الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الثاني:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 8804


    القسم الثالث من الماء المستعمل

   (1) هذا هو القسم الثالث من أقسام الماء المستعمل ولا اشكال ولا كلام في طهارته وفي كفايته في رفع الخبث لإطلاقات طهورية الماء ، ولم يخالف في ذلك أحد من الأصحاب غير ابن حمزة في الوسيلة حيث نسب إليه القول بنجاسته (1) وهو من الغرابة بمكان .

   (2) وقع الكلام في أن الماء المستعمل في الحدث الأكبر هل يرتفع به الحدث ثانياً وثالثاً وهكذا ؟

   فقد يقال بعدمه بدعوى : أن الوضوء والغسل يشترط فيهما أن لا يكون الماء مستعملاً في الحدث الأكبر قبل ذلك . وهذه الدعوى على تقدير تماميتها تختص بما إذا كان المستعمل قليلاً ، وأمّا إذا كان عاصماً كالكر والجاري ونحوهما فالظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في جواز رفع الحدث به ثانياً وثالثاً وهكذا .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسيلة : 74 .

ــ[283]ــ

   ويدل عليه السيرة المستمرة المتصلة بزمان المعصومين (عليهم السلام) إذ الخزانات في الحمّامات المتعارفة في زماننا هذا المشتملة على أضعاف الكر من الماء ، وإن لم تكن موجودة في زمانهم (عليهم السلام) فان المتعارف في الحمامات في تلك الأزمنة إنما كان هو الأحواض الصغيرة المتصلة بموادها الجعلية بالأنابيب أو بغيرها ، إلاّ أن المياه المجتمعة في الغدران في الطرق والفلوات المشتملة على أزيد من الكر بكثير مما لا  سبيل إلى إنكار وجودها في زمانهم . وقد تكاثرت الأسئلة عن حكم اغتسال الجنب في تلك المياه وأجابوا (عليهم السلام) بصحة الغسل فيها على نحو الاطلاق اغتسل فيها جنب قبل ذلك أم لم يغتسل وهي تكشف عن أن الاغتسال فيها كان متعارفاً عندهم .

   ففي صحيحة صفوان بن مهران الجمال قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الحياض التي ما بين مكة إلى المدينة تردها السباع ، وتلغ فيها الكلاب وتشرب منها الحمير ، ويغتسل فيها الجنب ويتوضأ منها ؟ قال : وكم قدر الماء ؟ قال : إلى نصف الساق وإلى الركبة ، فقال : توضأ منه» (1) . ومن الظاهر أن الماء في الغدران إذا بلغ نصف الساق أو الركبة فلا محالة يزيد عن الكر بكثير ، وكيف كان فلا إشكال في صحة الغسل والوضوء في المياه المعتصمة وإن اغتسل فيها من الجنابة .

   وإنما الكلام في صحة الغسل أو الوضوء ثانياً من الماء القليل المستعمل في رفع الحدث الأكبر وانّه هل يتحمل القذارة المعنوية بحيث لا يصلح لرفع الحدث ثانياً أو أنه باق على نظافته ؟ وقد وقع هذا محلاً للخلاف بين الأعلام والمشهور جواز استعماله في رفع الحدث ثانياً وثالثاً .

   وعن الصـدوقين(2) والمفيد(3) والشيخ الطوسي(4) وغـيرهم (قدس سرهم) عدم الجواز ، وقد استدل عليه بعدّة روايات أظهرها رواية عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 162 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 12 .

(2) حكاه عنهما في المختلف 1 : 68 ، الفقيه 1 : 10 ، لكنّه لم ينقل في الفقيه عن والده .

(3) المقنعة : 64 .

(4) المبسوط 1 : 11 .

ــ[284]ــ

(عليه السلام) «قال : لا بأس بأن يتوضأ بالماء المستعمل ، فقال : الماء الذي يغسل به الثوب ، أو يغتسل به الرجل عن الجنابة لا يجوز أن يتوضأ منه وأشباهه ، وأمّا [ الماء  ]الذي يتوضأ الرجل به فيغسل به وجهه ويده في شيء نظيف ، فلا بأس أن يأخذه غيره ويتوضأ به» (1) . وهي قد دلت على عدم جواز الوضوء والغسل بالماء المستعمل في رفع الحدث مطلـقاً كان الحدث جنابة أو حيضاً أو غيرهما بناء على أن قـوله «وأشباهه» معطوف على الضمير المجرور ، ولذا ذكرنا أنها أظهر من غيرها فان سائر الروايات على تقدير تماميتها تختص بالمستعمل في غسل الجنابة .

   والكلام في هذه الرواية يقع في موضعين :

   أحدهما : في سندها .

   ثانيهما : في دلالتها .

   أمّا الموضع الأوّل : فقد نوقش فيه بضعف الرواية لأن في سندها أحمد بن هلال العبرتائي وقد طعن فيه من ليس من دأبه الخدشة في السند ، حيث إن الرجل نسب إلى الغلو تارة وإلى النصب اُخرى وقال شيخنا الأنصاري : وبعد ما بين المذهبين لعلّه يشهد بأنه لم يكن له مذهب رأساً . وقد صدر عن العسكري (عليه السلام) اللعن في حقه (2) فهو ملعون زنديق فالرواية ساقطة عن الاعتبار ، هذا وقد تصدى شيخنا الأنصاري (قدس سره) لإبداء القرائن على أن الرواية موثقة وإن كان أحمد بن هلال ملعوناً لا مذهب له .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 215 / أبواب الماء المضاف ب 9 ح 13 .

