نسيان الركعة الأخيرة والتذكّر بعد التسليم وفعل المنافي المبطل مطلقاً 

الكتاب : المستند في شرح العروة الوثقى-الجزء الثامن:الصلاة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 5872


   وأمّا الصورة الرابعة :  فالمشهور فيها هو البطلان ، خلافاً للصدوق في المقنع فحكم بالصحّة وأ نّه يأتي بالفائت متى تذكّر ولو بلغ الصـين كما في الخبر (2) للنصوص الدالّة عليه كما ستعرف . وببالي أنّ بعض المتأخّرين استجود هذا القول قائلاً : إنّ النصوص الدالّة عليه كثيرة صحيحة السند قويّة الدلالة . وإعراض المشهور لا يسقطها عن الحجّية، وليس البطلان لدى الإتيان بالمنافيات حكماً عقلياً غير قابل للتخصيص ، فليلتزم بالصحّة في خصوص المقام بعد مساعدة الدليل . وكيف ما كان ، فلا بدّ من النظر إلى الروايات الواردة في المقام وهي على طائفتين ، وكثيرة من الطرفين . ولنقدّم الروايات الدالّة على الصحّة .

   فمنها صحيحة عبيد بن زرارة : «عن رجل صلّى ركعة من الغداة ثمّ انصرف وخرج في حوائجه ثمّ ذكر أ نّه صلّى ركعة ، قال : فليتمّ ما بقي» (3) .

   ومعتبرته «عن الرجل يصلّي الغداة ركعة ويتشهّد ثمّ ينصرف ويذهب ويجيء ثمّ يذكر بعد أ نّه إنّما صلّى ركعة ، قال : يضيف إليها ركعة» (4) ، فانّ الخروج إلى الحوائج كما في الاُولى ، ولا سيّما الذهاب والمجيء كما في الثانية الملازم للحركة نحو نقطتين متقابلتين يستلزم الاستدبار لا محالة .

ــــــــــــ
(2) [ هذا ما حكاه عنه العلاّمة في المختلف 2 : 396 والشهيد في الذكرى 4 : 34 ، لكن الموجود في المقنع : 105 ما لفظه : وإن صليت ركعتين ثمّ قمت فذهبت في حاجة لك فأعد الصلاة ولا تبن على ركعتين ] .

(3) الوسائل 8 : 210 /  أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 6 ح 3 .

(4) الوسائل 8 : 210 /  أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 6 ح 4 .

ــ[79]ــ

   ومنها :  صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : «سئل عن رجل دخل مع الإمام في صلاته وقد سبقه بركعة ، فلما فرغ الإمام خرج مع الناس ، ثمّ ذكر بعد ذلك أ نّه فاتته ركعة ، فقال : يعيدها ركعة واحدة» (1) ورواها في الحـدائق عن الشيخ عن أحـدهما (عليهما السلام) مع زيادة قوله (عليه السلام) : «يجوز له ذلك إذا لم يحوّل وجهه عن القبلة ، فاذا حوّل وجهه عن القبلة فعليه أن يستقبل الصلاة استقبالاً» (2) .

   قال صاحب الوسائل بعد نقل الرواية من دون الزيادة : أقول : حمله الشيخ والصدوق وغيرهما على من لم يستدبر القبلة ، لما مضى ويأتي . وقد استظهر بعضهم من عبارة الوسائل هذه أنّ تلك الزيادة من كلام الشيخ ، وأ نّها بيان منه (قدس سره) لمحمل الرواية، وأنّ صاحب الحدائق غفل وتوهّم أ نّها من متمّماتها .

   أقول :  الاستظهار المزبور في غير محلّه ، وليست تلك الزيادة من كلام الشيخ وإلاّ لأوعز إليها بذكر الفاصل مثل كلمة (أقول) أو (قلت) ونحو ذلك كما هو دأبه وديدنه عند ذكر المحامل ، إذ ليس دأبه دأب الصدوق الجاري على ضمّ كلامه بالرواية والخلط بينهما .

   والحقيقة أنّ الرواية المشتملة على تلك الزيادة رواية اُخرى مرويّة بطريق آخر ، قد ذكرها في الوسائل(3) ، وهي من أدلّة القول المشهور ، ومعارضة لهذه الرواية ، نعم هي ضعيفة السّند فلا تنهض لمقاومة الصحيحة .

   وبالجملة : أنّ للشيخ روايتين مرويتين بطريقين ، في أحدهما ضعف ، وقد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 8 : 202 /  أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 3 ح 12 .

(2) الحدائق 9 : 129 .

(3) الوسائل 8 : 209 /  أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 6 ح 2 .

