ثبوت النجاسة بالبيّنة 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الثاني:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 6719


    ثبوت النجاسة بالبيِّنة :

   (1) فهل يعتمد على إخبار البيِّنة بنجاسة شيء مسبوق بالطهارة أو جهلت حالته السابقة بحيث لو لا تلك البيِّنة لحكمنا بطهارته ؟ لا ينبغي الاشكال في اعتبارها وأن النجاسة تثبت بها شرعاً ، وإنما الكلام في مدرك ذلك فقد استدلوا على اعتبار البيِّنة بوجوه :

   الوجه الأوّل : الاجماع على اعتبارها بين الأصحاب . ويدفعه : أن الاجماع على تقدير تحقّقه ليس إجماعاً تعبدياً قطعاً حتى يكشف عن قول المعصوم (عليه السلام) لاحتمال استناد المجمعين إلى أحد الوجهين الآتيين .

   الوجه الثاني : الأولوية القطعية بتقريب : أن الشارع جعل البيِّنة حجة في موارد الترافع والمخاصمة ، وقد قدمها على ما في قبالها من الحجج كاليد ونحوها غير الاقرار لأنه متقدم على البيِّنة ، وما ثبتت حجيته في موارد القضاء مع ما فيها من المعارضات فهو حجة في غيرها من الموارد التي لا معارض له بطريق أولى .

   وبالجملة اعتبار البيِّنة شرعاً أمر غير قابل للانكار . نعم ، ربما قيد اعتبارها في الشريعة المقدسة ببعض القيود حسب اختلاف المقامات وأهميتها عند الشارع وعدمها ، فاعتبر في ثبوت الزنا بالبينة أن يكون الشهود أربعة ، كما اعتبر أن تكون

ــ[261]ــ

الشهادة من الرجال في ثبوت الهلال وأسقط شهادة النساء في ذلك .

   وللمناقشة في هذه الأولوية مجال واسع ، لأن الخصومة والمرافعة لا بدّ من حلّها وفصلها بشيء ، حيث إن في بقائها بحالها ينجر الأمر إلى اختلال النظام ، فما به ترتفع المخاصمات لا يلزم أن يكون حجة على الاطلاق حتى في غير موارد المرافعة ، ومن هنا ترى أن الأيمان مما تفصل به الخصومات شرعاً مع أنها لا تعتبر في غير موارد المرافعة ، وعلى الجملة لا تقاس الخصومة بغيرها فالأولوية لا أساس لها .

   الوجه الثالث : رواية مسعدة بن صدقة : «كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعلّه حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً ، أو امرأة تحتك وهي اُختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيِّنة» (1) .

   فانّها اشتملت على اُمور ثلاثة ، ودلت على أن اليد في الثوب وأصالة عدم تحقق النسب أو الرضاع في المرأة ، والاقرار على العبودية في العبد حجة معتبرة لا بدّ من العمل على طبقها إلاّ أن يعلم أو تقوم البيِّنة على خلافها ، فمنها يستفاد أن البيِّنة حجة شرعاً ومعتبرة في إثبات الموضوعات المذكورة في الحديث من الملكية والاُختية والحرية ، فيترتب عليها أحكامها وحيث إن كلمة «الأشياء» جمع محلّى باللاّم وهو من ألفاظ العموم ولا سيما مع تأكيده بكلمة «كلّها» فنتعدى عنها إلى سائر الموضوعات التي لها أحكام ومنها النجاسة ، لأنها يترتب عليها جملة من الأحكام كحرمة الشرب والأكل وعدم جواز الوضوء والغسل به ، وإذا قامت البيِّنة على نجاسة شيء فلا مانع من أن نرتب عليها أحكامها .

   ودعوى: أن الرواية إنما دلت على اعتبار البيِّنة في الأحكام فلا يثبت بها اعتبارها في غيرها .

   مدفوعة: بأن موردها خصوص الموضوعات التي لها أحكام حيث وردت في ثوب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 17 : 89 / أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4 .

ــ[262]ــ

يشك في كونه ملكاً للبايع أو مغصوباً ، وفي عبد لا يدرى أنه حر أورق وفي امرأة يشك في أنها أجنبية أو من المحارم ، وكل ذلك من الموضوعات التي يترتّب عليها أحكام وعلى الجملة أن الرواية تقتضي حجية البيِّنة في الموضوعات .

   ويؤيدها رواية عبدالله بن سليمان الواردة في الجبن : «كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أن فيه ميتة» (1) وموردها الجبن الذي يشك في حرمة أكله ، إلاّ أنها ضعيفة السند ومن هنا جعلناها مؤيدة للمدعى .

   ولا يخفى عليك ضعف هذا الاستدلال وذلك : لأن الرواية وإن عبّر عنها في كلام شيخنا الأنصاري (قدس سره) بالموثقة (2) إلاّ أ نّا راجعنا إلى حالها فوجدناها ضعيفة (3) حيث لم يوثق مسعدة في الرجال ، بل قد ضعفه المجلسي (4) والعلاّمة (5) وغيرهما . نعم ، ذكروا في مدحه أن رواياته غير مضطربة المتن ، وأن مضامينها موجودة في سائر الموثقات . ولكن شيئاً من ذلك لا يدل على وثاقة الرجل ، فهو ضعيف على كل حال ولا يعتمد على مثلها في استنباط الحكم الشرعي ، وعليه فلا دليل على اعتبار البيِّنة في الموضوعات .

