نقد مقالة المحقِّق الخراساني (قدس سره) 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الثامن:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 6715


    ما ذهب إليه المحقق الخراساني (قدس سره)

   بل هذا هو الذي ذهب إليه المحقق الخراساني (قدس سره) في فقهه (2) ، مستدلاًّ عليه بالروايتين المتقدِّمتين ومعترضاً بهما على المشهور في جعلهم الاستحاضة مطلقاً على أقسام ثلاثة وإيجابهم الوضوء فيما إذا لم يثقب الكرسف ، مع أن الروايتين تدلان على أن دم الاستحاضة الأحمر أو الأسود يدور أمره بين وجوب الغسل معه لكل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 2 : 373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5 .

(2) نقله عنه في المستمسك 3 : 386 / أقسام المستحاضة ، وراجع كتاب الدماء : 84 .

ــ[29]ــ

صلاة وبين وجوب الغسل مرة واحدة في كل يوم وليلة ، وليس هناك دم استحاضة أحمر أو أسود يجب فيه الوضوء ، هذا .

   ولكن يمكن المناقشة في الاستدلال بتلك الموثقة على ذلك بأنها ليست مسوقة لبيان أن حكم الاستحاضة يختلف باختلاف كيفية الدم ولونه وأنه إذا كان أحمر أو أسود يدور أمره بين القسمين المتقدِّمين ، وإذا كان أصفر يجب فيه الوضوء ، وإنما هي مسوقة لبيان اختلاف حكم دم الاستحاضة باختلاف كمّية الدم وقلته وكثرته ، بمعنى أنه إذا كان كثيراً على نحو يثقب الكرسف ويتجاوز عنه يجب الغسل لكل صلاة ، وإذا كان كثيراً على نحو يثقب الكرسف ولم يتجاوز عنه يجب الغسل لكل يوم وليلة مرة واحدة ، وإذا كان قليلاً بمقدار يعد عرفاً من الطوارئ والعوارض ولا يعد دماً ولو كان أحمر أو أسود ، لقلّته وضعفه حيث لم يثقب الكرسف يجب فيه الوضوء ، فالمراد بالصفرة هو الدم القليل المعد من الطوارئ والأعراض ولو كان أحمر .

   ويشهد لذلك أمران :

   أحدهما : أنه لم يقل وإن كان دماً أصفر ، ليتوهم أنها بصدد تقسيم الدم من حيث الصفرة وغيرها ، بل قال وإن كان صفرة ، إشارة إلى أن الدم لو كان من القلة بمكان لا يعد دماً عرفاً بل يعد من الأعراض يجب معه الوضوء ولو كان أحمر أو أسود ، فهي مسوقة لبيان اختلاف حكم الاستحاضة باختلاف كمية الدم من حيث الكثرة والقلة ، ولا نظر لها إلى تقسيمه من حيث الكيفية واللون .

   ثانيهما : أن الرواية لو كانت واردة لبيان تقسيم الدم بحسب الكيفية واللون فقد تعرضت في الدم الأحمر لصورتين : الصورة الاُولى ما إذا ثقب الدم الكرسف وتجاوز عنه . الصورة الثانية ما إذا ثقبه ولم يتجاوز عنه . وهناك صورة ثالثة من الدم الأحمر لم يتعرّض لحكمها ، وهي ما إذا لم يثقبه أصلاً .

   وهذا بخلاف ما إذا حملناها على كونها واردة لبيان كمية الدم وأنه إذا كان كثيراً قد يثقب فقط وقد يثقب ويتجاوز ، وهما صورتان ، وقد يكون قليلاً لا يثقب ولا يتجاوز عن الكرسف ، وهي التي يجب الوضوء فيها ، هذا كلّه .

ــ[30]ــ

   على أنّا لو سلمنا أن الروايتين مطلقتان من حيث كون الدم غير المتجاوز ثاقباً من غير تجاوز وما إذا لم يكن ثاقباً أصلاً ، وقد دلتا على أن الواجب في صورة عدم تجاوز الدم عن الكرسف هو الغسل مرة واحدة لكل يوم وليلة سواء ثقبه أم لم يثقبه ، فلا مناص من رفع اليد عن إطلاقهما وتقييدهما بما إذا كان الدم ثاقباً بمقتضى صريح صحيحة الصحّاف حيث ورد فيها «ثم لتنظر ، فإن كان الدم فيما بينها وبين المغرب لا يسيل من خلف الكرسف فلتتوضأ ولتصل عند وقت كل صلاة ما لم تطرح الكرسف عنها ، فإن طرحت الكرسف عنها فسال الدم وجب عليها الغسل ، وإن طرحت الكرسف عنها ولم يسل الدم فلتوضأ ولتصل ولا غسل عليها ، قال : وإن كان الدم إذا أمسكت الكرسف يسيل من خلف الكرسف صبيباً لا يرقأ ، فإن عليها أن تغتسل في كل يوم وليلة ثلاث مرات ـ إلى أن قال ـ وكذلك تفعل المستحاضة» (1) .

   حيث صرحت بأن دم الاستحاضة إذا لم يسل من خلف الكرسف أي لم يثقبه وجب على المستحاضة أن تتوضأ وتصلِّي ، ولا يجب عليها الغسل حينئذ ، وبها نقيد إطلاق قوله (عليه السلام) «وإن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل» بما إذا لم يثقبه فإن اللازم حينئذ هو التوضؤ دون الاغتسال .

