دواعي العبادة - حصر الاستعانة بالله - الشفاعة 

الكتاب : البيان في تفسـير القرآن - خطبـة الكتاب   ||   القسم : التفسير   ||   القرّاء : 5172


ــ[480]ــ

دواعي العبادة:
العبادة فعل اختياري، فلابد لها من باعث نفساني يبعث نحوها، وهو أحد أمور:
1 ـ أن يكون الداعي لعبادة الله هو طمع الإنسان في إنعامه، وبما يجزيه عليها من الأجر والثواب، حسبما وعده في كتابه الكريم:
{وَمَنْ يطعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ 4:13. وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}(5 : 19).
2 ـ أن يكون الداعي للعبادة هو الخوف من العقاب على المخالفة:
{إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ 10 : 15. إِنَّا نَخَاف مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قمَطرِيراً 76: 10}.
وقد أُشير إلى كلا الأمرين في عدة من الآيات الكريمة:
{تَتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً 32: 16. وَادْعوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمةَ اللّهِ قَرِيبٌ منَ المحسِنِينَ 7: 56. يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجونَ رَحْمَتَهُ وَيخافُونَ عذابَه 17: 57}.
3 ـ أن يعبد الله بما أنه أهل لأن يعبد، فانه الكامل بالذات والجامع لصفات الجمال والجلال. وهذا القسم من العبادة لا يتحقق إلا ممن اندكت نفسيته فلم ير لذاته إنية إزاء خالقه، ليقصد بها خيراً، أو يحذر لها من عقوبة، وإنما ينظر إلى صانعه وموجده ولا يتوجه إلا إليه، وهذه مرتبة لا يسعنا التصديق ببلوغها لغير المعصومين (عليهم السلام) الذين أخلصوا لله أنفسهم فهم المخلصون الذين لا يستطيع

 
 

ــ[481]ــ

الشيطان أن يقترب من أحدهم.
{وَلأغْوِيَنَّهمْ أَجْمَعِينَ 15 : 39 إِلا عِبادَكَ مِنْهُمُ المخْلَصِينَ: 40}.
قال أميرالمؤمنين وسيد الموحدين صلوات الله عليه: "ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك" (1).
وأما سائر العباد فتنحصر عبادتهم في أحد القسمين الأولين، ولا يسعهم تحصيل هذه الغاية. وبذلك يظهر بطلان قول من أبطل العبادة إذا كانت ناشئة عن الطمع أو الخوف، واعتبر في صحة العبادة أن تكون لله بما هو أهل للعبادة ووجه بطلان هذا القول: أن عامة البشر غير المعصومين لا يتمكنون من ذلك فكيف يمكن تكليفهم به! وهل هو إلا تكليف بما لا يطاق؟!
أضف إلى ذلك أن الآيتين الكريمتين المتقدمتين قد دلّتا على صحة العبادة إذا صدرت عن خوف أو طمع. فقد مدح الله
سبحانه من يدعوه خوفاً أو طمعاً وذلك يقتضي محبوبية هذا العمل وأنه مما أمر به الله تعالى وأنه يكفي في مقام الامتثال. وقد ورد عن المعصومين (عليهم السلام) ما يدل على صحة العبادة إذا كانت ناشئة من خوف أو طمع (2).
وقد أوضحنا - فيما تقدم - أن الآيات السابقة من هذه السورة قد حصرت الحمد في الله تعالى من جهة كماله الذاتي، ومن جهة ربوبيته ورحمته، ومن جهة سلطانه وقدرته، فتكون فيها إشارة إلى مناشئ العبادة ودواعيها أيضاً، فالعبادة إما ناشئة من إدراك العابد كمال المعبود واستحقاقه العبادة بذاته وهي عبادة الأحرار، وإما من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مرآ ة العقول: 2 / 101، باب النية.
(2) انظر التعليقة رقم (24) للوقوف على أقسام الدوافع للعبادة ـ في قسم التعليقات.

