شهرة القول بأن القبلة من تخوم الأرض إلى عنان السماء 

الكتاب : المستند في شرح العروة الوثقى-الجزء الاول : الصلاة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 5657


ــ[414]ــ

 فصل في القبلة

   وهي المكان الذي وقع فيه البيت ـ شرّفه الله تعالى ـ من تخوم الأرض إلى عنان السماء((1)) للناس كافة القريب والبعيد ، لا خصوص البنية (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   (1) لا ريب في كون القبلة هي الكعبة المكرمة في الجملة لكافة المسلمين من القريبين والنائين ، بضرورة الدين وتصريح الكتاب المبين والروايات المستفيضة التي سنشير إليها ، كما لا ريب في عدم كون المراد بها البنيان والحيطان المشتملة على تلك الأحجار الكريمة بل الفضاء والمكان المشغول بتلك البنية وإلا لزالت القبلة بزوال تلك الأبنية عند خرابها وانهدامها ـ لا سامح الله ـ وهو مقطوع العدم ، بل اللازم حينئذ استقبال نفس المكان بلا كلام .

   إنما الإشكال في أنّ القبلة هل هي خصوص ذلك الفضاء المشغول بذاك البناء وما يعلوه بمقدار يلحق به عرفاً ، أو أنها من تخوم الأرض إلى عنان السماء ؟ المشهور هو الثاني بل ادعي عليه الإجماع في بعض الكلمات ، بل قد صرح بعضهم بسراية الحكم إلى مطلق المساجد ، بل مطلق الأملاك فرتب آثار المسجدية والملكية من تخوم الأرض إلى عنان السماء .

   والذي دعاهم إلى الالتزام بذلك في المقام تصحيح صلاة من يصلي في مكان أرفع من البيت كقلل الأجبال أو أخفض كالسراديب والآبار ، زعماً منهم توقف الصحة على هذا المبنى وكونها ثمرة مترتبة عليه ، وإلا فاستقبال

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لا أصل لذلك .

ــ[415]ــ

نفس البناء أو الفضاء المشغول به لا يكاد يتحقق في هذين الموردين ، وقد استشهدوا لذلك بطائفة من الروايات .

   لكن الظاهر أنّ هذا الكلام وإن اشتهر وشاع ، بل حكي عليه الإجماع إلا أنه لا أصل له .

   أما أوّلاً : فلبعده في حد نفسه ، لاستلزامه تبدل(1) القبلة آناً فآناً وعدم كونها ذات ثبات وقرار ، وهذا بناءً على حركة الأرض حول الشمس وضعية أو انتقالية كما هو المعروف والصحيح ظاهر ، لوضوح أن الفضاء الممتد إلى السماء مما فوق الكعبة يتحول من مقرّه تدريجاً ويتحرّك بحركة الأرض فلا يكون شيئاً معيناً ونقطة ثابتة .

   وكذا بناءً على مسلك القدماء من ثبات الأرض وحركة الشمس حولها ، فان النقطة المسامتة للكعبة الممتدة إلى الفضاء لم تستقر(2) في مكان واحد ، بل تنتقل من جزء إلى جزء بتبع حركة الشمس .

   وبالجملة : لازم هذا القول عدم استقرار القبلة على كل من المسلكين وأنها تتبدل في كل آن ، وهذا لو لم يكن مقطوع العدم فلا ريب في كونه خلاف

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هذا التبدل سار في القبلة المركزية أيضاً ، فان مكان البنية المشرفة وفضائها يتبدل ـ على    ضوء ما ذكر ـ بحركة الأرض . فالإشكال لو تم لعمّ ولم يكن مختصاً بعنان السماء ، ولكنه لا    يتم ولا تبدل على كل حال ، فان نسبة القبلة أياً كانت إلى فضاء أجزاء الأرض محفوظة    دائماً ، ولا ضير في تغيير نسبتها إلى سائر الأجرام الكونية .

   وبعبارة اُخرى : عمود القبلة المفروض امتداده إلى السماء ثابت كنفس البنيان ، إذ ليس المراد  به الفضاء المحيط بكرة الأرض ، بل عمود فرضي كميلة ثابتة في الكعبة ممتدة إلى السماء    ومنها إلى تخوم الأرض قطرها مساو لقطر الكعبة ، وهذه الميلة ثابتة لا تغير فيها أبداً ، نعم    تتحرك كنفس الكعبة تبعاً لحركة الأرض وهي غير قادحة بالضرورة .

(2) الذي لم يستقر إنما هو النقطة المسامتة كالنجمة الواقعة فوق الكعبة ، لا العمود المفروض    فوقها الممتد إلى عنان السماء ، فانه ثابت بتبع ثبات مركزه وهي الكعبة المشرفة حسب    الفرض .

ــ[416]ــ

المتراءى من ظواهر الأدلة ، حيث إن المستفاد منها أن القبلة مهما كانت فهي شيء معين مشخص ثابت مستقر كما لا يخفى .

