الأنحاء المتصوّرة في الرِّياء - مقتضى القاعدة والأخبار في مبطليّة الرِّياء للعبادة 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء السادس:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 6488


    الأنحاء المتصوّرة في الرّياء

   والرِّياء على هذا النحو يتصور على وجوه : أحدها : أن يأتي بالعبادة خالصة لغير الله سبحانه ، بأن يكون محركه نحوها إراءة عبادته للغير من غير أن تكون مستندة إلى امتثال أمر الله سبحانه ولو على نحو التشريك . وثانيهما : أن يأتي بها بداعي كل من امتثال أمره تعالى ورؤية غيره ، بأن يكون كل من الرِّياء والامتثال له مدخلية في عمله ، فالمحرك والداعي هو مجموع طاعة الخالق والمخلوق بحيث لو كان كل منهما منفكّاً عن غيره لم تصدر منه العبادة بوجه . والحكم ببطلان العبادة في هاتين الصورتين على طبق القاعدة قلنا بحرمة الرِّياء أم لم نقل ، حتى لو فرضنا أن تلك الروايات المستفيضة بل المتواترة لم تكن أيضاً كنا حكمنا ببطلان العبادة في الصورتين المذكورتين ، وذلك لأنه يشترط في صحّة العمل العبادي استناده إلى الله سبحانه بأن يكون الداعي الإلهي مستقلاًّ في الداعوية والمحركية ، بحيث لو كان وحده كفى في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) معجم رجال الحديث 7 : 122 .

ــ[5]ــ

التحرّك نحوه وإصدار العبادة وأن يأتي بنيّة التقرب إليه ، فإذا أتى به لا بنيّة القربة كما في الصورة الاُولى أو بنيّة القربة ونيّة أمر آخر على نحو الاشتراك ولو كان من الاُمور المباحة كالتبريد في الوضوء ، فلا محالة وقعت العبادة باطلة ، والحكم ببطلانها حينئذ على طبق القاعدة .

   فما عن السيِّد المرتضى (قدس سره) من إفتائه بصحّة العبادة المراءى فيها وأن المنفي هو القبول وترتّب الثواب عليها (1) ممّا لا يحتمل عادة إرادته هاتين الصـورتين بل من المظنون قويّاً بل المطمأن به أنه أراد غيرهما كما نبيِّنه إن شاء الله تعالى(2) ، لأن بطلان العبادة حينئذ مستند إلى فقدانها النيّة المعتبرة وإن لم يكن فيها رياء ، وعليه :

   فمحل الكلام في الحكم ببطلان العبادة من جهة الرِّياء هو ما إذا كان له داعيان مستقلاّن للعبادة أحدهما : داعي الامتثال ، وثانيهما : داعي الرِّياء وإراءته العمل للغير بحيث كان كل منهما في نفسه وإن لم ينضم إليه الآخر صالحاً للداعوية والمحركية نحو العبادة على تقدير انفراده ، ولكنهما اجتمعا معاً في عبادته وانتسب العمل إليهما ـ  من جهة استحالة صدور المعلول الواحد عن علّتين مستقلتين ، فلا محالة يستند إليهما على نحو الاشتراك في التأثير   ـ وحينئذ يستند بطلانها إلى الرِّياء لتمامية شرائطها في نفسها لأنها منتسبة إلى الله سبحانه حيث صدرت عن داع قربي ، ولكنّها لما كانت على نحو الاشتراك بينه تعالى وبين غيره حكمنا ببطلانها .

   أو كان داعي الامتثال مستقلاً في المحركية والانبعاث بحيث لو كان وحده كفى في إصدار العبادات ، وكان داعي الرِّياء غير مستقل في الداعوية بأن لم يكن مؤثراً في البعث والعمل في نفسه إلاّ إذا ضم إليه داع آخر ، وهذا هو مراد الماتن (قدس سره) من كون داعي القربة مستقلاً والرِّياء تبعاً . وهاتان الصورتان هما محل البحث في المقام ، وقد ذهب المشهور فيهما إلى بطلان العبادة بالرياء ، وخالفهم في ذلك السيِّد المرتضى (قدس سره) والتزم بصحتها وسقوط الثواب عنها وعدم قبولها للرياء .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الانتصار : 100 /  المسألة 9 .

(2) في ص 17 ـ 18 .

ــ[6]ــ

   والكلام في ذلك يقع من جهتين ، إحداهما : صحّة العبادة المراءى فيها وبطلانها من جهة ما تقتضيه القاعدة في نفسها ، وثانيتهما صحتها وفسادها بالنظر إلى الأخبار الواردة في المقام .

   أمّا الكلام من الجهة الاُولى فالصحيح صحّة العبادة في مفروض الصورتين حيث صدرت عن داع إلهي مستقل في داعويته ، بحيث لو كان وحده كفى في الداعوية نحو العمل ، بلا فرق في ذلك بين أن ينضم إليه داع آخر غير داعي الامتثال مستقل في داعويته على تقدير وحدته ، أو تبعي لا يستقل في الداعوية في نفسه حتى ينضم إليه داع آخر ، وذلك لأن المعتبر في صحّة العبادة أن تكون صادرة عن الداعي القربي الإلهي المستقل ، وأما انحصار الداعي في ذلك وأن لا يكون معه داع آخر فهو غير معتبر في صحّتها كما يأتي تفصيله عند تعرض الماتن (قدس سره) في نفس المسألـة كما إذا أتى بالعبادة بداع إلهي مستقل منضماً إلى داع آخر مباح أيضاً مستقل في داعويته أو تبعي كقصد التبريد بالوضوء ، حيث يأتي منا هناك أن العبادة إذا كانت صادرة عن داع قربي مستقل في داعويته صحت سواء كان هناك داع آخر أم لم يكن ، لعدم اعتبار انحصار الداعي بالداعي الإلهي ، فلو توضّأ بداعيين أحدهما قربي مستقل والآخر أمر آخر كالتبريد ونحوه ، يحكم بصحة وضوئه لا محالة . فالعبادة المراءى فيها محكومة بالصحة بمقتضى القاعدة .