(2) عن الكشي فيما نقله عن القسم بن العلاء أنه خرج إليه : «قد كان أمرنا نفذ إليك في المتصنع ابن هلال ، لا رحمه الله بما قد علمت لم يزل لا غفر الله له ذنبه ، ولا أقاله عثرته ، يداخل في أمرنا بلا اذن منّا ولا رضى ، يستبد برأيه فيتحامى من ذنوب ، لا يمضي من أمرنا إياه إلاّ بما يهواه ويريد ، أرداه الله بذلك في نار جهنم فصبرنا عليه حتى بتر الله بدعوتنا عمره ، وكنّا قد عرّفنا خبره قوماً من موالينا في أيامه . لا رحمه الله وأمرناهم بالقاء ذلك إلى الخاص من موالينا ، ونحن نبرأ إلى الله من ابن هلال ، لا رحمه الله ومن لا يبرأ منه ، وأعلم الاسحاقي سلمه الله وأهل بيته بما أعلمناك من حال هذا الفاجر» . المجلد 1 من تنقيح المقال ص 99 .

ــ[285]ــ

   القرينة الاُولى : أن الراوي عن أحمد بن هلال هو الحسن بن علي وهو من بني فضال ، وقد ورد عن العسكري (عليه السلام) الأمر بأخذ رواياتهم فيجب الأخذ برواية الحسن بن علي ، وقد ذكر (قدس سره) نظير ذلك في رواية داود بن فرقد (1) الواردة في باب توقيت الصلاة الدالّة على اختصاص أول الوقت بالظهر وآخره بالعصر ، حيث وثقها بأن الرواية وإن كانت ضعيفة في نفسها إلاّ أن أحد رواتها من بني فضال وقد اُمرنا بالأخذ برواياتهم .

   هذا ، ثم أضاف على ما ذكره في المقام أنه يمكن أن يوثق الرواية بوجه آخر ، وهو أن حسين بن روح قد استدل على اعتبار كتب الشلمغاني بما ورد عن العسكري (عليه السلام) في حق بني فضال فقال : أقول في حق الشلمغاني ما قاله العسكري (عليه السلام) في بني فضال من قوله : «خذوا ما رووه وذروا ما رأوه» فكما أنه طبّق كلامه (عليه السلام) على الشلمغاني مع أنه خارج عن مورد النص ، فكذلك نحن لا بأس بأن نطبّق كلامه (عليه السلام) على أحمد بن هلال فان تعدي حسين بن روح عن مورد النص يكشف عن عدم خصوصية في ذلك لبني فضال . وعلى الجملة أن الرجل ممن ينطبق عليه كلام العسكري (عليه السلام) كما كان ينطبق على الشلمغاني .

   وللمناقشة في ما أفاده مجال واسع وذلك :

   أمّا أوّلاً : فلأن الحسن بن علي الواقع في سند الرواية لم يعلم أنه من بني فضال ، بل ربّما يستظهر عدم كونه منهم لاختلاف الطبقة فراجع .

   وأمّا ثانياً : فلأجل أن المستفاد مما ذكره (عليه السلام) في بني فضال أن الخروج عن الاستقامة إلى الاعوجاج غير قادح في صحة الرواية إذا كانت روايته حال الاستقامة ، فحالهم فيما رووه حال سائر الرواة الموثقين كزرارة ومحمد بن مسلم وأضرابهما ممن تقبل رواياتهم . إذن فلا يدل ذلك إلاّ على وثاقتهم في أنفسهم لا  أنهم لا يروون إلاّ عن الثقات ، فكما أن زرارة ومحمد بن مسلم وامثالهما إذا رووا عن غير الثقة لا يعتمد على رواياتهم فكذلك بنو فضال . وليس معنى ما صدر عنه (عليه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 4 : 127 / أبواب المواقيت ب 4 ح 7 .

ــ[286]ــ

السلام) أن الخروج عن الاستقامة والدين إلى الانحراف والزندقة يزيدان في الأهمية والاعتبار ويستلزمان قبول روايته ، ولو كانت عن ضعيف ليكون بنو فضال وأضرابهم أشرف وأوثق من زرارة ومحمد بن مسلم واضرابهما . وحيث إن الحسن بن علي روى هذه الرواية عن أحمد بن هلال وهو فاسد العقيدة كما مرّ فلا يعتمد على روايته ولا تتصف بالحجية والاعتبار .

   وأمّا ثالثاً : فلأن أحمد بن هلال لم تثبت وثاقته في زمان حتى يكون انحرافه بعد استقامته ، ومعه كيف يحكم بقبول رواياته بملاك قبول روايات بني فضال فهذه القرينة ساقطة .

    القرينة الثانية : أن سعد بن عبدالله الأشعري روى هذه الرواية عن الحسن بن علي عن أحمد بن هلال وهو الذي طعن في الرجل بالنصب قائلاً إني لم أرَ من رجع من التشيع إلى النصب إلاّ هذا الرجل ، وهو لا يروي عن غير الشيعة حسب تعهده ومن هنا لم يرو عمّن لقي الإمام ولم يرو عنه ـ  كما حكي  ـ وعلى هذا فروايته عن الرجل في المقام يكشف عن أن الرواية إنما كانت في كتاب معتبر مقطوع الانتساب إلى مصنفه بحيث لا يحتاج إلى ملاحظة حال الواسطة أو أنها كانت محفوفة بقرائن موجبة للوثوق بها . إذن فتكون معتبرة لا محالة .

   ويدفعه أمران : أحدهما : أن عدم روايته عن غير الشيعة ولو مرة طيلة حياته أمر لم يثبت ، فان غاية ما هناك أ نّا لم نجدها ولم نقف عليها فلا سبيل لنا إلى نفي وجودها رأساً .

   وثانيهما : هب أنه لا يروي عن غير الشيعة لشدة تعصبه في حقهم (عليهم السلام) إلاّ أن غاية ذلك أن يثبت أن أحمد بن هلال كان شيعياً حينذاك ، ومن الظاهر أن مجرد كون الرجل شيعياً لا يلازم وثاقته ليعتمد على روايته ، فرواية سعد عن الرجل لا تكون قرينة على اعتبار روايته .