ــ[80]ــ

اشتملت إحداهما على الزيادة المزبورة دون الاُخرى ، ذكرهما في التهذيب (1) وأشار إليهما في الوسائل والحدائق . وعندما تعرّض الشيخ للرواية الخالية عن الزيادة حملها على من لم يستدبر القبلة كما نقله عنه في الوسائل ، وليست تلك الزيادة من كلام الشيخ كما توهّمه المستظهر . وكيف ما كان ، فهذا الحمل الذي ذكره الشيخ (قدس سره) للصحـيحة بعيد جدّاً ، فانّ الخروج مع الناس عن المسجد ملازم للاستدبار عادة ، إلاّ أن يفرض أنّ باب المسجد على جهة القبلة ويرجع القهقرى ، لكنّه فرض نادر كما لا يخفى .

   ومنها : صحيحة زرارة «عن رجل صلّى بالكوفة ركعتين ثمّ ذكر وهو بمكّة أو بالمدينـة أو بالبصرة أو ببـلدة من البلـدان أ نّه صلّى ركعتين ، قال : يصلِّي ركعتين» (2) .

   وموثّقة عمّار في حديث «والرجل يذكر بعدما قام وتكلّم ومضى في حوائجه أ نّه إنّما صلّى ركعتين في الظهر والعصر والعتمة والمغرب ، قال : يبني على صلاته فيتمّها ولو بلغ الصين ، ولا يعيد الصلاة» (3) . وهما صريحتان في المطلوب .

   وبازاء هذه الأخبار روايات اُخرى كثيرة أيضاً فيها الصحيح والموثّق قد دلّت على البطلان :

 فمنها :  صحيحة جميل «عن رجل صلّى ركعتين ثمّ قام ، قال : يستقبل ، قلت : فما يروي الناس ، فذكر حديث ذي الشـمالين ، فقال : إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يبرح من مكانه ، ولو برح استقبل»(4) . ونحوها موثّقة أبي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) التهذيب 2 : 184 / 732 ، 346 / 1436 .

(2) الوسائل 8 : 204 /  أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 3 ح 19 .

(3) الوسائل 8 : 204 /  أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 3 ح 20 .

(4) الوسائل 8 : 200 /  أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 3 ح 7 .

 
 

ــ[81]ــ

بصير (1) وسماعة (2) .

   ولا يقدح اشتمال هذه الروايات على حكاية سهو النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ـ المنافي لاُصول المذهب ـ في صحّة الاستدلال بها ، فانّ الإمام (عليه السلام) لم يصدّق السائل ولم يقرّره في تلك الحكاية كما يشعر به جوابه بما يشتمل على كلمة «لو» في قوله : «ولو برح ... » التي هي للامتناع ، غايته أ نّه (عليه السلام) لم يكذّبه فيما زعمه ، فلتكن محمولة على التقية من هذه الجهة . وأمّا بيان الحكم الكلّي وهو أنّ المصلّي لو برح استقبل الذي هو مناط الاستدلال فهو حكم واقعي، ولا تقيّة فيه وإن كان التطبيق على المورد بعدم التكذيب مبنيّاً عليها كما عرفت .

   ومن المعلوم أ نّه ليس المراد من قوله (عليه السلام) : «لو برح ... » الحركة اليسيرة ومجرّد الانتقال ، إذ هو لا ضير فيه حتّى اختياراً وفي الأثناء بلا إشكال غايته أ نّه يكفّ عن القراءة عندئذ ، بل المراد الحركة المستتبعة لارتكاب المنافي من الاستدبار ونحوه كما لا يخفى . فتدلّ هذه الروايات بوضوح على البطلان لو كان التذكّر بعد الإتيان بشيء من المنافيات عمداً وسهواً .

   ومنها :  صحيحة الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال «قلت : أجيء إلى الإمام وقد سبقني بركعة في الفجر فلمّا سلّم وقع في قلبي أنّي قد أتممت ، فلم أزل ذاكراً لله حتّى طلعت الشمس ، فلمّا طلعت نهضت فذكرت أنّ الإمام كان قد سبقني بركعة ، قال : فان كنت في مقامك فأتمّ بركعة ، وإن كنت قد انصرفت فعليك الإعادة» (3) ، فانّ الانصراف ملازم للاستدبار عادة .

   وهذه الأخبار كما ترى تعارض الطائفة الاُولى معارضة واضحة ، ولا سبيل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ، (2) الوسائل 8 : 201 /  أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 3 ح 10 ، 11 .

(3) الوسائل 8 : 209 /  أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 6 ح 1 .