   وأمّا الكلام من الجهة الثانية فقد عرفت أن حرمة الرِّياء مما لا ينبغي الإشكال فيه بمقتضى الأخبار المستفيضة وما ورد في ذمّه من الآيات (1) بل هو في مرتبة شديدة من الحرمة حتى عبر عنه بالشرك في جملة من رواياته ، كما أن الرِّياء وجه من وجوه العمل والعبادة وليس من وجوه القصد النفساني ، لأن العمل بنفسه رياء كما في قوله تعالى : (والّذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ) أو (كالّذي ينفق ماله رئاء الناس )وقوله تعالى : (الّذين هم يراءون ) ، وعليه فالأخبار الواردة في حرمة الرِّياء منطبقة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّمت الاشارة إلى مواضع الآيات في صدر المسألة فلاحظ .

ــ[7]ــ

على حرمة العبادة التي أتى بها بداعي إرائتها للناس وإرائة أنه خيّر من الأخيار ، ومع حرمة العمل ومبغوضيته كيف يمكن التقرّب به ، لأن المبغوض لا يكون مقرباً والمحرّم لا يكون مصداقاً للواجب ، فلا محالة تبطل العبادة بذلك هذا .

   على أن في الأخبار الواردة في الرِّياء مضافاً إلى دلالتها على حرمته دلالة واضحة على بطلان العمل المأتي به رياءً ، وأنه مردود إلى من عمل له وغير مقبول ، وفي بعضها أن الله سبحانه يأمر به ليجعل في سجين ، إلى غير ذلك من الأخبار ، وهذه الأخبار وإن كان أغلبها ضعيفة إلاّ أن استفاضتها بل الاطمئنان بصدور بعضها ـ لو لم ندع العلم ـ كافية في الحكم باعتبارها ، على أن بعضها معتبرة في نفسه .

   فقد روى البرقي في المحاسن عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال «يقول الله عزّ وجلّ : أنا خير شريك فمن عمل لي ولغيري فهو لمن عمله غيري» (1) هكذا في نسخة الوسائل المطبوعة جديداً وقديماً ، والظاهر أنها غلط . وفي نسختنا المصححة من الوسائل «فهو كمن عمله غيري» والظاهر سقوط اللاّم عن قوله «غيري» وعليه فالرواية هكذا : «من عمل لي ولغيري فهو كمن عمله لغيري» وعليه فهي كالصريح في بطلان العبادة بالرياء حيث نزلها سبحانه منزلة العمل الذي أتى به خالصاً لغيره تعالى ، ومن الظاهر أن العمل لغيره مما لا يحسب من العمل لله في ديوانه بل يحسب لمن أتى له لأنه خير شريك ، فكأنه مما لم يأت به(2) وأي شيء أصرح في بطلان العمل من هذا التعبير ؟

   والرواية لا بأس بها من حيث سـندها إلاّ من جهـة والد الـبرقي ، حيث ذكـر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 72 /  أبواب مقدّمة العبادات ب 12 ح 7 .  المحاسن 1 : 392 / 875 .

(2) بل في موثقة مسعدة بن زياد « ... إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء : يا كافر يا فاجر يا غادر يا خاسر ، حبط عملك وبطل أجرك فلا خلاص لك اليوم... » الوسائل 1: 69 / أبواب مقدّمة العبادات ب 11 ح 16 . وفي موثقة السكوني « ... إن الملك ليصعد بعمل العبد ... يقول الله عزّ وجلّ : اجعلوها في سجين ، إنه ليس إياي أراد به» الوسائل 1 : 71 / أبواب مقدّمة العبادات ب 12 ح 3 .

ــ[8]ــ

النجاشي في حقه أنه ضعيف في حديثه(1) وعن ابن الغضائري : أن حديثه يعرف وينكر (2) ، إلاّ أن الشيخ (قدس سره) وثقه صريحاً (3) وعليه فالرواية معتبرة ، بل لا معارضة بين توثيق الشيخ إياه وبين ما حكي عن النجاشي وابن الغضائري أصـلاً لأن الظاهر أن كلام النجاشي (ضيعف في حديثه) لا تعرض له إلى نفي وثاقة الرجل بل هو بمعنى ضعف رواياته لأنه يروي عن الضعفاء ، ومن هنا قد يقبل حديثه وقد ينكر كما في كلام ابن الغضائري ، فلا تنافي بين كلامهما وكلام الشيخ (قدس سره) .
ــــــــــــــ

(1) رجال النجاشي : 335 / 898 .

(2) مجمع الرجال 5 : 205 .

(3) وثقه في كتاب الرجال في أصحاب الرضا (عليه السلام) ، 363 /  باب الميم رقم : 4 ، مضافاً إلى أنه واقع في أسانيد كامل الزيارات أيضا .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net