ثالثاً : نيّة القربة 

الكتاب : المستند في شرح العروة الوثقى-الجزء 12:الصوم   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 4050


ــ[343]ــ

   الثالث : نيّة القربة كما في غيره من العبادات (1) ، والتعيين إذا تعدّد ولو إجمالا (2) ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

   (1) للإجماع والتسالم على عباديّته ، بل هي من مرتكزات المتشرّعة ، ويدلّنا عليه قبل ذلك قوله تعالى : (أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَا لْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(1) ، فإن أمر الله تعالى نبيّه بتطهير البيت لا يكون إلاّ لأن يتعبّد فيه من طواف واعتكاف وركوع وسجود ، لا لمجرّد اللبث والمكث ولو لغير العبادة من سكنى أو بيتوتة أو بيع ونحو ذلك ، فالآية بنفسها ظاهرة الدلالة بمقتضى مناسبة الحكم والموضوع في العباديّة واعتبار قصد التقرّب من غير حاجة إلى التشبّث بالإجماع والارتكاز وإن كانا حاصلّىن أيضاً كما عرفت .

   (2) تقدّم في مطاوي بعض الأبحاث السابقة أنّ اشتغال الذمّة بعملين أو أكثر مشاركين في الصورة ومسانخين في الظاهر ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

   فتارةً : لا يترتّب أثر على شيء منهما بخصوصه ولم يكن بينهما أىّ امتياز حتّى واقعاً ما عدا الإثنينيّة . وهذا كمن فات عنه يومان أو أيّام من شهر رمضان ، أو صلاتان من صلاة الآيات ، ونظيره في الماليّات من كان مديناً لزيد بدرهم ، ثمّ صار مديناً له بدرهم آخر ، فإنّ الذمّة في هذه الفروض مشغولة بمجرّد صوم يومين أو قضاء صلاتين، أو أداء درهمين من غير خصوصيّة للسابق ولا للاّحق ، إذ لا يلزمه قصد خصـوصيّة ما فاته أو استدانه أوّلا أو ثانياً بالضرورة ، ففي مثل ذلك لا يجب عليه قصد التعيين لدى التصدّي للقضاء أو الوفاء ، فإنّه فرع التعيّن ، والمفروض أ نّه لا تعيّن في البين حتّى واقعاً ، ولا امتياز

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البقرة 2 : 125 .

ــ[344]ــ

لأحدهما حتّى في علم الله ، فلو أتى بواحد منهما برئت ذمّته عن واحد لا بعينه وبقيت مشغولة بواحد آخر مثله إلى أن يتحقّق امتثاله خارجاً ، وهذا ظاهر .

   واُخرى : يترتّب الأثر على أحدهما بالخصوص دون الآخر ، وهذا كمن كان عليه صوم يومين قضاء أحدهما من رمضان هذه السنة ، والآخر من السنة الماضية ، فإنّ الأوّل يختصّ بأثر ـ وهو تعلّق الكفّارة لو حال الحول ولم يقضه ـ بخلاف الثاني ، فهما يشتركان في وجوب القضاء ، ويمتاز أحدهما بالفداء ، وحينئذ لابدّ في سقوط الكفّارة من تعلّق القصد بما له الأثر بخصوصه ، فلو صام قضاء وأطلق النيّة فلم يقيّد بهذه السنة وقع قضاء عن السنة الماضية التي هي أخفّ مؤونةً ، لأنّ وقوعه عن هذه السنة يحتاج إلى عناية خاصّة وقصد لها بالخصوص ، والمفروض عدم مراعاتها ، فبطبيعة الحال يقع عمّا لا عناية فيه ، فتستقرّ الكفّارة عليه لو بقي كذلك إلى حلول السنة الجديدة .

   وثالثةً : يترتّب الأثر على كلّ منهما بالخصوص ويمتاز عن الآخر بعنوانه المخصوص ، وهذا كما في الأداء والقضاء ، والفريضة والنافلة ، ونحو ذلك ، فإنّ تفريغ الذمّة عن كلّ منهما يتوقّف على قصد عنوانه ، وإلاّ لم يقع امتثالا عن شيء منهما ، فلو صلّى في الوقت أربع ركعات من غير قصد الأداء والقضاء ولو إجمالا ، أو صلّى بعد الفجر ركعتين من غير قصد فريضة الفجر ولا نافلته لم يقع مصداقاً لشيء منهما ، لأنّ كلاًّ منهما متقوّم بعنوانه الخاصّ ، فلا مناص من قصده .

