الأول - الثاني 

الكتاب : المستند في شرح العروة الوثقى-الجزء الثاني : الصلاة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 4099


ــ[283]ــ

   أمّا القسم الأوّل : أعني ما إذالم يكن للمتعلّق متعلّق ، وكان التكليف إيجابياً كوجوب الذكر أو الدعاء أو التكلّم بالعربية مثلاً ، وشكّ في انطباق ذلك على الوجود الخارجي كأن شكّ أنّ ما تفوّه به مصداق للذكر أو الدعاء أو الكلام العربي أو لا ، فلا ريب أنّ المرجع حينئذ قاعدة الاشتغال ، لفعليّة التكليف وتنجّزه والقدرة على امتثاله ، ولا بد في الخروج عن عهدة التكليف الواصل من الاعتماد على اليقين ، فانّ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية ، فلا يجوز في نظر العقل الاقتصار على الفرد المشكوك . هذا فيما إذا كان المطلوب بنحو صرف الوجود كما هو الغالب في مثل هذا القسم ، بل لا يكاد يوجد في الأحكام الشرعية على غير هذا النحو .

   وأمّا إذا فرضنا أنّ المطلوب هي الطبيعة السارية بنحو العموم الاستغراقي أو المجموعي ـ وإن كان ذلك مجرد فرض لا مصداق له خارجاً إلا بمثل نذر وشبهه ، كأن ينذر أن يقرأ في يوم الجمعة مثلاً كل ما كان مصداقاً للدعاء ـ وشكّ في انطباق الطبيعة على الموجود الخارجي زائداً على المقدار المعلوم من أفرادها فحينئذ اندرج المقام في باب الدوران بين الأقل والأكثر الاستقلاليين على الأوّل ـ أعني ماكان من قبيل العموم الاستغراقي ـ والارتباطيين على الثاني . والأوّل مجرى لأصالة البراءة بلا إشكال ، وكذلك الثاني على المختار ، بل المشهور حسبما هو موضح في الاُصول(1) ، للشك في تعلّق التكليف زائداً على الأفراد المعلومة ، أو في جزئيّة شيء زائداً على الأجزاء المتيقّنة ، ومقتضى الأصل البراءة عنها .

   ومنه تعرف أنّ ما أفاده المحقق النائيني (قدس سره)(2) من الرجوع إلى أصالة الاشتغال لدى الشك في الانطباق على سبيل الإطلاق لا يمكن المساعدة عليه ، بل الصواب اختصاصه بما كان على نحو صرف الوجود ، ولا يشمل ما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الاُصول 2 : 426 .

(2) كتاب الصلاة 1 : 180 ، 184 ، 187 .

ــ[284]ــ

لوحظ على سبيل الطبيعة السارية وإن كان الفرض في نفسه نادراً كما عرفت .

   وأمّا القسم الثاني : وهو نفس الفرض مع كون التكليف تحريمياً كالنهي عن الكذب ، أو عن الذكر حال الجنابة أو الحيض ، فالمرجع لدى الشك في الانطباق هو أصالة البراءة ، على العكس من القسم الأول ، لوضوح افتراق النهي عن الأمر في انبعاثه عن مفسدة متحقّقة في الطبيعة ولابدّ في الاجتناب عنها من الارتداع عن تمام الأفراد على سبيل الشمول والاستيعاب ، إمّا بنحو العموم الاستغراقي ـ كما هو الغالب ـ أو المجموعي ، فلا يتحقق الامتثال بالاجتناب عنها بنحو صرف الوجود على خلاف الأمر ، حيث إنّه لما كان ناشئاً عن مصلحة قائمة بالطبيعة فلا جرم يتحقق امتثالها بأوّل فرد تنطبق الطبيعة عليه .

   وعليه فلا مناص من انحلاله إلى نواهي عديدة ، إمّا استقلالية لو كان السريان على سبيل العموم الاستغراقي ، أو ضمنية لو كان بنحو العموم المجموعي ـ فيما لو كان هناك مفسدة واحدة قائمة بالمجموع ـ فيرجع في الفرد أو الجزء المشكوك إلى أصالة البراءة في الأول بلا إشكال ، وفي الثاني على المختار حسبما تقدم .

   وقد يتوهّم أنّ مقتضى ذلك جواز الإخبار عمّا يشك في كونه مصداقاً للكذب ، نظراً إلى الشكّ في تعلق النهي به زائداً على الأفراد المتيقنة فيرجع إلى أصالة البراءة .

   ولكنه كما ترى ، أمّا أوّلاً : فللعلم الإجمالي بحرمة الإخبار به أو بنقيضه ، لأن أحدهما مصداق للكذب يقيناً ، فلابدّ من التجنب والتثبت رعاية لتنجّز العلم الإجمالي .

   وأمّا ثانياً : فللأدلّة الخاصة الناهية عن القول بغير علم من الكتاب والسنّة كقوله تعالى : (ءَآللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ)(1) وقوله (عليه السلام) :

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يونس 10 : 59 .