   هذا كله فيما ذهب إليه المحقق الخراساني (قدس سره) عند كون دم الاستحاضة أحمر أو أسود ، حيث ذكر دورانه بين القسمين المتقدمين من غير أن يكون له قسم ثالث يجب فيه الوضوء .

   وأمّا إذا كان صفرة فقد ذكر أن أمر الدم الأصفر يدور بين قسـمين لا ثالث لهما فإنها إن كانت قليلة وجب معها الوضوء ، وإن كانت كثيرة يجب معها الغسل .

  واستدلّ على ذلك بجملة من الأخبار الدالة على أن المستحاضة إذا رأت صفرة فلتتوضأ، منها: الموثقة المتقدِّمة (2) ، ومنها : صحيحة علي بن جعفر عن أخيه «ما دامت

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 2 . 374 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 7 .

(2) الوسائل 2 : 374 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 6 .

ــ[31]ــ

ترى الصفرة فلتتوضأ من الصفرة وتصلِّي ولا غسل عليها من صفرة تراها» (1) ، ومنها : صحيحة محمد بن مسلم الفاقدة لكلمة الصفرة (2) ، ومنها : صحيحته الاُخرى (3) ، ومنها : رواية علي بن جعفر الاُخرى ، «فإن رأت صفرة بعد غسلها فلا غسل عليها ، يجزئها الوضوء عند كل صلاة تصلِّي» (4) ومنها غير ذلك من الأخبار .

   وبإزاء هذه الأخبار روايتان تدلان على أن المستحاضة إذا رأت صفرة وجب عليها أن تغتسل .

   إحداهما : صحيحة إسحاق بن عمّار ، قال «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن المرأة الحبلى ترى الدم اليوم واليومين ، قال : إن كان دماً عبيطاً فلا تصلِّي ذينك اليومين ، وإن كان صفرة فلتغتسل عند كل صلاتين» (5) .

   وثانيتهما : صحيحة عبدالرحمن بن الحجاج ، قال «سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن امرأة نفست فمكثت ثلاثين يوماً أو أكثر ، ثم طهرت وصلّت ، ثم رأت دماً أو صفرة ، قال : إن كان صفرة فلتغتسل ولتصل ولا تمسك عن الصلاة» (6) .

   وهاتان الطائفتان متعارضتان ، لدلالة إحداهما على وجوب الوضوء مع الدم الأصفر ، ودلالة ثانيتهما على وجوب الغسل معه ، إلاّ أن هناك شاهد جمع بينهما ، وهو ما رواه محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) ، قال «سألته عن الحبلى قد استبان حملها ، ترى ما ترى الحائض من الدم ، قال : تلك الهراقة من الدم ، إن كان دماً أحمر كثيراً فلا تصلِّي ، وإن كان قليلاً أصفر فليس عليها إلاّ الوضوء» (7) .

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 2 : 280 / أبواب الحيض ب 4 ح 8 .

(2) الوسائل 2 : 308 / أبواب الحيض ب 17 ح 1 .

(3) الوسائل 2 : 279 / أبواب الحيض ب 4 ح 1 .

(4) الوسائل 2 : 280 / أبواب الحيض ب 4 ح 7 .

(5) الوسائل 2 : 331 / أبواب الحيض ب 30 ح 6 .

(6) الوسائل 2 : 393 / أبواب النفاس ب 5 ح 2 .

(7) الوسائل 2 : 334 / أبواب الحيض ب 30 ح 16 .

ــ[32]ــ

   حيث تدل على أنّ وجوب الوضوء مع رؤية الدم الأصفر مختص بما إذا كان قليلاً وأمّا مع الكثرة فالواجب في حقها الاغتسال ، وبهذا يرتفع التعارض بين الطائفتين .

   والنتيجة أنه ليس هناك قسم ثالث في الاستحاضة لا فيما إذا كان الدم أحمر ولا فيما إذا كان أصفر ، هذا .

   والصحيح ما ذهب إليه المشهور من تقسيم الاستحاضة إلى أقسام ثلاثة : إما أن لا يثقب الدم الكرسف ويجب الوضوء معه ، وإما أن يثقب الدم الكرسف ولا يتجاوز عنه فيجب غسل واحد ، وإما أن يثقب ويتجاوز الدم عن الكرسف فتجب أغسال ثلاثة ، ولا يعتمد على ما فصّله المحقق الخراساني (قدس سره) كما عرفت .

 توضيح المقال في جواب المحقق الخراساني (قدس سره)

    وتوضيح الكلام في الجواب عما أفاده يقع في مقامين : أحدهما في الدم الأحمر . وثانيهما في الدم الأصفر . فنقول أولاً في الدم الأحمر :

   المقام الأوّل : إن صريح صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبدالله (عليه السلام) ، قال «المستحاضة تنظر أيامها فلا تصلِّي فيها ولا يقربها بعلها ، فإذا جازت أيامها ورأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر والعصر تؤخّر هذه وتعجّل هذه، وللمغرب والعشاء غسلاً تؤخر هذه وتعجل هذه ، وتغتسل للصبح وتحتشي وتستثفر ولا تحني (تحيي) ، وتضم فخذيها في المسجد وسائر جسدها خارج ، ولا يأتيها بعلها أيام قرئها وإن كان الدم لايثقب الكرسف توضأت ودخلت المسجد وصلّت كل صلاة بوضوء»(1) أن حكم المستحاضة يختلف باختلاف ثقب الدم الكرسف وعدمه ، فمع الثقب تجب الأغسال الثلاثة ومع عدم الثقب يجب الوضوء ، فالثقب له موضـوعية في حكم المستحاضة وأنه المدار في اختلاف أحكامها ، بمعنى أن الدم الذي يثقب الكرسف يجب معه الأغسال ولكنّه هو بعينه لو خرج ولم يثقب وجب معه الوضوء ، فالدم الواحد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 2 : 371 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 1 .