   وعلى ضوء هذه الكبرى الكلّيّة نقول في المقام :

   إنّ من عليه اعتكافان فتارةً : لا يكون بينهما امتياز ، لعدم ترتّب الأثر على شيء منهما ، كما لو نذر إن رزقه الله ولداً اعتكف ، ثمّ نذر إن شفي مريضه اعتكف ، فحصل الشرطان ووجب الاعتكافان ، فإنّه يصحّ الإتيان حينئذ بكلّ

ــ[345]ــ

ولا يعتبر فيه قصد الوجه كما في غيره من العبادات (1) ، وإن أراد أن ينوي الوجه ففي الواجب منه ينوي الوجوب وفي المندوب الندب ، ولا يقدح في ذلك كون اليوم الثالث الذي هو جزء منه واجباً لأنّه من أحكامه ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منهما بلا تعيين ، فلا حاجة منا إلى قصد التعيين .

   واُخرى : يترتّب الأثر على كلّ منهما ، كما لو كان أجيراً في الاعتكاف عن زيد ثمّ صار أجيراً فيه عن عمرو أيضاً ، فإنّ اللاّزم حينئذ قصد النيابة عن كلّ منها وتعيينه بالخصوص ، وإلاّ لم يقع عن شيء منهما .

   وثالثةً : يترتّب الأثر على أحدهما دون الآخر ، كما لو كان أجيراً عن زيد وعليه نذر أيضاً فوجب اعتكافان : أحدهما بالإجارة ، والآخر بالنذر ، فإنّ الأول يفتقر إلى القصد ، إذ ما لم يقصد النـيابة عن الغير لا يقع عنه فهو من العناوين القصديّة ، بخلاف الوقوع وفاءً عن نذره ، فإنّه يتحقّق وإن كان غافلا عن نذره ، لأنّ الأمر بالوفاء توصلّى فيتحقّق كيفما اتّفق ، فلو نذر أن يصلّى ليلة الجمعة صلاة الليل فصلّى تلك الليلة اتّفاقاً غافلا عن نذره فإنّه قد وفى ولم يحنث وإن لم يقصد عنوان الوفاء .

   هذا ، ولا ينبغي الشكّ في أنّ مراد الماتن حيث حكم بوجوب التعيين ليس هو القسم الأول ، لما عرفت من أ نّه لا تعيّن فيه ليحتاج إلى التعيين ، بل مراده (قدس سره) القسم الثاني أو الأعمّ منه وممّا بعده كما لا يخفى .

   (1) قد عرفت أنّ الاعتكاف مندوب في أصل الشرع ويعرضه الوجوب بالعنوان الثانوي الطارئ من نذر أو يمين أو شرط ونحو ذلك ، فهو إذن ينقسم إلى واجب ومستحبّ ، ولكن لا يجب قصد شيء من الخصوصيّتين ، لعدم الدليل على اعتبار قصد الوجه في شيء من العبادات كما تعرّضنا له في محلّه في الاُصول

ــ[346]ــ

في مبحث التعبّدي والتوصلّى(1) ، فلا يلزمه في المقام إلاّ الإتيان بداع قربى وعلى وجه العـبادة ، فإنّ الأمر الناشئ من العنوان الثانوي كالنذر ونحوه وإن كان توصلاىّ إلاّ أ نّه حيث تعلّق بما هو عبادة في نفسه فلا مناص من الإتيان به عباديّاً ، لأنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه ، فلابدّ من الإتيان به على وجهه كما ذكرنا نظير ذلك في بحث مقدّمة الواجب عند التكلّم حول ما إذا كانت المقدّمة عبادة كالطهارات الثلاث ، فإنّ الأمر الغيري أيضاً توصلّى كما في المقام ، وأشرنا هناك إلى أ نّه لا يلزم في تحقّق العبادة قصد الأمر الاستحبابي النفسي العبادي المتعلّق بالطهارات(2) ، كيف ؟! وهو مغفول عنه عند عامّة الناس كما لا يخفى ، بل يكفي فيه الإضافة إلى المولى نحو الإضافة الحاصلة بقصد امتثال الأمر الغيري وإن كان توصلاىّ ، فإنّ التوصلّية غير مانعة عن إمكان التقرّب بالضرورة ، فكما يمكن التقرّب بالأمر الندبي النفسي ، كذلك يمكن بالأمر الوجوبي الثابت بعنوان المقدّمة ، أو النذر أو الإجارة ونحو ذلك . وتمام الكلام في محلّه .