   على أنّ الالتزام بهذا المبنى لا يكاد يجدي في ترتب تلك الثمرة ، أعني تحقق الاستقبال لو كان المصلي في مكان أرفع من البيت أو أخفض ، فانهم ذكروا أنّ الاتجاه إلى القبلة يتحقق حينئذ من جميع النقاط ، بحيث لو فرض خط موهوم متصل من جبهة المصلي فهو لدى الاستقبال ينتهي لا محالة إلى الكعبة إما بنفسها أو ما فوقها أو ما تحتها من تخوم الأرض إلى عنان السماء ، بخلاف ما لو كانت القبلة مختصة بالفضاء المشغول بالبيت ، فان الاتصال حينئذ لا يكاد يتحقق إلا بالنسبة إلى الأمكنة المساوية سطحها مع سطح البيت دون العالية أو المنخفضة .

   وفيه : أن هذا لا يتم على إطلاقه ، بل يختص بالأمكنة التي يكون بعدها عن الكعبة أقل من تسعين درجة ، وأما الواقعة على رأس التسعين فضلاً عما زاد فلا يكاد يتحقق فيها الاتصال .

   وبيانه : أنّه بعد البناء على كروية الأرض ـ كما هو المحقق في محله ـ فاذا فرضنا وقوع الكعبة في قطب الجنوب من الكرة الأرضية وفرضنا اتساع القبلة بخط عمودي مركزه الكعبة ممتد من تخوم الأرض إلى عنان السماء ، فالبلدان النائية الواقعة فيما بينها وبين نقطتي المشرق والمغرب ـ أعني خط الاستواء ـ التي يقل بعدها عن تسعين درجة لا محالة بما أنها منحنية نحو القطب على ما تقتضيه كروية الأرض ، فالخط الممتد من مقاديم من يصلي فيها بعد توجهه نحو البيت ينتهي ويتصل بالأخرة إلى الخط العمودي الموهوم المفروض نصبه من الكعبة إلى عنان السماء ولو بَعُد مئات الفراسخ ، لكون الخط المزبور منحنياً ومائلاً نحو القطب بحسب الطبع كما عرفت ، فيتحقق الاتصال بينه وبين ذاك الخط العمودي لا محالة ولو بفصل مسافة بعيدة ومدة مديدة ، ويحصل بذلك الاستقبال كما ذكر .

   وأما البلدان الواقعة في نفس نقطتي المشرق والمغرب ـ أي على رأس

ــ[417]ــ

تسعين درجة ـ فحيث إنها لا ميلان ولا انحناء لها نحو الجنوب بل يتشكل من الخط الممتد منهما إلى مركز الأرض زاوية قائمة ، فمن يصلي في هذا المكان لو اتجه نحو الكعبة ورسم خطاً من مقاديمه فلا يكاد يصل هذا الخط إلى الخط العمودي المفروض نصبه فوق الكعبة إلى عنان السماء ، لأن الخطين حينئذ متوازيان ويستحيل في مثلهما الاتصال وإن بلغا إلى الغاية وامتدا إلى ما ليس له نهاية .

   وأوضح حالاً من ذلك : البلدان الواقعة فيما بين خط الاستواء والقطب الشمالي التي يزيد بُعدها عن القطب الجنوبي بأكثر من تسعين درجة ، فان الخطين حينئذ يزداد بعدهما مهما طالا ، بل قد يكونان في جهتين متقابلتين فكيف يتحقق الاتصال الذي هو مناط الاستقبال على الفرض ؟

   وكأن الذي دعاهم إلى الالتزام بذلك تخيل أن الاستقبال نحو الشيء يتوقف على أن يكون المستقبل والمستقبل إليه في سطح واحد وعلى صعيد فارد فوقعوا فيما وقعوا فيه ، وهذا وهم ظاهر ، بل المناط في الاستقبال أن يكون الاتجاه نحو المستقبل إليه بحيث لو اُزيل المانع وارتفع الحاجب كان يشاهده ويراه ، ولا يعتبر في مفهومه العرفي أكثر من ذلك . أترى أن الواقف على سطح الدار لو أراد استقبال من هو في ساحة الدار أو الواقف في الصحن الشريف لو أراد استقبال الواقف على المنارة يتوقف على النزول إلى الساحة أو الصعود على المنارة ؟ كلا ، بل مجرد الاتجاه في الموضعين على نحو يصدق عرفاً أنه أمامه وقدامه كاف في تحقق الاستقبال جزماً ، فلا يعتبر اتحاد الصعيد وتساوي السطحين في الصدق المزبور بالضرورة .