   والذي يمكن أن يقال : إن لفظة «البيِّنة» لم تثبت لها حقيقة شرعية ولا متشرعية وإنما استعملت في الكتاب والأخبار بمعناها اللغوي وهو ما به البيان وما به يثبت الشيء ، ومنه قوله تعالى : (بالبيِّنات وبالزبر ) (6) ، وقوله : (حتّى تأتيهم البيِّنة ) (7)

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 25 : 118 / أبواب الأطعمة المباحة ب 61 ح 2 .

(2) فرائد الاُصول 2 : 734 .

(3) الأمر وان كان كما قررناه إلاّ أن الرجل ممن وقع في أسانيد كامل الزيارات وقد بنى أخيراً سيِّدنا الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ على وثاقة الرواة الواقـعين في أسانيد الكتاب المذكور ومن هنا عدل عن تضعيف الرجل وبنى على وثاقته . إذن فالرواية موثقة .

(4) رجال المجلسي (الوجيزة) : 320 .

(5) الخلاصة : 260 .

(6) فاطر 35 : 25 .

(7) البيِّنة 98 : 1 .

ــ[263]ــ

وقوله : (إن كنت على بيِّنة من ربّي ) (1) وغيرها من الموارد ، ومن الظاهر أنها ليست في تلك الموارد إلاّ بمعنى الحجة وما به البيان ، وكذا فيما ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من قوله : «إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان» (2) أي بالأيمان والحجج وما به يبيّن الشيء ، ولم يثبت في شيء من هذ الموارد أن البيِّنة بمعنى عدلين ، وغرضه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من قوله : «إنما أقضي ...» على ما نطقت به جملة من الأخبار (3) بيان أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسائر الأئمة (عليهم السلام) سوى خاتم الأوصياء (عجّل الله في فرجه) لا يعتمدون في المخاصمات والمرافعات على علمهم الوجداني المستند إلى النبوة أو الإمامة ، وإنما يقضون بين الناس باليمين والحجة سواء أطابقت للواقع أم خالفته كما هو صريح ما ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مخاصمة امرئ القيس (4) نعم ، يقضي قائمهم (عليه السلام) على طبق الواقع من دون أن يعتمد على شيء (5) .

   وعلى الجملة لم يثبت أن البيِّنة بمعنى عدلين في شيء من تلك الاستعمالات وإنما هي بمعناها اللغوي كما مر ، والبيِّنة بهذا المعنى اصطلاح بين العلماء ، ولعلّه أيضاً كان ثابتاً في الدور الأخير من زمانهم (عليهم السلام) . وعلى ما ذكرناه فالرواية المتقدمة لا دلالة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هود 11 : 28 .

(2) كما في صحيحة هشام عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان...» الوسائل 27 : 232 / أبواب كيفية الحكم ب  2 ح  1 .

(3) الوسائل 27 : 233 / أبواب كيفية الحكم ب 2 ح 3 ، ب 1 ح 4 .

(4) عن عدي عن أبيه قال : «اختصم امرئ القيس ورجل من حضرموت إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أرض . فقال : ألك بيِّنة ؟ قال : لا ، قال : فيمينه ، قال : إذن والله يذهب بأرضي ، قال : إن ذهب بأرضك بيمينه كان ممّن لا ينظر الله إليه يوم القيامة ، ولا يزكيه وله عذاب أليم قال: ففزع الرجل وردها إليه» الوسائل 27 : 235 / أبواب كيفية الحكم ب 3 ح 7 .

(5) صحيحة أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال : «إذا قام قائم آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حكم بحكم داود (عليه السلام) لا يسأل بيِّنة . المروية في الوسائل 27  : 230 / أبواب كيفية الحكم ب 1 ح 4 .

ــ[264]ــ

وبالعدل الواحد على إشكال ((1)) لا يترك فيه الاحتياط (1) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لها على اعتبار البيِّنة بمعنى شهادة عدلين بل لا بدّ من احراز حجيتها من الخارج .

   نعم ، لما علمنا خارجاً أن الشارع كان يعتمد على إخبار العدلين في المخاصمات وفي موارد القضاء بين الناس استكشفنا من ذلك أن إخبار العدلين أيضاً من مصاديق الحجة وما به البيان ، وبهذا نحرز أنه حجة على نحو الاطلاق من غير أن يختص اعتباره بموارد الخصومة والقضاء ، لأن اعتماد الشارع عليه يدلنا على أن إخبار العدلين حجّة معتبرة في مرتبة سابقة على القضاء ، لا أنه صار حجة بنفس القضاء .

   ويؤيده مقابلة الأيمان بالبينات في الرواية المتقدمة ، فان الأيمان تختص بموارد القضاء ، وقد وقعت في مقابلة البيِّنات : أي أقضي بينكم بما يعتبر في خصوص القضاء وبما هو معتبر في نفسه على نحو الاطلاق ، وهذا غاية ما أمكننا من إقامة الدليل على حجية البيِّنة في الموضوعات ، وما ذكرناه إن تمّ فهو وإلاّ فلا دليل على ثبوت النجاسة بالبينة كما عرفت .

   ثم انّ هذا كلّه فيما إذا لم نقل باعتبار خبر العدل الواحد في الموضوعات وإلاّ فلا حاجة إلى اثبات حجية البيِّنة فيها كما هو ظاهر . نعم ، تظهر ثمرة حجية البيِّنة في نفسها فيما إذا قامت على نجاسة ما أخبر ذو اليد عن طهارته وسيجيء بيان ذلك عن قريب .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net