ــ[33]ــ

الذي يحكم معه بوجوب الأغسال إذا ثقب هو الذي يحكم معه بوجوب الوضوء لو لم يكن ثاقباً ، فلا وجه لتقسيم دم الاستحاضة إلى الصفرة أو الحمرة .

   وليس المدار في اختلاف حكمها هو اختلاف لون الدم من الحمرة والصفرة ، بل سواء أ كان دمها أحمر أم كان أصفر إذا ثقب الكرسف وجبت معه الأغسال الثلاثة وإذا لم يثقبها وجب معه الوضوء ، فما أفاده (قدس سره) من اختلاف حكم المستحاضة باختلاف لون الدم مخالف لصريح الصحيحة كما عرفت .

   نعم ، هي توافق المحقق المزبور في أن دلالتها على وجوب الأغسال الثلاثة مع الثقب على نحو الاطلاق سواء أ كان متجاوزاً أيضاً أم لم يكن ، إلاّ أنه لابدّ من تقييد إطلاقها من هذه الجهة بصحيحة زرارة الدالة على أن وجوب الأغسال الثلاثة إنما هو فيما إذا كان الثقب مع التجاوز ، وأمّا مع عدم التجاوز فالواجب غسل واحد لكل يوم وليلة : «قال قلت له : النفساء متى تصلِّي ؟ فقال : تقعد بقدر حيضها وتستظهر بيومين فإن انقطع الدم ، وإلاّ اغتسلت واحتشت واستثفرت وصلّت ، فإن جاز الدم الكرسف تعصبت واغتسلت ثم صلّت الغداة بغسل والظهر والعصر بغسل والمغرب والعشاء بغسل ، وإن لم يجز الدم الكرسف صلّت بغسل واحد (1) .

   وروايته الاُخرى عن أبي جعفر (عليه السلام) قال «سألته عن الطامث تقعد بعدد أيامها كيف تصنع؟ قال: تستظهر بيوم أو يومين ثم هي مستحاضة، فلتغتسل وتستوثق من نفسها وتصلِّي كل صلاة بوضوء ما لم ينفذ (يثقب) الدم فإذا نفذ اغتسلت وصلّت»(2) . إلاّ أنها ضعيفة بمحمد بن خالد الأشعري ، فهي صالحة للتأييد دون الاستدلال بها .

   وكيف كان فبدلالة صحيـحة زرارة صريحاً يقيد إطـلاق قوله (عليه السلام) في الصحيحة المتقدمة «ورأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر...» بما إذا كان متجاوزاً وأمّا مع الثقب من دون تجاوز فالواجب في حقها غسل واحد ، فالصحيحتان تدلاّن على المسلك المشهور من انقسام المستحاضة إلى أقسام ثلاثة ، ووجوب الوضوء مع

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 2 : 373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5 .

(2) الوسائل 2 : 375 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 9 .

ــ[34]ــ

عدم الثقب ، والغسل الواحد مع الثقب من دون تجاوز ، والأغسال الثلاثة مع الثقب والتجاوز .

   وبإزائهما موثقة سَماعة المتقدِّمة(1) ، وما هو بمضـمونها التي اعتمد عليها المحـقق الخراسـاني (قدس سره) ، وذلك بتقريب أن قوله (عليه السلام) «إذا ثقب الدم الكرسف اغتسلت لكل صلاتين ...» مطلق يشمل ما إذا كان الثقب مع التجاوز وما إذا لم يكن متجاوزاً ، فتدل هذه الجملة على وجوب الأغسال الثلاثة مع الثقب من دون فرق بين المتجاوز وغيره .

   ثم إن قوله (عليه السلام) في الجملة الثانية «وإن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل لكل يوم مرّة» تصريح بالمفهوم المستفاد من الجملة السابقة ، ومعناه وإن لم يثقب الدم الكرسف فعليها الغسل ، لأن مفهوم قوله (عليه السلام) «إذا ثقب» إذا لم يثقب .

   وعليه فالموثقة تدلّنا على أن أمر الدم الأحمر الذي تراه المستحاضة مردد بين أمرين ، لأنه إما أن لا يثقب فالواجب فيه غسل واحد لكل يوم ، وإما أن يثقب فالواجب فيه الأغسال الثلاثة تجاوز الدم أم لم يتجاوز ، فليس للمستحاضة التي ترى الدم الأحمر أقسام ثلاثة يجب في أحدها الوضوء ، هذا .

    وجوه المناقشة في الاستدلال بالموثقة

   ولكن للمناقشة في الاستدلال بالموثقة مجال واسع ، وهي من وجوه :

   الأوّل : أنّا لو سلمنا أن الجملة الثانية تصرح بالمفهوم المستفاد من الجملة السابقة يدور الأمر بين ارتكاب أحد أمرين كلاهما خلاف الظاهر ، وذلك لأن المفهوم هو عبارة عن نفي ما ورد في المنطوق، ومنطوق الموثقة «إذا ثقب الدم الكرسف»، والمذكور في الجملة الثانية «وإن لم يجز الدم ...» ، والمفروض أنه مفهوم الجملة الاُولى ولا يمكن إبقاؤهما على حقيقتهما والعمل على أصالة الحقيقة في كليهما .