    القرينة الثالثة : أن أحمد بن هلال إنما نقل الرواية عن ابن محبوب والظاهر أنه نقلها قراءة عليه عن كتابه الموسوم بالمشيخة ، وهو كتاب معتبر عند الأصحاب وقد

ــ[287]ــ

ذكر الغضائري ـ  وهو الذي يقدح في السند كثيراً  ـ أن روايات أحمد بن هلال ساقطة عن الاعتبار إلاّ ما رواه عن كتاب المشيخة لابن محبوب ونوادر ابن أبي عمير فانّه معتمد عليه عندهم(1) ، وعن السيد الداماد (قدس سره) أن ما نقله أحمد عن المشيخة وابن أبي عمير معتمد عليه عند الأصحاب وملحق بالصحاح (2) .

   والجواب عن ذلك : أ نّا لو سلمنا أن اعتماد الأصحاب على رواية ضعيفة يوجب الانجبار ، وأن ما رواه أحمد عن كتاب المشيخة معتمد عليه عندهم فاثبات صغرى ذلك في المقام في نهاية الإعضال ، إذ لا علم لنا أن أحمد روى هذه الرواية بالقراءة عن كتاب المشيخة ، ولعلّه رواها عنه بنفسه لا من كتابه المسمى بالمشيخة . إذن يتوقف اعتبارها على وثاقة الرواة وقد فرضنا عدمها ، واستظهار أنه رواها عن كتاب المشيخة بالقراءة كما في كلام شيخنا الأنصاري (قدس سره)(3) ممّا لم يظهر وجهه .

    القرينة الرابعة : أن المشايخ الثلاثة اعتمدوا على رواية أحمد ، ونقلوها في الكافي والتهذيب ومن لا يحضره الفقيه ، وكذا القميون كالصدوقين وابن الوليد وسعد بن عبدالله الأشعري وغيرهم يعتمدون على روايته ، ومن الظاهر أن اعتماد هؤلاء على نقل أحد لا يقصر عن توثيق أهل الرجال ، ومن هنا عدوا عمل هؤلاء الأكابر واعتمادهم على أية رواية من أمّارات الصحة حسب اصطلاح الأقدمين ، وبذلك تكون الرواية معتبرة .

   والجواب عن ذلك أمّا أوّلاً : فبأن المراد باعتماد المشايخ والقميين إن كان هو نقلهم للرواية في كتبهم فمن الظاهر أن مجرد نقل رواية لا يوجب الاعتماد عليها ، ومن هنا لا نعتمد على جميع ما نقلوه في كتبهم من الأخبار ، لأنها ليست بأجمعها صحاحاً وموثقات بل فيها من الضعاف ما لا يحصى ، فلا يستكشف من مجرّد نقل هؤلاء اعتمادهم على الرواية .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الخلاصة (للعلاّمة) : 202 .

(2) الرواشح السماوية : 109 .

(3) كتاب الطهارة : 57 السطر 19 .

ــ[288]ــ

   وإن اُريد بالاعتماد عمل القميين والمشايخ على طبقها ، فالمقدار الثابت إنما هو عمل الصدوقين والشيخين بها ، ولم يثبت عمل غيرهم بالرواية حتى أن سعد بن عبدالله راوي هذا الحديث لم يظهر منه العمل بها وإنما اكتفى بنقلها ، وعمل هؤلاء الأربعة لا يوجب الإنجبار في قبال غيرهم من الأصحاب من قدمائهم ومتأخريهم حيث إنهم ذهبوا إلى خلافها .

   ونسب العلاّمة (قدس سره) إلى مشهور المتقدمين والمتأخرين القول بجواز الاغتسال من الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر (1) ، وفيهم السيد المرتضى(2) والشهيدان(3) والمحقق(4) ونفس العلاّمة(5) وغيرهم من أجلاء الأصحاب ومحققيهم فماذا يفيد عمل أربعة من الأصحاب في مقابل عمل هؤلاء الأكابر . وعلى الجملة أن المقام ليس من صغريات كبرى انجبار ضعف الرواية بعمل المشهور على تقدير صحة الكبرى في نفسها .

   وأمّا ثانياً : فلأنه لم يعلم أن عمل الصدوقين بالرواية لأجل توثيقهما لأحمد بن هلال ، لأ نّا نحتمل لو لم نظن أن يكون ذلك ناشئاً عن بنائهما على حجية كل رواية رواها إمامي لم يظهر منه فسق ، أعني العمل بأصالة العدالة في كل مسلم إمامي ، وقد اعتقدا أن الرجل إمامي لأن سعد بن عبدالله لا يروي عن غير الإمامي ، وهذا هو الذي احتملناه فيما ذكره الصدوق (قدس سره) في صدر كتابه من لا يحضره الفقيه من أني إنما أورد في هذا الكتاب ما هو حجة بيني وبين ربي (6) ، وفسرناه بأنه التزم أن يورد في كتابه ما رواه كل إمامي لم يظهر منه فسق ، لأنه الحجة على عقيدته .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المنتهى 1 : 133 .

(2) جمل العلم والعمل : 22 .

(3) الذكرى : 12 السطر 5 ، البيان : 102 ، الروض : 158 السطر 7 .

(4) المعتبر 1  : 89 .

(5) المختلف 1 : 233 ، التذكرة 1 : 35 .

(6) الفقيه 1 : 3 .

ــ[289]ــ

   والمتحصل أن الرواية ضعيفة جداً ولا يمكن أن يعتمد عليها بوجه (1) هذا كلّه في الموضع الأوّل .

   وأمّا الموضع الثاني : أعني به البحث عن دلالة الرواية ، فملخص الكلام فيه أن دلالة الرواية كسندها قاصرة ، وذلك لأن قوله (عليه السلام) «الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به الرجل من الجنابة ...» وإن كان مطلقاً في نفسه من جهة طهارة الثوب ونجاسته ، ومن جهة طهارة بدن الرجل ونجاسته ، وأمّا ما ذكره بعضهم من أن المراد بالثوب هو الثوب الوسخ فالنهي عن التوضؤ بالماء المستعمل في غسله محمول على التنزه فيدفعه : أنه تقييد على خلاف الاطلاق فلا يصار إليه فالاطلاق محكّم من هذه الجهة ، إلاّ أنه لا مناص من الخروج عن كلا الاطلاقين بالقرينة الداخلية والخارجية فنقول : المراد بالثوب هو خصوص الثوب المتنجس ، كما أن المراد بالرجل هو خصوص الجنب الذي في بدنه نجاسة دون مطلق الثوب والجنب وذلك للقرينة الخارجية والداخلية .