   وكيفما كان ، فلا يعتبر قصد الوجه .

   نعم ، لو أراد أن ينوي الوجه ففي الواجب منه ينوى الوجوب ، وفي المندوب الندب .

   وأمّا بالإضافة إلى اليوم الثالث فيأتي به بعنوان التكملة والتتميم لما شرع ، ولا يجب فيه قصد الوجوب وإن كان متّصفاً به ، لأنّ القائلين باعتبار قصد الوجه ـ وهم المتكلّمون وتبعهم بعض الفقهاء ـ إنّما يقولون به في العبادات المستقلّة ، لشبهة عرضت عليهم ، حاصلها : أنّ الحركات والسكنات الحاصلة في مثل الصلاة والصيام والاعتكاف ونحوها من سائر العبادات لا تتّصف في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في اُصول الفقه 2 : 181 وما يليها .

(2) محاضرات في اُصول الفقه 2 : 397 ـ 400 .

ــ[347]ــ

فهو نظير النافلة إذا قلنا بوجوبها بعد الشروع فيها ، ولكن الأولى ملاحظة ذلك حين الشروع فيه، بل تجديد نيّة الوجوب في اليوم الثالث ، ووقت النيّة قبل الفجر، وفي كفاية النيّة في أوّل الليل كما في صوم شهر رمضان(1) إشكال . نعم ، لو كان الشروع فيه في أوّل الليل أو في أثنائه نوى في ذلك الوقت .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نفسها بالعباديّة إلاّ بتوسـيط انطباق عنوان حسن عليها ، وحيث إنّ ذلك العنوان الواقعي الذي هو المناط في الاتّصاف بالحسن مجهول لدينا فلا مناص من قصد عنوان آخر به نشير إليه ، وليس هو إلاّ الوجوب أو الندب .

   وهذه الشبهة وإن كانت واهية تعرّضنا لدفعها في محلّها، إلاّ أ نّه يظهر منها أنّ مورد كلامهم إنّما هو العبادات المسـتقلّة المتأصّلة دون الضمنيّة التي هي من أجزاء العمل وتابعة للمركّب كما في المقام ، حيث إنّ الاعتكاف في مجموع الثلاثة أيّام عمل وحداني محكوم بالندب لدى الشروع ، وإن وجب التكميل بعد يومين فإنّه حكم ثانوي عارضي نظير وجوب الإتمام في الحجّ بعد الإحرام مع كون الشروع فيه مستحبّاً ، وكذا الحال في النافلة على القول بوجوب تكميلها بعد الشروع فيها ، ففي أمثال هذه الموارد لا يجب قصد الوجه قطعاً ، ولم يقل به أحد حتّى القائلين بالاعتبار فيجزئ الإتيان حينئذ بعنوان الإكمال والإتمام حسبما عرفت .

   (1) لا إشكال فيه قطعاً فيما إذا كانت النيّة ـ التي حقيقتها الداعي ـ باقية في اُفق النفس إلى طلوع الفجر ولو ارتكازاً وبصورتها الإجمالية التي لا تنافيها الغفلة الفعليّة بحيث لو سُئل عن سبب اللبث لم يحر في الجواب ، كمن يشرع في عمل كالصلاة أو الذهاب إلى داره ويتمّه جرياً على الارتكاز الكامن في النفس وإن ذهلت صورتها التفصيليّة ، لانشغال الذهن باُمور اُخر كما هو ظاهر ، بناءً

ــ[348]ــ

على تفسير النيّة بما عرفت .

   إنّما الاشكال فيما لو زالت النيّة عن صقع النفس بالكلّيّة ، أو عرضه النوم ولم يستيقظ إلاّ بعد طلوع الفجر .

   أمّا في الأوّل : فالظاهر البطلان ، للزوم مقارنة النيّة للعبادة ، والتقديم على خلاف الأصل لا يصار إليه إلاّ مع قيام الدليل كما في الصوم .