   فإمّا أن يراد من الثقب التجاوز فيصير معنى «إذا ثقب» إذا تجاوز ، ليصح كون

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 27 .

ــ[35]ــ

الجملة الثانية مفهوماً للجملة الاُولى ، وحينئذ تدل الموثقة على أن الدم إذا تجاوز الكرسف فيجب فيه الأغسال الثلاثة ، وإذا لم يتجاوز يجب فيه غسل واحد . وهذا خلاف ما يدعيه المحقق الخراساني ، وهو عين ما التزم به المشهور في الدم المتجاوز والدم الثاقب غير المتجاوز .

   وإمّا أن يعكس الأمر ويتصرف في الجملة الثانية بحمل التجاوز على الثقب ، أي إذا لم يثقب الدم وجب عليها غسل واحد ، وهو ما ادعاه (قدس سره) في المقام ، وبما أنه لا قرينة على تعيين أحد التصرفين وارتكاب إحدى المخالفتين للظاهر ولا مرجح له تصبح الموثقة المذكورة مجملة لا محالة .

   الثاني : أن الجملة الثانية ليست تصريحاً بمفهوم الجملة الاُولى ، بل الظاهر المستفاد من الموثقة أن الجملة الاُولى مطلقة ، وقد دلّت بإطلاقها على وجوب الأغسال الثلاثة مع الثقب تجاوز أم لم يتجاوز ، والجملة الثانية بيان ومقيد لاطلاق الجملة الاُولى وتدل على أن وجوب الأغسال الثلاثة إنما هو إذا ثقب الدم وتجاوز ، وأمّا إذا ثقب ولم يتجاوز فالواجب غسل واحد .

   ولا بأس بالاطلاق في الجملة المتقدمة مع بيان القيد في الجملات المتأخرة ، بل هو كلام فصيح ، وقد وقع نظيره في كلام الله سبحانه كما في قوله تعالى (إذا قُمْتُم إلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهكم ) فإنّه بإطلاقه شامل للجنب وغيره ، ثم أتى بمقيده بقوله عزّ من قائل (وإن كُنْتُم جُنُباً فاطَّهَّرُوا )(1) فإنه مقيد لاطلاق الجملة السابقة ودال على أن وجوب الوضوء إنما هو في حق غير الجنب ، وأمّا الجنب فحكمه أن يتطهر .

   وعليه فالموثقة تدل على مذهب المشهور ، غاية الأمر أن نضيف عليها الحكم بوجوب الوضوء مع عدم الثقب أصلاً بمقتضى صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة .

   ويدل على ما ذكرناه موثقة اُخرى لسَماعة مسندة عن أبي عبدالله (عليه السلام) بخلاف هذه الموثقة فإنها مضمرة ، «قال : غسل الجنابة واجب ، وغسل الحائض إذا طهرت واجب، وغسل المستحاضة واجب إذا احتشت بالكرسف وجاز الدم الكرسف

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 5 : 6 .

ــ[36]ــ

فعليها الغسل لكل صلاتين وللفجر غسل ، وإن لم يجز الدم الكرسف فعليها الغسل كل يوم مرّة والوضوء لكل صلاة ...» (1) فإنها صريحة فيما ذكرناه حيث عبرت بتجاوز الدم وبعدم تجاوزه ، والراوي عن سماعة في كلتا الروايتين شخص واحد وهو عثمان بن عيسى ، والوجه في الاستدلال بها أن من البعيد أن تكون هذه الرواية متضمنة لمطلب آخر غير الرواية ، بل الظاهر أنهما متكفلتان لمطلب واحد عبر في إحداهما بتعبير وفي الاُخرى بتعبير آخر .

   الثالث : هب أنّا سلمنا أن الجملة الثانية مفهوم للجملة السابقة إلاّ أن الالتزام بمدلولها وأن الدم الثاقب مطلقاً يجب معه الأغسال الثلاثة تجاوز أم لم يتجاوز ، وغير الثاقب يجب معه غسل واحد ، إنما هو فيما إذا كانت الرواية منحصرة بالموثقة .

   وليس الأمر كذلك لما عرفت من الصحيحتين ، فلابد من التصرف في الموثقة بقرينتهما وحمل الثاقب على المتجاوز بتقييد إطلاقها ، والحكم في الثاقب غير المتجاوز بالغسل الواحد وفي غير الثاقب أصلاً بوجوب الوضوء بمقتضى صريح الصحيحتين لأنّ التجاوز في مثلهما ليس بمجمل ، وإنما يراد به التجاوز عن الكرسف ولا يحتمل أن يراد به الثقب .

   فتدلنا الصحيحتان وغيرهما من الأخبار على أن الدم مع الثقب والتجاوز يجب فيه الأغسال الثلاثة ، ومع الثقب غير المتجاوز يجب غسل واحد ، ومعه تكون هاتان الروايتان قرينة على أن المتعين في الموثقة أن يتصرف في الثقب بحمله على التجاوز ، لا أن يتصرف في التجاوز بحمله على الثقب .

   هذا كله في الدم الأحمر .