   أمّا القرينة الخارجية فهي الأخبار الكثيرة الواردة لبيان كيفية غسل الجنابة الآمرة بأخذ كف من الماء ، وغسل الفرج به ثم غسل أطراف البدن (2) حيث إنها دلت على أن غسل الفرج وإزالة نجاسته معتبر في صحة غسل الجنب فالمراد بالجنب في الرواية هو الذي في بدنه نجاسة . واحتمال أنه يغسل فرجه في مكان ويغتسل في مكان آخر

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وقد عدل عن ذلك أخيراً سيدنا الاُستاذ أدام الله أظلاله وبنى على وثاقة الرجل لوقوعه في أسانيد كامل الزيارات ولبعض الوجوه الاُخر التي تعرض لها في محلها وعدم منافاة رميه بالنصب والغلو واستظهار كونه ممن لا دين له وكذا الذم واللعن الواردين في حقه مع الوثاقة في النقل كما لعلّه ظاهر . فان الوثاقة هي المدار في الحجية والاعتبار دون العدالة والايمان ولم يرد في حقه ما  ينافي الوثاقة فلاحظ .

(2) ورد ذلك في عدة روايات منها صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال : «سألته عن غسل الجنابة ؟ قال : تبدأ بكفيك فتغسلهما ثم تغسل فرجك ...» ومنها صحيحة زرارة قال : «قلت كيف يغتسل الجنب ؟ فقال : إن لم يكن أصاب كفه شيء غمسها في الماء ثم بدأ بفرجه فأنقاه بثلاث غرف...» ومنها غير ذلك من الأخبار المروية في الوسائل2 : 229 / أبواب الجنابة ب 26 / 1 ، 2.

ــ[290]ــ

فلا  تبقى نجاسة على بدنه حين الاغتسال بعيد غايته . وكذلك الأخبار المفصلة بين الكر والقليل في نجاسة الماء الذي اغتسل فيه الجنب (1) إذ لو لم تكن في بدنه نجاسة لم يكن وجه لنجاسة الماء باغتساله فيه مطلقاً ، فالتفصيل بين القليل والكثير يدل على أن المراد بالجنب خصوص الجنب الذي كانت في بدنه نجاسة ، ولذا فصّل في نجاسة الماء بين صورتي قلة الماء وكثرته .

   وأمّا القرينة الداخلية فهي قوله (عليه السلام) في ذيل الرواية «وأمّا الذي يتوضأ به الرجل فيغسل به وجهه ويده في شيء نظيف فلا بأس ...» حيث دل على أن المناط في جواز الوضوء والغسل بالماء المستعمل نظافته ونجاسته ، وأن حكمه بعدم الجواز فيما غسل به الثوب أو اغتسل به من الجنابة إنما هو في صورة نجاسة الثوب وبدن الجنب الموجبة لنجاسة الماء الملاقي لشيء منهما ، وأمّا إذا كان الماء طاهراً لعدم نجاسة الثوب وبدن الجنب فلا مانع من الاغتسال والتوضؤ به ، فلا إطلاق في الرواية حتى يدل على عدم جواز استعمال الماء المستعمل في غسل الجنابة أو غسل الثياب في رفع الحدث مطلقاً حتى فيما إذا لم يكن الثوب أو بدن الجنب متنجساً .

   نعم ، هذه الرواية على تقدير تماميتها سنداً ودلالة تقتضي عدم جواز رفع الحدث بالماء المستعمل مطلقاً سواء استعمل في رفع الجنابة أم في رفع غيرها من الأحداث وهذا بخلاف سائر الأخبار لأنها على تقدير تماميتها لا تدل إلاّ على عدم جواز رفع الحدث بخصوص الماء المستعمل في الجنابة دون غيرها . والتعدي إلى المستعمل في غير الجنابة من الأحداث يحتاج إلى ثبوت الملازمة بين الأمرين واثباتها مشكل جداً ودعوى الاجماع على ذلك أشكل .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كما في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبدالله (عليه السلام) «وسئل عن الماء تبول فيه الدواب ، وتلغ فيه الكلاب ، ويغتسل فيه الجنب ، قال : إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء» . وصحيحة صفوان بن مهران الجمال قال : «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الحياض التي ما بين مكة إلى المدينة تردها السباع ، وتلغ فيها الكلاب ، وتشرب منها الحمير ، ويغتسل فيها الجنب ، ويتوضأ منها ، قال : وكم قدر الماء ؟ قال : إلى نصف الساق ، وإلى الركبة فقال : توضأ منه». وغير ذلك من الأخبار المروية في الوسائل 1 : 158 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 1 ، 12.

ــ[291]ــ

   على أن سائر الروايات لا دلالة لها على المنع من استعمال الماء المستعمل في رفع الجنابة أيضاً . كما نبينه عن قريب إن شاء الله .

   ومن جملة الأخبار صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال : «سألته عن ماء الحمام ، فقال : ادخله بازار ، ولا تغتسل من ماء آخر إلاّ أن يكون فيهم جنب أو يكثر أهله فلا يدرى فيهم جنب أم لا» (1) وقد دلت على أن اغتسال الجنب في ماء الحمام يمنع عن الاغتسال به ثانياً وسندها صحيح ، وأمّا دلالتها فقد نوقش فيها من وجوه :

   الأوّل : ما عن صاحب المعالم (قدس سره) من أن الاستثناء من النهي إنما يوجب ارتفاع الحرمة فحسب ولا يثبت به الوجوب أو غيره ، فمعنى الرواية حينئذ أن الاغتسال من ماء آخر غير منهي عنه إذا كان في الحمام جنب لا أنه يجب ذلك فلا تدل على عدم جواز الاغتسال بماء الحمام إذا كان فيه جنب (2) .

