصفحة 454 من هذا الكتاب. (4) تيسير الوصول: 1 / 199.
|