   المقام الثاني : في الدم الأصفر ، وقد عرفت أنه (قدس سره) فصّل فيه بين الكثير العرفي وأوجب فيه الغسل ، وبين القليل العرفي وحكم فيه بوجوب الوضوء ، وقال إنه لا ثالث لهما في البين ، واستدل عليه بالطائفة الدالة على أن المستحاضة إذا رأت صفرة تتوضأ وتصلِّي ، وبما دلّ على أن المستحاضة إذا رأت صفرة تغتسل وتصلِّي ، بدعوى

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 2 : 173 / أبواب الجنابة ب 1 ح 3 .

ــ[37]ــ

أنهما متعارضـتان بالتباين وهناك شـاهد جمع بينهما ، أعني ما رواه محمد بن مسلم حيث دلّت على وجوب الوضوء مع كون الدم قليلاً أصفر .

   ولكن يرد عليه أن ما أقامه شاهداً للجمع بين الطائفتين ضعيف السند لارساله .

    إعادة وتتميم

   ذكرنا أن المحقق الخراساني (قدس سره) خالف المشهور في المقام ، وذهب إلى التفصيل في دم الاستحاضة بين الأحمر والأصفر ، وذكر أن الدم الأحمر يدور أمره بين وجوب الأغسال الثلاثة فيما إذا تجاوز الدم عن الكرسف ، ووجوب غسل واحد فيما إذا ثقب الدم الكرسف من غير أن يتجاوز ، واستدل عليه بموثقة سماعة المتقدمة بالتقريب السابق .

   وأمّا الدم الأصفر فقد ذكر أنه إذا كان كثيراً عرفياً ـ لا بحسب الاصطلاح الذي هو بمعنى تجاوز الدم عن الكرسف ـ وجب فيه الغسل ، وإذا كان قليلاً عرفاً وجب فيه الوضوء ، وذكر أنه على ذلك تكون الاستحاضة المتوسطة المصطلحة داخلة في الاستحاضة القليلة عنده ، لأن كون الدم بحيث يوجب الثقب فحسب لا يعد دماً كثيراً عرفاً ، بل هو من الدم القليل فيجب فيه الوضوء ، بل بعض أقسام الاستحاضة الكثيرة يدخل في القليلة عنده ، كما إذا ثقب الكرسف وتجاوز عنه بشيء يسير ، فإن مثله لا يعد كثيراً عرفاً بل هو قليل فيجب فيه الوضوء ، إلاّ أن يكون سائلاً على وجه يعد كثيراً عرفاً ، هذا .

   وقد قدمنا أن ما أفاده في الدم الأحمر غير تام ، لصحيحة معاوية بن عمّار الدالة بصراحتها على أن المدار في اختلاف أحكام المستحاضة إنما هو الثقب وعدمه ، وأن الدم الثاقب يجب معه الأغسال الثلاثة وغير الثاقب يجب معه الوضوء ، بمعنى أن الدم الذي يجب معه الغسل إذا كان ثاقباً هو الذي يجب معه الوضوء إذا كان غير ثاقب وعليه فلا عبرة بحمرة الدم وصفرته ، بل المدار إنما هو بثقب الدم وعدم ثقبه .

   ولمّا كانت الصحيحة مطلقة من حيث دلالتها على وجوب الأغسال الثلاثة مع

ــ[38]ــ

الثقب سواء أ كان متجاوزاً أم لم يكن ، فلا بدّ من تقييدها بصحيحة زرارة الدالّة على أن وجوب الأغسال الثلاثة إنما هو مع تجاوز الدم الثاقب (1) ، وأمّا الدم الثاقب غير المتجاوز فإنما يجب معه غسل واحد ، وعليه فالصحيحتان بعد تقييد مطلقهما بمقيدهما صريحتان في مسلك المشهور ، هذا .

    مناقشات المحقق الخراساني (قدس سره) :

   وللمحقق الخراساني (قدس سره)(2) مناقشات في الاستدلال بالصحيحة على المسلك المشهور بين الأصحاب :

   المناقشة الاُولى : أن الصحيحة وإن دلت على وجوب الوضوء عند عدم كون الدم ثاقباً إلاّ أنها لا تدل على عدم وجوب الغسل حينئذ ، لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة ، أي من جهة وجوب الغسل وعدمه ، وإنما وردت للدلالة على وجوب الوضوء حينئذ ، فلا يمكن التمسك بـإطلاقها في الحكم بعدم وجوب الغسل حينئذ .

   وهذه المناقشة منه (قدس سره) عجيبة ، وذلك لأنه مع ورود الرواية لبيان ما يجب على المستحاضة حسب اختلاف حالاتها ووجوب الغسل عليها ثلاث مرّات مع الثقب ، كيف لا تكون بصدد البيان عند عدم ثقبه ، إذ لو لم تكن بصدد بيان الغسل الواجب عليها لم تتعرض لوجوبه مع الثقب أيضاً ، وكونها مع الثقب في مقام البيان وعدم كونها كذلك عند عدم الثقب الذي هو مفروض الرواية في الجملة الثانية منها عجيب غايته .

   المناقشة الثانية : أن المراد بالتوضؤ في قوله (عليه السلام) «وإن كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت ودخلت المسجد وصلّت كل صلاة بوضوء» لم يعلم أنه الوضوء المصطلح عليه، بل المراد به هو الاغتسال من التنظيف والتطهير، إذ لو اُريد به الوضوء

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 2 : 373 / أبواب الاستحاضة ب 1 ح 5 .

(2) كتاب الدماء : 85 .