   ولكن هذه المناقشة ساقطة لأن الاغتسال من ماء آخر غير ماء الحمام مما لا وجه لحرمته مع العلم بعدم الجنب فيه فضلاً عن صورة الشك في أن فيه جنباً ، فالمراد بالنهي ليس هو النهي المولوي التحريمي أو التنزيهي ، بل اُريد به دفع ما قد يتوهّم من وجوب الغسل من ماء آخر لتقذر ماء الحمام ، فمعنى الرواية : لا يلزمك إتعاب النفس والاغتسال من ماء آخر غير ماء الحمام إلاّ مع العلم بوجود الجنب فيه أو مع مظنة وجوده لكثرة من يغتسل فيه ، فان الغسل من ماء آخر حينئذ لازم ومتعيّن إذ الاستثناء من عدم اللزوم يثبت اللزوم . واستعمال النهي بهذا المعنى عند العرف كثير فتراهم ينهون أحداً من فعل ويريدون به عدم لزومه عليه . نعم ، لو كان النهي مولوياً تكليفياً لما كان الاستثناء منه دالاً على الوجوب كما عرفت ، هذا .

   وقد أجاب في الحدائق عما أورده صاحب المعالم (قدس سره) بان الاستثناء من الوجوب يدل على حرمة الشيء عرفاً واستشهد بكلام نجم الأئمة (قدس سره) من أن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 149 / أبواب الماء المطلق ب 7 ح 5 .

(2) المعالم (فقه) : 134 .

ــ[292]ــ

الاستثناء من النفي اثبات ومن الاثبات نفي ، ومثّل له بقوله : اقتلوا المشركين إلاّ أهل الذمة ، وقولهم لا تضرب أحداً إلاّ زيداً ، فان الاستثناء في الأول يدل على حرمة قتل الذمي كما يدل على وجوب ضرب زيد في الثاني (1) .

   وفيما أجاب به منع ظاهر ، فان الاستثناء من التحريم لا يثبت إلاّ ارتفاعه وأمّا ثبوت غيره من الوجوب والاباحة ونحوهما فلا ، ولا دلالة في كلام نجم الأئمة إلاّ على أن الاستثناء من الاثبات نفي وبالعكس ، ونحن نعترف بذلك ونقول إن الحرمة منتفية في صورة وجود الجنب في الحمام وأمّا ثبوت الوجوب فلا لأنه أعم منه ، اللّهم إلاّ أن تقوم قرينة خارجية على ثبوته كما هو الحال في المثال المتقدم ، فان قتل النفس المحترمة محرّم فإذا لم يكن واجباً فهو باق على حرمته . وبالجملة استفادة الحرمة في المثال إنما هي بالقرينة الخارجية ، لا لأجل أن الاستثناء من الوجوب يدل على التحريم .

   والصحيح أن الرواية في نفسها لا تدل على عدم جواز استعمال الماء المستعمل في رفع الحدث به ثانياً ، والوجه في ذلك : أنه (عليه السلام) بعد ما فرض أن الرجل دخل الحمام ورتب عليه وجوب الائتزار لحرمة كشف العورة ، نهى عن الاغتسال من ماء آخر فعلم منه أنه كان في الحمام ماءان فلا بدّ من تعيين الماء الآخر الذي نهى عن الاغتسال فيه فنقول :

   المياه الموجودة في الحمامات على ثلاثة أقسام :

   أحدها : ماء الخزانة .

   وثانيها : ماء الأحواض الصغيرة المتصل بالخزانة التي هي المادّة الجعلية له .

   وثالثها : ما يجتمع من الغسالات في مكان منخفض أو في بئر معدة للغسالة في نفس الحمامات .

   والماء الآخر الذي نهى عن الاغتسال فيه لا يمكن أن يكون ماء الخزانة ، وذلك لوجهين :

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحدائق 1 : 443 .

ــ[293]ــ

   أحدهما : أن الاغتسال في نفس الخزانة لم يكن مرسوماً في زمانهم كما أنه غير متعارف في زماننا في الحمامات ذات الأحواض الصغيرة ، فانّهم كانوا يغتسلون حول الحياض حسبما كان متعارفاً عندهم .

   وثانيهما : أن ماء الخزانة أكثر من الكر بمراتب ، وأي مانع من الاغتسال في مثله وإن اغتسل فيه جنب ؟ فان النزاع كما قدّمناه يختص بالماء المستعمل القليل ، وأمّا المياه المعتصمة فلا مانع من رفع الحدث بها وإن اغتسل فيها من الجنابة .

   كما أنه لم يرد به ماء الأحواض الصغيرة ، لعدم تعارف الاغتسال في الحياض ، بل ولا يتيسّر الدخول فيها لصغرها وإنما كانوا يأخذون الماء منها بالأكف والظروف ويغتسلون حولها .

   نعم ، قد يتوهّم إرادة ماء الحياض لأحد وجهين :

   أحدهما : نجاسة ماء الحياض لأنه قليل ينفعل بملاقاة الأواني أو الأكف المتنجسة .

   وثانيهما : أن ماء الحياض من أحد مصاديق الماء المستعمل في رفع الحدث ، وذلك لترشح قطرات الماء المستعمل في رفع الحدث عليه ، فانّهم كما مرّ كانوا يغتسلون حول الأحواض ، وبذلك يصير ماؤها مستعملاً في رفع الحدث وهو لا يكفي في رفع الحدث ثانياً .

   ويندفع ذلك بأن مقتضى غير واحد من الأخبار عدم انفعال ماء الحياض لاتصاله بالخزانة وهي كالمادّة الأصلية له، كما أن الاغتسال لا يقع في نفس الحياض. والقطرات المنتضحة فيها تستهلك في مائها لقلتها ولا يصدق الماء المستعمل على ماء الحياض ولا يصح أن يقال إنه ماء استعمل في رفع الحدث ، ولا يلتزم القائل بالمنع بعدم جواز رفع الحدث بأمثال ذلك من المياه التي تنتضح فيها قطرات الماء المستعمل في الجنابة كيف وقد ورد في غير واحد من الأخبار عدم البأس بما ينتضح من قطرات ماء الغسل في الإناء (1) .