   وأمّا في الثاني : فلا يبعد الصحّة ، وأنّ النصوص الواردة في الصوم الدالّة على عدم قادحيّة النوم مطابقة لمقتضى القاعدة فيسري مفعولها إلى المقام . وذلك فلأجل أنّ من دخل المسجد ناوياً اللبث فيه من الفجر ثمّ نام عن هذه النيّة فذلك اللّبث مستند إليه ويعدّ فعلا اختياراً صادراً عن قدرته وإرادته وإن حصل حال النوم الذي لا شعور له آنذاك ، لوضوح أنّ المقدور بالواسطة مقدور بالقدرة على مقدّمته ، فمن ينام وهو يعلم بترتّب اللبث عليه فذلك اللبث فعل اختياري له . ومن هنا يعدّ من القتل العمدي فيما لو فعل باختياره فعلا يعلم بترتّب القتل عليه ، ولا دليل على اعتبار العباديّة في المقام بأزيد من هذا .

   وبالجملة : فاللبث في المسجد حال النوم مع سبق النيّة مثل الوقوف بعرفة حال النوم مع سبقها في صحّة الإسناد والاجتزاء في مقام الامتثال .

   ومنه تعرف أنّ النصّ الوارد في الصوم وأنّه لا يضرّه النوم مطابق لمقتضى القاعدة كما أشرنا إليه .

   نعم ، لو نام في بيته ثمّ حُمل إلى المسجد وبقي فيه نائماً إلى الفجر لم يكف وإن كان من نيّته الذهاب والمكث قبل أن ينام ، بل أنّ هذا أوضح إشكالا من الفرض الأوّل أعني : من غفل عن النيّة بالكلّيّة ـ لأنّ العبادة يعتبر فيها القصد والإرادة قبل اعتبار القربة ، فهي تتقوّم بقيدين أحدهما في طول الآخر ، ففي فرض الغفلة لم يكن المفقود عدا نيّة القربة مع صدور الفعل ـ أعني : اللّبث عن

ــ[349]ــ

   ولو نوى الوجوب في المندوب أو الندب في الواجب اشتباهاً لم يضرّ ، إلاّ إذا كان على وجه التقييد((1)) (1) ، لا الاشتباه في التطبيق .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الاختيار والإرادة ـ وأمّا هنا فلم يصدر منه أىّ فعل إرادي ، فقد انعدم ما هو أعظم شأناً ، إذ لم يستند الفعل إليه بوجه ، فهو كمن نام ثمّ حُمل إلى السفر حال النوم ، فكما لا يكون هذا السفر اختياريّاً له ومسـتنداً إليه ، فكذا اللّبث في المقام .

   هذا كلّه فيما لو كان الشروع في الاعتكاف من الفجر .

   وأمّا لو شرع فيه في أوّل الليل أو في أثنائه فوقت النيّة هو هذا الزمان ، وهو مبدأ الاعتكاف ، فلا يضرّه النوم بعدئذ قطعاً ، كالنوم الحاصل خلال الثلاثة وقد تحقّقت المقارنة حينئذ ، ولا شكّ في صحّة مثل هذا الاعتكاف ، لأ نّه لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام ، وأمّا الأكثر منه فلا بأس به ، سواء أكان الزائد بعد الثلاثة أم قبلها بدخول الليلة الاُولى أو مقدار منها كما سيجيء إن شاء الله تعالى(2) .

   وقد أشار الماتن إلى ذلك بقوله : نعم ، لو كان المشروع فيه . . . إلخ .

   (1) قد أشار في مطاوي هذا الشرح مراراً إلى أ نّه لا أثر للتقييد في أمثال المقام ، إذ مورده ما إذا كان هناك كلّي ذو حصص ليقبل التضييق والتقييد بحصّة دون اُخرى ، كما لو صلّى بعنوان الأداء ثمّ بان أ نّه قد صلاّها ، فإنّها لا تُحسب قضاءً لأ نّه قيّد الطبيعي بحصّة خاصّة فلا يقع عن غيرها إلاّ إذا كان ناوياً للأمر الفعلي واعتقد أ نّه الأداء ، فإنّها تحسب حينئذ عن القضاء ، ويكون من باب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مرّ أ نّه لا أثر للتقييد في أمثال المقام .

(2) في ص 354 ـ 356 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net