ــ[285]ــ

«رجل قضى بالحق وهو لا يعلم»(1) وقوله تعالى : (وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ . .)
الخ(2) والأخير مطلق يشمل الأحكام الشرعية وغيرها .

   وبالجملة : فلا يقاس الإخبار بغيرها من المحرمات المشكوكة ، لوجود الدليل الحاكم على أصالة البراءة ، ولولاه لكانت هي المرجع ، لعدم قصور في شمولها للمقام كغيره من سائر الموارد .

   هذا كلّه مع الشك في الانطباق ، وأمّا مع العلم به والشك في الامتثال فلا شبهة في أنّ المرجع حينئذ قاعدة الاشتغال ، فلو علمنا أنّ فرداً مصداق للذكر الواجب أو الكذب المحرم تعيّن إحراز امتثاله بفعل الأول وترك الثاني .

   ومثله ما لو شككنا في خروج المني بالملاعبة ليصدق عليه الاستمناء المحرّم ، فان انطباق العنوان لدى الخروج لمّا كان محرزاً لزم الاجتناب عن الاقتحام ، للشك معه في تحقق الامتثال اللازم إحرازه بحكم العقل ، فلا تجوز الملاعبة المزبورة ، نعم في هذا المثال للمتعلّق متعلّق فيخرج عن محل الكلام .

   والمثال المنطبق على المقام ما لو حرم عليه النوم ، واحتمل أنّ الاضطجاع يستوجب غلبة النوم فانّه يحرم عليه .

   وبالجملة : ففي أمثال هذه الموارد لابدّ من إحراز ترك المنهي عنه بمقتضى قاعدة الاشتغال ، إلا أن يكون هناك أصل موضوعي حاكم يحرز معه الامتثال كاصالة عدم تحقق النوم بالضجعة ، أو عدم خروج المني باللعبة ـ بناءً على ما هو الأصح من جريان الاستصحاب في الاُمور الاستقبالية كالحالية ـ بعد وضوح عدم الفرق في إحراز الامتثال بين ما كان بعلم وجداني أو تعبّدي متحصّل من أمارة أو أصل عملي كما في المقام .

   ثم إنّ الشبهة الوجوبية وإن شاركت التحريمية في الرجوع إلى أصالة البراءة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 27 : 22 / أبواب صفات القاضي ب 4 ح 6 .

(2) النور 24 : 15 .

ــ[286]ــ

فيما لو كان العموم مجموعياً ـ حسبما عرفت ـ إلا أنّهما يفترقان في مورد إعمال هذا الأصل .

   ففي الوجوبية لو أمر المولى باكرام جماعة من العلماء ـ مثلاً ـ بطلب واحد متعلق بالمجموع منبعث عن مصلحة واحدة قائمة بهذه الهيئة ، وشككنا في شمولها لزيد العالم وعدمه فاللازم حينئذ إكرام من عداه ، لأنّه المتيقّن من الجعل المردد بين كونه بالإضافة إلى زيد لا بشرط أو بشرط شيء ، ويرجع في جزئيته لهذا المجموع واشتراط الواجب بانضمامه إليهم إلى أصالة البراءة ، كما هو الشأن في سائر موارد الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، فيكون مورد الأصل هو ذاك الفرد المشكوك .

   وأمّا في الشبهة التحريمية مثل ما لو ورد النهي عن مجالسة الأشرار بنهي واحد متعلق بهم أجمع ، وشككنا في كون زيد منهم فالأمر حينئذ بالعكس ، فلا تحرم مجالسة من عداه ، كما لا تحرم مجالسته وحده ، للشك في تعلّق النهي بشيء منهما منعزلاً عن الآخر ، وإنّما المتيقن من مورد النهي مجالستهم بأجمعهم فانّه المعلوم حرمته ، فيرجع في غير هذه الصورة إلى أصالة البراءة ، إلا إذا فرضنا رجوع التكليف التحريمي إلى الوجوبي ، بأن لم تكن ثمة مفسدة كامنة في مجموع الأفعال ، بل مصلحة قائمة بمجموع التروك ، فانّه يجري حينئذ ما عرفته في الشبهة الوجوبية من لزوم الامتثال في الأفراد المتيقنة من التروك ، والرجوع فيما عداها إلى أصالة البراءة ، فلا تجوز في المثال مجالسة من علم كونه من الأشرار وتجوز في الفرد المشكوك ، هذا في الشبهة الموضوعية .

   وكذلك الحال في الشبهة الحكمية كما لو بنينا على حرمة تصوير ذوات الأرواح وشككنا في اختصاصه بالبدن الكامل ، أو شموله للناقص ، بعد وضوح أنّ الحرمة لو ثبتت للكلّ فهي حرمة واحدة ، لا أنّ لكل عضو حرمة مستقلّة مغايرة للعضو الآخر ، فانّ المرجع حينئذ أصالة البراءة عن حرمة تصوير البعض ، إذ لا علم لنا بها إلا لدى تصوير تمام الأجزاء بالأسر .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net