   وعلى هذا يندفع الإشكال في المقام بحذافيره ، فان من يقف على رأس جبل أو في سرداب أو بئر متجهاً نحو الكعبة فهو مستقبل إليها ، أي يكون على نحو لو لم يكن هناك حاجب وزال الارتفاع والانخفاض فهو يشاهد الكعبة ويراها ، وكذا من يكون في نقطتي المشرق أو المغرب متجهاً نحوالبيت فانه مستقبل إليه ، أي يكون بحيث لو قطع ربع الأرض وارتفعت الحواجب

ــ[418]ــ

من الأطلال والأجبال ونحوها كان يرى الكعبة ويشاهدها ، ونحوه من يكون البعد بينه وبين البيت أزيد من تسعين درجة ، أي كان فيما بين المشرق أو المغرب والشمال فان الحال فيه هو الحال .

   نعم ، يتجه الإشكال في من يقف في النقطة المسامتة لنقطة الجنوب تحقيقاً أي يكون بعده عن الكعبة على رأس مائة وثمانين درجة وهي نقطة الشمال ، فان الاتجاه إلى القبلة حينئذ متحد من جميع الأطراف لتساوي النسبة واتحاد البعد من جميع الجوانب والنواحي إلى الكعبة بنسبة واحدة على الفرض من دون امتياز لجانب على آخر ، والظاهر حينئذ جواز الصلاة إلى أيّ جانب شاء ، وحيث ما توجه فهو متوجه إلى القبلة لتساوي النسب(1) كما عرفت ، فيكون حاله حال من يصلي في جوف البيت الذي تكون قبلته جميع الأطراف على حدّ سواء .

   وأما ثانياً : فلأن الروايات التي استدل بها لهذا القول غير صالحة للاستدلال لضعفها سنداً أو دلالة ، وهي روايات ثلاث :

   إحداها : صحيحة خالد بن أبي إسماعيل قال «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : الرجل يصلي على أبي قبيس مستقبل القبلة ، فقال : لا بأس»(2) وهذه الرواية كما ترى لا دلالة فيها على أكثر من جواز الصلاة على جبل أبي قبيس ، ولا إشعار فيها فضلاً عن الدلالة على امتداد القبلة إلى عنان السماء ، فيمكن الانطباق على ما ذكرناه من اختصاص القبلة بالفضاء المشغول بالبيت وما يعلوه بالمقدار الذي يتبعه عرفاً ، ويكون الاستقبال بالاتجاه نحوه على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تساو ي النسب لو أوجب صدق الاستقبال لأوجب صدق الاستدبار أيضاً بمناط واحد ،   وهو كما ترى ، لامتناع اجتماع المتضادين في محل واحد ، ومنه تعرف سقوط اعتبار الاستقبال حالئذ لمكان التعذر . ولا يقاس بالمصلي في جوف الكعبة ، ضرورة أنه مستقبل
   لبعض أجزائها ولا استقبال في المقام لشيء منها فلاحظ .

(2) الوسائل 4 : 339 / أبواب القبلة ب 18 ح 2 .

ــ[419]ــ

النحو الذي عرفت ، فهي قاصرة الدلالة على المطلوب بالكلية وإن كانت صحيحة من حيث السند .

   الثانية : ما رواه الشيخ باسناده عن الطاطري عن محمد بن أبي حمزة عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «سأله رجل قال : صليت فوق أبى قبيس العصر فهل يجزئ ذلك والكعبة تحتي ؟ قال : نعم ، إنها قبلة من موضعها إلى السماء»(1) وهذه وإن كانت ظاهرة الدلالة على المطلوب لكنها ضعيفة السند ، لأن في طريق الشيخ إلى الطاطري ، علي بن محمد بن الزبير القرشي(2) ولم يوثق ، وتعبير صاحب الحدائق(3) عنها بالموثق في غير محله ، وكأنه اقتصر في ملاحظة السند على الرجال المذكورين فيه الذين كلهم ثقات ، ولم يمعن النظر في طريق الشيخ إلى الطاطري المشتمل على الضعيف كما عرفت .

   الثالثة : مرسلة الصدوق قال «قال الصادق (عليه السلام) : أساس البيت من الأرض السابعة السفلى إلى الأرض السابعة العليا»(4) وهي في الدلالة كسابقتها . والتعبير عن السماء السابعة بالأرض كأنه من جهة عدّ كل سماء أرضاً بالإضافة إلى ما فوقها . وكيف كان ، فهي أيضاً ضعيفة السند بالإرسال فلا يعتمد عليها .

   وبالجملة : فما عليه المشهور من اتساع القبلة من تخوم الأرض إلى عنان السماء لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، بل الظاهر اختصاصها بفضاء البيت وما يتبعه عرفاً حسبما عرفت ، بل هذا هو الحال في جميع الأوقاف والأملاك من المساجد وغيرها ، فلا يتعدى الوقف والملك من ناحية السفل والعلو إلا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 4 : 339 / أبواب القبلة ب 18 ح 1 .

(2) التهذيب 10 (المشيخة) : 76 .

(3) الحدائق 6 : 377 .

(4) الوسائل 4 : 339 / أبواب القبلة ب 18 ح 3 ، الفقيه 2 : 160 / 690 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net