ــ[39]ــ

المصطلح عليه للزم التكرار في الرواية ، حيث ذكرت وجوب الوضوء عليها في آخر الرواية «وصلّت كل صلاة بوضوء» وعليه فتكون الصحيحة موافقة لمسلكه (قدس سره) من وجوب الغسل الواحد عند عدم ثقب الدم .

   وهذه المناقشة أيضاً غريبة ، وذلك لأن التوضؤ بمعناه اللغوي المعبّر عنه بـ «شستشو» وإن كان قد يستعمل في كلامهم إلاّ أنه بمعنى الغُسل مما لم يعهد استعماله بوجه ، بل الظاهر إرادة الوضوء المصطلح عليه منه .

   ودعوى أنه يلزم التكرار حينئذ واضحة الدفع ، لأن قوله (عليه السلام) «وصلّت كل صلاة بوضوء» إنما هو لبيان أن المستحاضة ليست كبقية المكلفين في جواز اكتفائها بوضوء واحد في جميع صلواتها ، بل يجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة وليس معناه وجوب أصل الوضوء عند حدث الاستحاضة ليلزم التكرار .

   المناقشة الثالثة : أن دلالة الصحيحة على عدم وجوب الغسل عند عدم ثقب الكرسف إنما هي بالاطلاق بعد قطع النظر عن المناقشتين المتقدمتين ، نظراً إلى أنها في مقام البيان ومعه تعرضت لوجوب الوضوء على المستحاضة حينئذ ولم تتعرض لوجوب الغسل في حقها ، فمن سكوتها في مقام البيان يستكشف عدم وجوبه .

   إلاّ أنه لا مانع من رفع اليد عن إطلاقها وتقييدها بموثقة سَماعة الدالّة على أنه مع عدم ثقب الدم يجب عليها الغسل مرة واحدة بناء على ما قدمناه في تقريب دلالتها وأن قوله (عليه السلام) «وإن لم يجز الدم» معناه أن الدم إذا لم يثقب .

   وعليه يقال : إن مقتضى الصحيحة وإن كان وجوب الوضوء على المستحاضة مع عدم الثقب ، إلاّ أن الموثقة تدل على أنه مع الوضوء يجب عليها الاغتسال ، وبضم إحداهما إلى الاُخرى يستفاد أن وظيفة المستحاضة عند عدم ثقب الكرسف هو الغسل الواحد والوضوء لكل صلاة ، لأنها حينئذ محدثة بالحدث الأصغر وبالحدث الأكبر ، فيجب عليها الوضوء والاغتسال كما هو مسلكه (قدس سره) .

   وهذه المناقشة لا بأس بها فيما إذا تم ما ذكره في تقريب استدلاله بالموثقة ، بأن يكون قوله (عليه السلام) «وإن لم يجز الدم الكرسف» مفهوماً للجملة السابقة عليه

ــ[40]ــ

وأن يكون بمعنى عدم كون الدم ثاقباً ، فإنه لا مناص مما أفاده ، لاطلاق الصحيحة من حيث وجوب الغسل حينئذ ، فيرفع عنه اليد بدلالة الموثقة على وجوب الغسل معه .

   إلاّ أنك عرفت أن ما أفاده (قدس سره) ليس بتام ، لعدم كون الجملة الثانية مفهوماً للجملة المتقدمة عليها ، بل الظاهر أنها مقيدة لاطلاق الجملة الاُولى نظير قوله تعالى (وإِن كُنْتُم جُنُباً فاطَّهَّروا ) المقيد لاطلاق قوله عزّ من قائل (إذا قُمتم إلى الصّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهكم ... )(1) .

   ومع الغض عنه فإن كون «إن لم يجز» بمعنى إن لم يثقب وإن كان محتملاً حينئذ إلاّ أنه يحتمل أن يكون قوله «إذا ثقب الدم» بمعنى إذا تجاوز الدم ، فإن اللازم هو أحد هذين التصرفين في الجملتين بناء على أن الجملة الثانية مفهوم للجملة السابقة عليها وأمّا تعيين خصوص الأول فهو مما لا مرجح له .

   ومعه تصبح الموثقة مجملة لو لم نقل برجحان المحتمل الثاني ، لدلالة سائر الروايات كصحيحة زرارة على أن وجوب الأغسال الثلاثة إنما هو مع تجاوز الدم عن الكرسف لا مع كون الدم ثاقباً فقط ، فإن التجاوز والثقب لو كان مجملاً فإنما هو كذلك في هذه الرواية ، وأمّا بقية الروايات فلا إجمال في شيء منها ، وهو ظاهر .

   المناقشة الرابعة : مع الغض عن جميع المناقشات المتقدمة لا دلالة في الصحيحة على أن إيجاب الوضوء عند عدم كون الدم ثاقباً إنما هو فيما إذا كان الدم أحمر ، بل الصحيحة مطلقة من هذه الجهة ، فأيّ مانع من حملها على الدم الأصفر بقرينة موثقة سَماعة الدالة على أن الدم الأحمر إذا لم يثقب الكرسف وجب فيه الغسل ، حيث ورد في ذيلها «هذا إن كان دمها عبيطاً» .

   وبه ترتفع المنافاة بينهما وتكون الأخبار الواردة في المقام بعد تقييد مطلقها بمقيدها وإرجاع بعضها إلى بعض ، دالّة على أن الدم الأحمر يدور أمره بين وجوب الأغسال الثلاثة معه كما إذا كان ثاقباً ، وبين وجوب الغسل الواحد كما إذا لم يثقب ، وأمّا الدم

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 5 : 6 .