ــ[482]ــ

إدراكه إنعام المعبود وإحسانه وطمعه في ذلك وهي عبادة الاجراء، وإما من إدراكه سطوته وقهره وعقابه وهي عبادة العبيد.
حصر الاستعانة بالله:
لا مانع من استعانة الإنسان في مقاصده بغير الله من المخلوقات أو الأفعال قال الله تعالى:
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ 2 : 45. وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى5: 2. قَالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْر فَأَعْيِنُونِي بِقُوَّة 18 : 95}.
وإذن فليست الاستعانة بمطلقها تنحصر بالله سبحانه بل المراد منها استمداد القدرة على العبادة منه تعالى، والاستزادة من توفيقه لها حتى تتم وتخلص والغرض من ذلك إثبات أن العبد في أفعاله الاختيارية وسط بين الجبر والتفويض فان الفعل يصدر عن العبد باختياره، ولذلك أسند الفعل إليه في قوله تعالى: {إيَّاكَ نَعْبُد} إلا أن هذا الفعل الاختياري من العبد إنما يكون بعون الله له وبإمداده إياه بالقدرة آناً فاناً: {عَطاءً غيرَ مَجْذوذ} بحيث لو انقطع المدد عنه في آن لم يستطع إتمام الفعل، ولم تصدر منه عبادة ولا حسنة.
وهذا هو القول الذي يقتضيه محض الإيمان، فان الجبر يلزمه أن يكون العقاب على المعاصي عقاباً للعبد من غير استحقاق، وهذا ظلم بيّن:
{سُبْحانَهُ وتَعالى عَمَّا يقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً}(17 : 43).
وإن التفويض يلزمه القول بخالق غير الله فان معناه أن العبد مستقل في أفعاله، وأنه خالق لها، ومرجع هذا إلى تعدد الخالق وهو شرك بالله العظيم، والإيمان الحق

ــ[483]ــ

بالله هو الحد الوسط بين الإفراط والتفريط، فالفعل فعل العبد وهو فاعله باختياره، ولذلك استحق عليه الثواب أو العقاب، والله سبحانه هو الذي يفيض على العبد الحياة والقدرة وغيرهما من مبادئ الفعل إفاضة مستمرة غير منقطعة، فلا استقلال للعبد، ولا تصرف له في سلطان المولى، وقد أوضحنا هذا في بحثنا عن إعجاز القرآن (1).
هذه هي الاستعانة المنحصرة بالله تعالى، فلولا الإفاضة الإلهية لما وجد فعل من الأفعال ولو تظاهرت الجن والإنس على ايجاده، فإن الممكن غير مستقل في وجوده، فيستحيل أن يكون مستقلاً في إيجاده، وبما ذكرناه يظهر الوجه في تأخير جملة: {إياك نستعين}، عن قوله: {إياك نعبد} فإنه تعالى حصر العبادة بذاته أولاً، فالمؤمنون لا يعبدون إلا الله، ثم أبان لهم أن عباداتهم إنما تصدر عنهم بعون الله وإقداره، فالعبد رهين إفاضة الله ومشيئته، والله أولى بحسنات العبد من نفسه، كما أن العبد أولى بسيئاته من الله (2).
الشفاعة:
تدل الآيات المباركة على أن الله سبحانه هو الكافل بامور عبيده، وأنه الذي بيده الأمر، يدبر شؤون عبده ويوجهه إلى كماله برحمته، وهو قريب منه، يسمع نداءه ويجيب دعاءه:
{أَلَيْسَ اللّه بِكَافٍ عَبْدَهُ 39: 36. وَإِذَا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ اجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون}(2: 186).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في الصفحة 35 من هذا الكتاب.
(2) انظر التعليقة رقم (25) للوقوف على الأمر بين الأمرين في كسب الحسنات وارتكاب السيئات ـ في قسم التعليقات.

ــ[484]ــ

وعلى هذا فليس لمخلوق أن يستشفع بمخلوق مثله، ويجعله واسطة بينه وبين ربه، ففي ذلك تبعيد للمسافة، بل وفيه إظهار للحاجة إلى غير الله وماذا يصنع محتاج بمحتاج مثله؟ وماذا ينتفع العاصي بشفاعة من لا ولاية له ولا سلطان؟ بل:
{لِلّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ 30: 4. قُلْ لِلّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً له مُلْكُ السّماواتِ وَالأَرْضِ 39: 44}.
هذا كله إذا لم تكن الشفاعة بإذن من الله سبحانه، وأما إذا أذن الله بالشفاعة لأحد فإن الاستشفاع به يكون نحواً من الخضوع لله والتعبد له، ويستفاد من القرآن الكريم أن الله تعالى قد أذن لبعض عباده بالشفاعة، إلا أنه لم ينوّه بذكرهم عدا الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فقد قال الله تعالى:
{وَلاْ يَملكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحمنِ عَهْداً 19: 87. يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إلا مَنْ أذِنَ لَه الرّحمنُ 20: 109. وَلا تَنْفَع الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمن أَذِنَ له 34: 23. وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرسولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً 4: 64}.
والروايات الواردة عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وعن أوصيائه الكرام (عليهم السلام) في هذا الموضوع متواترة.




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net