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ففي صحيحة الفضيل قال: «سئل أبو عبدالله (عليه السلام) عن الجنب يغتسل فينتضح من    الأرض في الإناء ؟ فقال: لا بأس هذا ممّا قال الله تعـالى : (ما جعل عليكم في الدّين من حرج ).

         وفي موثقة سماعة «فما انتضح من مائه في إنائه بعد ما صنع ما وصفت لك فلا بأس» ونظيرهما صحيحة شهاب بن عبد ربّه وغيرهما من الأخبار المروية في الوسائل 1 : 211 / أبواب الماء المضاف ب 9 ح 1 ، 4 ، 6 .

ــ[294]ــ

   أضف إلى ذلك كلّه أن ماء الحياض الصغار هو بعينه ماء الخزانة التي يعبّر عنها بالمادّة وهو متصل بها، فلا يصح أن يطلق عليه ماء آخر بمعنى غير ماء الخزانة، فارادة ماء الحياض أيضاً غير ممكنة ، وإن أصرّ شيخنا الهمداني (قدس سره) على تعينه (1) . فاذا سقط احتمال إرادة القسمين المتقدمين يتعين أن يراد به المياه المجتمعة من الغسالة فهو الذي نهى (عليه السلام) عن الاغتسال فيه بقوله : «ولا تغتسل من ماء آخر» .

   ويدل على ذلك ـ مضافاً إلى بطلان إرادة القسمين المتقدمين ـ عدة روايات :

   منها : ما عن حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأوّل (عليه السلام) قال : «سألته أو سأله غيري عن الحمّام ؟ قال : اُدخله بمئزر ، وغض بصرك ، ولا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمّام ، فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب ، وولد الزنا ، والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرّهم» (2) .

   ومنها : موثقة ابن أبي يعفور ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «وإياك أن تغتسل من غسالة الحمام ففيها تجتمع غسالة اليهودي ...» وروايته عنه (عليه السلام) قال : «لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها غسالة الحمّام ، فان فيها غسالة ولد الزنا...»(3) . ومنها غير ذلك من الأخبار الواردة بمضمون صحيحة محمد بن مسلم الصريحة في النهي عن الغسل في غسالة الحمام ويظهر منها على كثرتها أن الاغتسال من مجتمع الغسالة كان أمراً متعارفاً ومرسوماً في تلك الأزمنة ، وإن ذكر شيخنا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ مصباح الفقيه (الطهارة) : 68 .

(2) الوسائل 1 : 218 / أبواب الماء المضاف ب 11 ح 1 .

(3) الوسائل 1 : 220 / أبواب الماء المضاف ب 11 ح 5 ، 4 .

ــ[295]ــ

الهمداني (قدس سره) عدم معهودية الاغتسال من غسالة الحمّام (1) . فالمتحصل إلى هنا أن النهي في الصحيحة المتقدمة إنما تعلق على الاغتسال من ماء الغسالة .

   ثم إن هذا النهي تنزيهي لا محالة إذ الغسالة معرض لاحتمال وجود النجاسة ، وذلك لأن الغسالة وإن ذهب جماعة إلى نجاستها بدعوى أن الظاهر مقدم فيها على الأصل كما قدمه الشارع على أصالة الطهارة في البلل المشتبه الخارج بعد البول ، وقد أفتى بها جماعة منهم العلاّمة (قدس سره) في القواعد (2) على ما ببالي إلاّ أن التحقيق طهارتها وذلك لدلالة غير واحد من الأخبار .

   منها : صحيحة محمد بن مسلم ، قال : «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) الحمام يغتسل فيه الجنب وغيره ، أغتسل من مائه ؟ قال : نعم ، لا بأس أن يغتسل منه الجنب ، ولقد اغتسلت فيه ثم جئت فغسلت رجلي وما غسلتهما إلاّ بما لزق بهما من التراب» (3) إذ لو كانت الغسالة نجسة لم تكن رجله (عليه السلام) محكومة بالطهارة لبعد عدم ملاقاتها للغسالة النجسة الموجودة في الحمام فهي تدل على طهارة الغسالة ما دام لم يعلم نجاستها وإنما منع (عليه السلام) عن الاغتسال فيها في الصحيحة المتقدمة تنزيهاً فان الغسالة مورد لاحتمال النجاسة .

   وتوهم : أن المنع من الاغتسال فيها مستند إلى كونها ماء مستعملاً في رفع الحدث الأكبر .

   مندفع : بأن الغسالة تجتمع من مجموع المياه المستعملة في الحمام كالمستعمل في إزالة الأوساخ وفي تطهير الثياب ، كما كان هو المتداول إلى قرب عصرنا في الحمامات ، ومن الظاهر أن المستعمل في رفع الجنابة يندك في ضمنها ويستهلك فيها فلا يصدق عليها أنها ماء مستعمل في رفع الحدث .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الفقيه (الطهارة) : 68 السطر 24 .

(2) القواعد 1 : 186 .

(3) الوسائل 1 : 211 / أبواب الماء المضاف ب 9 ح 3 .

ــ[296]ــ

   والذي يدل على ما ذكرناه ـ من استناد المنع إلى احتمال النجاسة لا إلى أن الماء مستعمل في رفع الحدث ـ أن الإمام (عليه السلام) لم يفرض في الرواية اغتسال الجنب في الحمام بل استثنى صورة وجود الجنب فيه أو احتماله وإن لم يغتسل أصلاً ، كما إذا أراد تنظيف بدنه عن الأوساخ من دون أن يغتسل من الجنابة ، فمن ذلك يظهر أن المنع مستند إلى احتمال النجاسة لعدم خلو بدن الجنب عن النجاسة غالباً ، وهي توجب نجاسة الغسالة لا محالة .

