الوقوف بعرفات تقيّة 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الخامس:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 5878


    الوقوف بعرفات في اليوم الثامن :

   ومن هذا القبيل الوقوف بعرفات يوم الثامن من ذي الحجة الحرام ، لأن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يحجون أغلب السنوات ، وكان أصحابهم ومتابعوهم أيضاً يحجون مع العامة في كل سنة ، وكان الحكم بيد المخالفين من بعد زمان الأمير (عليه السلام) إلى عصر الغيبة ، ولا يحتمل عاقل توافقهم معهم في هلال الشهر طوال تلك السنوات وتلك المدة التي كانت قريبة من مائتين سنة وعدم مخالفتهم معهم في ذلك أبداً ، بل نقطع قطعاً وجدانياً أنهم كانوا مخالفين معهم في أكثر السنوات ، ومع هذا كله لم ينقل ولم يسمع عن أحدهم (عليهم السلام) ردع الشيعة ومتابعيهم عن تبعيّة العامّة في الوقوف بعرفات وقتئذ ، وقد كانوا يتبعونهم بمرأى ومسمع منهم (عليهم السلام) بل كانوا بأنفسهم يتبعون العامة فيما يرونه من الوقوف .

   وعلى الجملة قد جرت سيرة أصحاب الأئمة (عليهم السلام) ومتابعيهم على التبعية في ذلك للعامّة في سنين متمادية ، ولم يثبت ردع منهم (عليهم السلام) عن ذلك ولا أمر التابعين للوقوف بعرفات يوم التاسع احتياطاً ، ولا أنهم تصدّوا بأنفسهم لذلك ، وهذا كاشف قطعي عن صحّة الحج المتقى به بتلك الكيفية وإجزائه عن الوظيفة الأوّلية في مقام الامتثال ، بلا فرق في ذلك بين كون الحج في سنة الاستطاعة وكونه في غير تلك السنة ، لوجوب الحج في كليهما وعدم كونه مطابقاً للوظيفة الأولية أيضاً في كليهما ، وقد عرفت أن السيرة قد جرت على التقيّة في ذلك كما جرت على الحج في سنة

ــ[255]ــ

الاستطاعة كثيراً ، وهي سيرة قطعية ممضاة بعدم الردع عنها مع كونه بمرأى منهم (عليهم السلام) فلم يردعوهم عن ذلك ولا أمروهم بالوقوف يوم التاسع احتياطاً كما مرّ ، وفي مثل ذلك إذا لم يكن عملهم مجزئاً عن الوظيفة الواقعية لوجب التنبيه على ذلك وردعهم عما يرتكبونه حسب سيرتهم .

   هذا كلّه فيما إذا لم يعلم المخالفة بالوجدان ، كما إذا علم علماً وجدانياً أن اليوم الذي تقف فيه العامّة بعرفات يوم الثامن دون التاسع ، وأما إذا حصل للمكلف علم وجداني بذلك ، فالظاهر عدم صحة الوقوف حينئذ ووجوب إعادة الحج في السنة المقبلة ، إلاّ فيما إذا أدرك وقوف اختياري المشعر ، بل وكذا فيما إذا أدرك وقوف اضطراري المشعر والوجه في ذلك هو أن الوقوف بعرفات مع العلم الوجداني بالخلاف ليس من الاُمور كثيرة الابتلاء ليقال إن الأئمة (عليهم السلام) مع جريان السيرة بذلك بمرأى منهم لم يردعوا عنه ولم يأمروهم بالوقوف يوم التاسع ، ليكون ذلك كاشفاً قطعياً عن كون عملهم مجزئاً في مقام الامتثال ، بل إنما هو أمر نادر الاتفـاق أو لعله أمر غير واقع وعدم الردع في مثله لا يكون دليلاً قطعياً على صحّة ذلك الوقوف وإجزائه في مقام الامتثال .

   نعم ، يمكن الحكم بصحة الوقوف حتى مع العلم الوجداني بالمخالفة فيما إذا ثبت أمران :

   أحدهما : كون حكم الحاكم المخالف نافذاً في حق الجميع وواجب الاتباع حسب مذهبهم حتى في حق العالم بالخلاف .

   وثانيهما : أن يتم شيء من الأدلة اللفظية المتقدمة المستدل بها على سقوط الجزئية والشرطية والمانعية عند التقيّة ، فانه بعد ثبوت هذين الأمرين يمكن الحكم بصحة الوقوف مع العلم بالخلاف ، لأنه من موارد التقيّة من العامة على الفرض من أن حكم الحاكم نافذ عندهم حتى بالنسـبة إلى العالم بالخلاف ، كما أن كل عمل أتى به تقيّة مجزئ في مقام الامتثال على ما دلّت عليه الأدلّة اللفظية المتقدمة ، فان الفرض تماميتها .