 
 

ــ[41]ــ

الأصفر فيفصّل فيه بين الكثير العرفي والقليل العرفي بوجوب الغسل في الأول والوضوء في الثاني ، هذا .

   ولا يخفى أن هذه المناقشة كسابقتها ، وذلك لما ظهر مما ذكرناه من أن صحيحة معاوية بن عمّار صريحة في أنه لا عبرة بحمرة الدم وصفرته ، وإنما المدار على ثقب الدم وعدمه ، وأن الدم الذي يجب معه الأغسال الثلاثة مع الثقب هو الدم الذي يجب فيه الغسل الواحد إذا لم يثقب ، سواء كان الدم أحمر أم أصفر ، والدم الأصفر لو ثقب لم يكن عنده موجباً للغسل لأنه قليل عرفاً فضلاً عما إذا لم يثقب ، على أن إطلاق الدم منصرف إلى الدم الأحمر ولا يمكن حمله على الأصفر ، فإنه جعل في بعض الأخبار في قبال الدم : «إذا رأت الدم وإذا رأت الصفرة» (1) ومعه كيف يحمل الدم في الصحيحة على الأصفر ، هذا كله .

   مضافاً إلى أنه لا موجب أصلاً لتقييد الصحيحة بالموثقة ، إذ لا تنافي بينهما ولا تماسّ ، وذلك لأن الموضوع في الموثقة على ما فسرناه إنما هو الدم الثاقب وأنه مع التجاوز تجب فيه الأغسال الثلاثة ، ومع عدم التجاوز يجب فيه غسل واحد ، وأمّا الدم غير الثاقب فهو مما لم يتعرض له في الموثقة أصلاً ، والصحيحة متعرضة لحكمه ومع عدم التّـماسّ بينهما في الدم غير الثاقب لا موجب لجعل إحداهما مقيدة لاطلاق الاُخرى .

   وعليه فالصحيح ما ذهب إليه المشهور من أن الاستحاضة إذا كانت قليلة أي لم يكن الدم ثاقباً للكرسف وجب معه الوضوء لكل صلاة ، وإذا كانت متوسطة أي كان الدم ثاقباً للكرسف وجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة ويجب أن تغتسل غسلاً واحداً لكل يوم وليلة ، لاجتماع الحدث الأصغر مع الحدث الأكبر حينئذ ، وإذا كانت كثيرة أي كان الدم ثاقباً ومتجاوزاً عن الكرسف وجب الوضوء والغسل لكل صلاة ، وذلك لصحيحتي معاوية وزرارة المتقدِّمتين .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 2 : 291 / أبواب الحيض ب 8 ح 4 .

ــ[42]ــ

   هذا كلّه في الدم الأحمر ، وبقي الكلام في الدم الأصفر .

    الكلام في الدم الأصفر

   وقد ذكر أن دم الاستحاضة إذا كان أصفر فإن كان كثيراً عرفاً بأن سال عن الكرسف فيجب معه الأغسال الثلاثة ، وإذا كان قليلاً عرفاً بأن لم يثقب الكرسف أو تجاوز عنه ولم يسل فيجب فيها الوضوء ، فلا قسم ثالث بينهما .

   فهو (قدس سره) وإن التزم بوجوب الأغسال الثلاثة في مورد ، ووجوب غسل واحد في مورد آخر ، ووجوب الوضوء في مورد ثالث ، إلاّ أنه على ترتيب آخر غير الترتيب الذي سلكه المشهور ، لأنه التزم بوجوب الأغسال الثلاثة فيما إذا تجاوز الدم عن الكرسف وفيما إذا كان الدم أحمر ، وإذا سال وعدّ كثيراً عرفاً فيما إذا كان صفرة وبوجوب غسل واحد في خصوص الدم الأحمر غير المتجاوز عن الكرسف ثقب أم لم يثقب ، وبوجوب الوضوء في الدم الأصفر القليل عرفاً .

   واستدل على ما ذهب إليه بما ورد في جملة من الروايات من أن المرأة إذا رأت الدم الأصفر وجب عليها الأغسال الثلاثة ، وما ورد من أنها إذا رأت صفرة تتوضأ وتصلِّي كما نقلناهما سابقاً  (1) .

   فإنهما متعارضان بالتباين لدلالة إحداهما على وجوب الأغسال الثلاثة مع الصفرة مطلقاً ودلالة الاُخرى على وجوب الوضوء معها مطلقاً ، إلاّ أن هناك شاهد جمع ، وهو ما رواه محمد بن مسلم «في الحامل قد استبان حبلها ترى ما ترى الحائض من الدم ، قال : تلك الهراقة من الدم ، إن كان دماً أحمر كثيراً فلا تصلِّي ، وإن كان قليلاً أصفر فليس عليها إلاّ الوضوء» (2) .

   حيث يدل على أنّ الوضوء في الدم الأصفر إنما يجب فيما إذا كان قليلاً ، وأمّا إذا  كان كثيراً فمقتضى الطائفة الاُولى أن يحكم فيه بوجوب الاغتسال ، هذا .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تقدّم ذكر جميعها في نفس المسألة : الصفحة 30 .

(2) تقدمت في الصفحة 31 .