   ومن جملة الأخبار ما دلّ على التفصيل في انفعال الماء باغتسال الجنب بين الكثير والقليل كما في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبدالله (عليه السلام) «وسئل عن الماء تبول فيه الدواب ، وتلغ فيه الكلاب ، ويغتسل فيه الجنب ؟ قال : إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء» (1) . ولا اشكال في سندها كما أن دلالتها على عدم ارتفاع الحدث بالماء القليل المستعمل في غسل الجنابة ظاهرة ، ولكنه لا دلالة فيها على أن الماء المستعمل في غسل الجنابة بما هو لا يكفي في رفع الحدث به ثانياً ، حيث إنها إنما دلت على عدم كفايته من أجل انفعال الماء ، وهو لا يكون إلاّ مع فرض تنجس بدن الجنب حينما يريد أن يغتسل للجنابة كما هو الغالب فينفعل الماء القليل بملاقاة بدن الجنب ومن هنا فصّل (عليه السلام) بين الكر والقليل وعلله بأن الكر لا ينجسه شيء ، أي بخلاف القليل فانّه ينفعل بملاقاة النجس أعني بدن الجنب .

   أو أنه لأجل ما ذهب إليه بعض العامة من تنجس الماء باغتسال الجنب فيه ، فأراد سلام الله عليه بيان أن الكر لا ينفعل بشيء من ملاقاة النجاسة أو غتسال الجنب فيه وعلى كل حال فلا دلالة فيها على أن الماء القليل إذا استعمل في غسل الجنابة لا يرتفع به الحدث ثانياً ، مع فرض أنه طاهر غير متنجس .

   ومن جملتها صحيحة ابن مسكان ، قال : «حدثني صاحب لي ثقة أنه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ، فيريد أن يغتسل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 158 / أبواب الماء المطلق ب 9 ح 1 .

ــ[297]ــ

وليس معه إناء والماء في وهدة فان هو اغتسل رجع غسله في الماء كيف يصنع ؟ قال : ينضح بكفّ بين يديه ، وكفّاً من خلفه وكفّاً عن يمينه وكفّاً عن شماله ، ثم يغتسل» (1) وبهذا المضمون رواية اُخرى مروية عن جامع البزنطي (2) فليراجع .

   وتقريب الاستدلال بهما أن السائل إنما سأله (عليه السلام) عن كيفية الغسل في مفروض المسألة ، لما ارتكز في ذهنه من عدم صحة رفع الجنابة بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر ، وإلاّ لم يكن وجه لسؤاله ، وهو (عليه السلام) قد أقرّ السائل على هذا الارتكاز حيث لم يردعه عنه وصار بصدد العلاج وبيان طريق يمنع عن رجوع الماء المستعمل إلى مركزه ، فالروايتان تدلاّن بالتقرير على عدم ارتفاع الحدث بالماء المستعمل في غسل الجنابة .

   وفيه أن الاستدلال بالروايتين يتوقف على إثبات اُمور :

   الأوّل : أن المراد بالاغتسال فيهما هو الغسل عن الجنابة دون الاغتسال العرفي بمعنى إزالة الأوساخ ولا الاغسال المستحبة شرعاً .

   الثاني : أن السائل قد ارتكز في ذهنه عدم جواز رفع الحدث بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر .

   الثالث : أن الإمام (عليه السلام) أقرّ السائل على ما ارتكز في ذهنه ولم يردعه عنه .

   وجميع ذلك غير مسلم . ونحن لو سلمنا ثبوت الأمرين الأوّلين ـ  بدعوى أن ظاهر الاغتسال هو الاغتسال المعدود من وظائف المسلمين دون غيره ، وأنه لو لم يرتكز في ذهنه عدم جواز رفع الحدث بالماء المستعمل في غسل الجنابة لم يكن وجه لسؤاله  ـ لم نتمكن من المساعدة على ثبوت الأمر الثالث بوجه لأنه (عليه السلام) لم يقر السائل على ارتكازه ولا أنه تصدى لبيان العلاج ، وذلك لوضوح أن نضح الماء إلى الجوانب المذكورة في الروايتين لو لم يكن معداً لسرعة جريان الغسالة ورجوعها إلى مركز الماء ، فعلى الأقل لا يكون مانعاً عن رجوعها ، فان الأرض إذا كانت رطبة تقتضي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ، (2) المرويتان في الوسائل 1 : 217 / أبواب الماء المضاف ب 10 ح 2 .

ــ[298]ــ

ذلك سرعة جريان الماء عليها إلاّ في بعض الأراضي كما إذا كانت رخوة ، إلاّ أن كون النضح في بعض الموارد النادرة كذلك لا يصحح الإطلاق في جواب الإمام (عليه السلام) مع كثرة الأراضي الصلبة ، والنضح والرشح فيها يوجبان سرعة رجوع الغسالة كما عرفت .

   فما أفاده (عليه السلام) لم يكن تعليماً لطريق يمنع رجوع الغسالة إلى الماء ، بل لو كان (عليه السلام) بهذا الصدد لم يكن محتاجاً إلى الأمر بالنضح أصلاً ، فانّه في مندوحة من ذلك بأمره بأن يجعل الرمل أو التراب بين موضع غسله ومركز الماء . أو بأمره بالاكتفاء بأقل ما يجتزأ به في الغسل ، وهو صبّ الماء على بدنه قليلاً وإيصاله إلى جميع أطرافه بالمسح من دون أن تجري غسالته على الماء .

   فمن هذا كلّه يظهر أنه (عليه السلام) لم يكن بصدد العلاج ، وإنما أمر بالنضح لأن ترتفع الكراهة به ، أو لأن لا يتقذر الماء عرفاً ، وقد ورد الأمر بالنضح في الوضوء أيضاً ، ولعلّه من أحد آداب الوضوء والغسل بالماء القليل . وعليه فلا دلالة في الرواية على التقرير ، بل تدل على ردع السائل عن ارتكازه ، وكأنه (عليه السلام) نبّه على أن رجوع الغسالة إلى الماء لا يمنع عن الاغتسال به ، نعم ، يستحب مراعاة النضح وغيره من الآداب المستحبة في الوضوء والغسل .