ــ[256]ــ

   إلاّ أن الأمرين ممنوعان : أما الأمر الأول ، فلعدم ثبوت أن حكم الحاكم عندهم نافذ حتى في حق العالم بالخلاف . وأما الأمر الثاني فلما عرفت تفصيله .

   وكيف كان ، لا دليل على صحّة الحج والوقوف مع العلم الوجداني بالخلاف ، هذا كلّه فيما إذا كان العمل المأتي به تقيّة كثير الابتلاء وبمرأى من الأئمة (عليهم السلام) .

   وأمّا إذا لم يكن العمل من هذا القبيل ، بل كان نادراً وغير محل الابتلاء ، فلا دليل في مثله على كون العمل الفاقد لشيء من الاجزاء والشرائط أو الواجد للمانع صحيحاً مجزئاً في مقام الامتثال ، فان الدليل على ذلك ينحصر بالسيرة ولا سيرة في أمثال ذلك على الفرض .

   ومن هذا القبيل الوضوء بالنبيذ ولا سيما النبيذ المسكر على ما ينسب إلى بعض المخالفين من تجويزه التوضؤ بالنبيذ ، فانه إذا توضأ بالنبيذ تقيّة فهو وإن كان جائزاً أو واجباً على الخلاف ، إلاّ أنه لا يجزئ عن المأمور  به الأوّلي بوجه ، لأن التوضؤ بالنبيذ أمر نادر التحقّق ولم يتحقّق سيرة في مثله حتى يقال إن الأئمة (عليهم السلام) لم يردعوا عنها مع كون العمل بمرأى منهم (عليهم السلام) وهذا بخلاف ما إذا تمّت الأدلّة اللفظية المتقدمة المستدل بها على سقوط الجزئية والشرطية والمانعية عند التقيّة ، لأن مقتضاها صحّة الوضوء في الصورة المفروضة كما هو واضح .

   ومن هذا القبيل المسح على الخفّين ، وذلك لندرة الابتلاء به في مقام التقيّة ، حيث إن العامّة غير قائلين بوجوبه تعييناً ، وعليه فان قلنا بتمامية رواية أبي الورد المتقدمة (1) المشتملة على الترخيص في المسح على الخفّين فيما إذا كان مستنداً إلى التقيّة ، فلا  مناص من الحكم بصحّته وكونه مجزئاً في مقام الامتثال ، لعدم كون المسح على الخفّين من المحرّمات النفسية ، وإنما هو من المحرّمات الغيرية ، فالترخيص في مثله بمعنى رفع المانعية لا محالة .

   وأمّا إذا لم نعتمد على الرواية ، لعدم توثيق أبي الورد ولا مدحه للوجوه المتقدمة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 202 .

ــ[257]ــ

سابقاً  (1) ، فلا يمكننا الحكم بصحته وإجزائه ، إذ لا سيرة عملية حتى يدعي أنها كاشفة عن الصحّة والإجزاء لعدم ردعهم (عليهم السلام) عن ذلك مع كونه بمرأى منهم .

   وأمّا قضية ما فهمه زرارة من الصحيحة المتقدِّمة (2) ـ  وهو الذي جعلناه مؤيداً للمدّعى  ـ  ففهمه إنما يتبع بالاضافة إلى كبرى المسألة ، أعني التقيّة في المحرّمات الغيرية ، وأما خصوص مورد الصحيحة ، أعني المسح على الخفين فلا ، لما مرّ من أن العامة على ما وقفنا على أقوالهم غير ملتزمين بوجوبه التعييني كما تقدم ، هذا بل نفس إطلاق الروايات الآمرة بغسل الرجلين المحمولة على التقيّة يقتضي الحكم ببطلان المسح على الرجلين وعدم كونه مجزئاً ، لأن مقتضى إطلاقها أن غسل الرجلين واجب تعييني مطلقاً ولو في حال التقيّة ولا يجزئ عنه أمر آخر ، أي أنه ليس بواجب تخييري ليتخيّر المكلف بينه وبين المسح على الخفين ، فلو اقتضت التقيّة المسح على الخفين في مورد على وجه الندرة فهو لا يكون مجزئاً عن المأمور  به الأوّلي .

   ومن هذا القبيل الوقوف بعرفات يوم الثامن مع العلم بالمخالفة ، لأنه أمر يندر الابتلاء به ، ومع الندرة لا مجال لدعوى السيرة ولا لكشفها عن الإجزاء في مقام الامتثال ، لأجل عدم ردع الأئمة (عليهم السلام) عنها ، اللّهمّ إلاّ أن يتم شيء من الأدلة اللفظية على التفصيل المتقدم آنفاً .
ــــــــــــــ

(1) في ص 202 .

(2) في ص 215 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net