ــ[43]ــ

   ولا يمكن المساعدة على ما أفاده بوجه ، وذلك لضعف الرواية التي جعلها شاهد جمع بين الطائفتين بـإرسالها ، فتبقى الطائفتان على تعارضهما .

   والصحيح أن يقال : إن الطائفتين وإن كانتا متعارضتين بالتباين كما مر ، إلاّ أن الطائفة الدالة على وجوب الاغتسال مع الصفرة لابدّ من حملها على ما إذا كانت الاستحاضة ـ أي الدم الأصفر ـ كثيرة بحسب الاصطلاح بأن ثقبت الكرسف وتجاوزت عنه ، فإنها لو كانت قليلة ـ أي غير ثاقبة أصلاً ـ لا يحتمل كونها موجبة للأغسال الثلاثة ، لأنّ الصفرة لا تزيد على الدم الأحمر ، والدم الأحمر غير الثاقب أعني الاستحاضة القليلة لا توجب الأغسال الثلاثة فكيف توجبها الصفرة .

   وكذلك الحال في الدم الأصفر المتوسطة بحسب الاصطلاح على مسلك صاحب الكفاية ، لأنها على مسلكه لو كان أحمر لم تكن موجبة للأغسال الثلاثة فكيف تكون الاستحاضة مع الصفرة موجبة للأغسال الثلاثة .

   فهذه القرينة الخارجية ـ أعني العلم بعدم كون الأصفر أشد من الدم الأحمر بحسب الحكم ـ توجب اختصاص الأخبار الآمرة بالأغسال الثلاثة على الاستحاضة الكثيرة ، أي الصفرة فيما إذا كانت كثيرة بحسب الاصطلاح ، ومعه تنقلب النسبة من التباين إلى العموم المطلق .

   فالطائقة الثانية تدل على وجوب الوضوء مع الصفرة في جميع الأقسام الثلاثة المتقدمة ، والطائفة الاُولى تدل على وجوب الغسل في الدم الأصفر الكثير ، ومعه فالقاعدة تقتضي تخصيص الاُولى بالثانية والحكم في المستحاضة الكثيرة عند الصفرة بوجوب الأغسال الثلاثة ، وأمّا في المتوسطة والقليلة فيجب فيهما الوضوء .

   إلاّ أن تلك الطائفة الآمرة بالوضوء في المتوسطة والقليلة معارضة بصحيحة عبدالرحمن بن الحجاج ، قال «سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن امرأة نفست فمكثت ثلاثين يوماً أو أكثر ، ثم طهرت وصلّت ، ثم رأت دماً أو صفرة ، قال : إن كانت صفرة فلتغتسل ولتصل ولا تمسك عن الصلاة» (1) .

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 2 : 393 / أبواب النفاس ب 5 ح 2 .

ــ[44]ــ

   لدلالتها على وجوب الغسل مع الصفرة من غير تقييده بالمرة الواحدة أو بثلاث مرات ولا بشيء من أقسام الاستحاضة ، والنسبة بينهما عموم من وجه ، وذلك لأن صحيحة عبدالرحمن بن الحجاج وإن كانت مطلقة إلاّ أنه لابدّ من إخراج المستحاضة القليلة عن إطلاقها للقرينة المتقدمة من أن الصفرة لا يحتمل أن يكون حكمها أشدّ من الأحمر ، وقد تقدم أن الاستحاضة القليلة في الدم الأحمر لم تكن موجبة للاغتسال فكيف بالاستحاضة القليلة في الدم الأصفر .

   فالصحيحة تختص بالاستحاضة الكثيرة والمتوسطة ، كما أن الأخبار الدالة على الوضوء مختصة بالمتوسطة والقليلة ، فالاستحاضة المتوسطة بالأصفر مورد للتعارض بين الروايتين ، فالصحيحة تدل على وجوب الغسل فيها ، والطائفة الثانية تدل على وجوب الوضوء فيها .

   فإن أمكننا الجمع بينهما بالأخذ بكلتا الطائفتين فنأخذ بهما ونحكم بأن في المتوسطة الأصفر يجب الغسل والوضوء كما هو مسلك المشهور ، وتكون النتيجة بعد الجمع بين الأخبار وجوب الأغسال الثلاثة في الاستحاضة الكثيرة ، ووجوب الغسل الواحد والوضوء في المتوسطة ، ووجوب الوضوء خاصة في القليلة .

   وإن لم يمكننا الجمع بينهما نظراً إلى أن الصحيحة تدل على جواز الاقتصار على الغسل في صحة الصلاة وإن لم تتوضأ ، والطائفة الثانية تدل على جواز الاقتصار على الوضوء فحسب وإن لم تغتسل ، فلا يمكن الجمع بينهما فلا مناص من الحكم بتساقطهما ، لأن تعارضهما بالاطلاق ، وبعد التساقط نرجع إلى صحيحة معاوية بن عمار وصحيحة زرارة المتقدمتين ، لأنهما الأصل في الاستحاضة ، وقد عرفت دلالتهما على أن العبرة في الاستحاضة بكمية الدم لا بكيفيته من الحمرة والصفرة ، فإنه إذا ثقب الكرسف مع التجاوز ـ أي كان كثيراً أحمر كان أو أصفر ـ ففيها الأغسال الثلاثة ، وإذا ثقب من غير تجاوز الكرسف ففيها غسل واحد، وإذا لم يثقب ولم يتجاوز ففيها وضوء واحد ، فإن الروايتين لا معارض لهما بعد تساقط الطائفتين المتقدمتين بالتعارض .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net