ــ[82]ــ

إلى التوفيق بينهما بوجه ، لصراحة هذه في البطلان كصراحة تلك في الصحّة . والسند قوي من الطرفين كالدلالة ، كما لا سبيل إلى الحمل على التقية ، لاتفاق العامّة أيضاً على البطلان (1) كما قيل كالخاصّة .

   فما قيل في وجه الجمع من الحمل على الاستحباب ، أو على النافلة ، أو على من لم يستدبر ، أو لم يستيقن الترك ، أو التقية كما استجود الأخير في الحدائق (2) بناءً على ما أصّله في مقدّمات كتابه من عدم اشتراط الموافقة للعامة في الحمل على التقية (3) كلّ ذلك ساقط لا يمكن المصير إليه ، لعدم كونه من الجمع العرفي في شيء ، والجمـع التبرّعي المبني على ضرب من التأويل الذي كان يسلكه الشيخ (قدس سره) لا نقول به ، كمبنى الحدائق في التقية . إذن لا مناص من الالتزام باستقرار المعارضة .

   وحينئذ فان أمكن إعمال قواعد الترجيح ، وإلاّ فمقتضى القاعدة التساقط . ولا شكّ أنّ ما دلّ على البطلان مطابق لفتوى المشهور، بل لم ينقل القول بالصحّة إلاّ عن الصدوق في المقنع كما مرّ. فما دلّ على الصحّة معرض عنه عند الأصحاب فان كفى ذلك في الترجيح على ما يراه القوم ، أو قلنا بأنّ ما دلّ على البطلان يعدّ من الروايات المشهورة المجمع عليها بين الأصحاب وما بازائها من الشاذ النادر قدّمت تلك الأخبار، وإلاّ فيتساقطان ، فيرجع حينئذ إلى عمومات أدلّة القواطع من الحدث والاستدبار ونحوهما التي نتيجتها البطلان أيضاً ، لعدم إمكان تدارك الفائت بعد حصول المبطل . فالمتعيّن ما عليه المشهور .

   بقي الكلام في رواية واحدة ممّا استدلّ به على الصحّة ، وهي رواية علي بن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ المجموع 4 : 115 ، المغني 1 : 700 ـ 701 .

(2) الحدائق 9 : 130 .

(3) الحدائق 1 : 5 .

ــ[83]ــ

النعمان الرازي قال : «كنت مع أصحاب لي في سفر وأنا إمامهم ، فصلّيت بهم المغرب فسلّمت في الركعتين الأولتين ، فقال أصحابي : إنّما صلّيت بنا ركعتين فكلّمتهم وكلّموني ، فقالوا : أمّا نحن فنعيد ، فقلت : لكنّي لا اُعيد ، واُتمّ بركعة فاتممت بركعة ، ثمّ صرنا فأتيت أبا عبدالله (عليه السلام) فذكرت له الذي كان من أمرنا ، فقال لي : أنت كنت أصوب منهم فعلاً ، إنّما يعيد من لا يدري كم صلّى» (1) .

   ولكنّها ضعيفة سـنداً ودلالة . أمّا بحسب الدلالة فلأنّ الظاهر عدم القول بمضمونها من أحد حتّى الصدوق القائل بالصحّة ، فانّه على الظاهر إنّما يلتزم بها فيما إذا لم يرتكب المنافي بعد التذكر وأنّ الذي يعذر فيه خصوص المنافيات الصادرة قبل حال الالتفات ، أمّا بعده فتجب عليه المبادرة إلى التتميم فوراً قبل أن يرتكب ما ينافي عمداً كالتكلّم ، أو حتّى سهواً كالحدث والاستدبار .

   والرواية كما ترى صريحة في الارتكاب بعد الالتفات ، وأ نّه كلّم القوم وكلّموه وتدارك النقص بعد الكلام العمدي . ولا قائل بالصحّة حينئذ كما عرفت .

   وأمّا بحسـب السند فالظاهر أنّ الرواية ضـعيفة وإن وصفها في الحـدائق بالصحّة(2) ، فانّ علي بن النعمان الرازي مجهول ، والذي ثبتت وثاقته هو علي بن النعمان الأعلم النخعي ، الذي هو من أصحاب الرضا (عليه السلام) وهو غير الرازي، فانّه كان من أصحاب الصادق (عليه السلام) كما تشهد به نفس الرواية .

   ويظهر منها أيضاً أ نّه كان في زمن الصادق (عليه السلام) رجلاً يؤمّ القوم لاستبعاد إمامة المميّز أو من هو في أوائل البلوغ ، فكيف يحتمل عادة بقاء من هو كذلك إلى زمان الرضا (عليه السلام) ؟

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 8 : 199 / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 3 ح 3 .

(2) الحدائق 9 : 125 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net