   ويؤكد ما ذكرناه بل تدل عليه صريحاً صحيحة علي بن جعفر عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: «سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع أيغتسل منه للجنابة أو يتوضأ منه للصلاة ؟ إذا كان لا يجد غيره والماء لا يبلغ صاعاً للجنابة ولا مداً للوضوء وهو متفرق فكيف يصنع ، وهو يتخوف أن تكون السباع قد شربت منه ؟ فقال : إن كانت يده نظيفة فليأخذ كفّاً من الماء بيد واحدة فلينضحه خلفه ، وكفّاً أمامه وكفّاً عن يمينه وكفّاً عن شماله ، فإن خشي أن لا  يكفيه غسل رأسه ثلاث مرات ، ثم مسح جلده بيده ، فان ذلك يجزيه ، وإن كان الوضوء غسل وجهه ، ومسح يده على ذراعيه ، ورأسه ورجليه وإن كان الماء متفرقاً فقدر أن يجمعه وإلاّ اغتسل من هذا ومن هذا ، وإن كان في مكان واحد وهو قليل لا يكفيه لغسله فلا عليه أن يغتسل

ــ[299]ــ

ويرجع الماء فيه فان ذلك يجزيه» (1) .

   والوجه في دلالتها قوله (عليه السلام) «فلا عليه أن يغتسل ويرجع الماء فيه ...» فانّه صريح في جواز رجوع الغسالة إلى الماء وجواز رفع الحدث ثانياً بالماء المستعمل في غسل الجنابة .

   هذا وقد يبدو للنظر شبه مناقضة في الحديث ، حيث إنه (عليه السلام) فرض الماء قليلاً لا يكفيه لغسله ثم ذكر أنه لا عليه أن يغتسل ويرجع الماء فيه .

   ويدفعه : أن المراد من عدم كفاية الماء لغسله هو عدم كفايته للغسل المتعارف وهو صبّ الماء على البدن واستيعابه لتمام البدن بنفسه ، والمراد بالاغتسال في قوله «لا  عليه أن يغتسل ...» وهو الاغتسال على نحو آخر بأن يصب الماء على بدنه قليلاً ويوصله إلى تمام بدنه بالمسح (2) .

   وقد يقال باختصاص الصحيحة بصورة الإضطرار ، لقول السائل في صدرها «إذا كان لا يجد غيره» وعليه فلا يجوز الاغتسال بالماء المستعمل في رفع الحدث في غير صورة الاضطرار ووجدان ماء آخر غيره .

   ويندفع ذلك أوّلاً : بأن الصحيحة إن اختصت بصورة الاضطرار فصحيحة ابن مسكان المتقدمة أيضاً تختص بها ، وهي التي عارضناها بصحيحة علي بن جعفر المتقدمة ، والوجه في ذلك : أن المفروض في تلك الصحيحة عدم تمكن الرجل من الاغتسال بماء آخر ولا من ذلك الماء بوجه ، وليس معه إناء ليأخذ به الماء ويغتسل في مكان بعيد كي لا ترجع غسالته إلى مركز الماء ، فهو مضطر من الاغتسال بالماء في موضع قريب ترجع غسالته إليه فهما متعارضتان وواردتان في صورة الاضطرار ، وقد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 216 / أبواب الماء المضاف ب 10 ح 1 .

(2) كما انّه لا تنافي بين قوله (عليه السلام) : فان خشي أن لا يكفيه ، وقوله غسل رأسه ثلاث مرات ، لأن المراد من خوف عدم كفايته هو خوف عدم كفايته مشتملاً على بقية مندوبات الغسل أعني غسل رأسه ثلاثاً وبدنه مرتين ، ومعناه أ نّه إذا خشي عدم كفاية الماء لذلك فيكتفي بغسل رأسه ثلاثاً فلا يغسل بدنه مرتين .

ــ[300]ــ

وأمّا المستعمل في الاستنجاء (1)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دلت إحداهما على الجواز كما دلت الاُخرى على المنع .

   وثانياً : أن فرض ورود الصحيحة في مورد الاضطرار بمعنى عدم وجدان ماء آخر في البين لا يكون فارقاً فيما نحن بصدده ، لأن الفارق إنما هو تمكن المكلف من الاغتسال بالماء وعدمه ، دون وجود ماء آخر وعدمه ، وقد فرضنا تمكنه من الاغتسال بالماء على نحو لا ترجع غسالته إلى مركز الماء ، بأن يصب الماء على بدنه ويوصله إلى جميع أطرافه بالمسح ، ومع تمكنه من الغسل بهذه الكيفية لو كان رجوع الغسالة إلى مركز الماء مخلاً بصحة غسله فكيف رخّص (عليه السلام) في اغتساله منه؟ لاستلزامه رجوع الغسالة إلى الماء، هذا كلّه في جواز الغسل ثانياً بالماء المستعمل في غسل الجنابة وقد عرفت طهارته وجواز استعماله في كل ما يشترط فيه الطهارة من شربه والتوضؤ والاغتسال به وغيرها .

   وأمّا القطرات المنتضحة في الاناء حين الاغتسال فهي غير مانعة عن الغسل من ماء الاناء حتى على القول بعدم جواز رفع الحدث بالماء المستعمل في غسل الجنابة . والوجه في ذلك : أن القطرات الناضحة لقلتها تندك في ماء الاناء وتستهلك فيه ، فلا تجعله من الماء المستعمل في رفع الحدث . على أن المسألة منصوصة ، وقد ورد في غير واحد من الأخبار عدم البأس بذلك منها : صحيحة الفضيل قال : سئل أبو عبدالله (عليه السلام) عن الجنب يغتسل فينتضح من لأرض في الاناء ؟ فقال : لا بأس ، هذا ممّا قال الله تعالى : (ما جعل عليكم في الدّين من حرج ) (1) .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net