الاستدلال بوجوه من انّ وجوب الوفاء بالنذر مانعاً عن تعلّق الزكاة 

الكتاب : المستند في شرح العروة الوثقى-الجزء 13:الزكاة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 4670


   والوجه فيه : ما ذكرناه في محلّه (3) من أنّ التمليك وإن أمكن إبرازه بأيّ مبرز ولا تعتبر فيه صيغة خاصّة ، إلاّ أ نّه لا بدّ وأن يستند إلى سبب ويندرج تحت عنوان ، وليس النذر بنفسه من أسباب التمليك وعناوينه بالضرورة ، بل العنوان المتصوّر في المقام القابل للانطباق على التمليك المجّاني ليس إلاّ الهبة ، فإنّ الصدقة فردٌ من أفرادها لا يفترق عنها إلاّ باعتـبار قصد التقرّب ، فهي بالآخرة نوعٌ خاصٌّ من الهبة، فيجري عليها أحكامها : من اعتبار القبول، لكونها من العقود، ومن اعتبار القبض ، فما لم يتحقّق شيء منهما ـ كما هو المفروض ـ لم تتحقّق الهبة الشرعيّة ، فلم يتحـقّق السبب الناقل لتخرج العين المنذورة عن الملك حتى تسقط الزكاة .

ــــــــــــ
(3) في ص 29 ـ 30 .

ــ[42]ــ

   وعلى الجملة : لو صحّ نذر النتيجة فلا إشكال في قاطعيّته للحول ، إلاّ أ نّه لا يصحّ ، لعدم خروج التمليك المجّاني ـ صدقة ـ عن الهبة ، ويعتبر فيها القبول والقبض ، ولم يتحقّق شيء منهما على الفرض ، فكيف تدخل في ملك الفقراء ليمنع عن الزكاة ؟!

   وإن كان الثاني ـ أعني : نذر الفعل ، الذي هو الظاهر من كلام المحقّق(1) وغيره ممّن تعرّض للمسألة ـ نذراً مطلقاً غير معلّق على شرط ولا موقّت بوقت ، فلا إشكال في أ نّه بمجرّد النذر لا يخرج عن الملك ، غايته أ نّه يجب عليه أن يفي بنذره ، عملاً بعموم أدلّته .

   فهل يكون هذا الوجوب مانعاً عن تعلّق الزكاة ؟

   نُسِبَ إلى المشهور ذلك ، ويُستدَلّ له بوجوه :

   أحدها : ما ذكره في الجواهر من أنّ وجوب الوفاء بالنذر يوجب قصراً في الملك وعدم كونه تامّاً ، فلا تشمله أدلّة الزكاة (2) .

   وفيه ما لا يخفى ، بل لا نعقل معنىً صحيحاً لذلك ، ضرورة أنّ مجرّد الإلزام والوجوب التكليفي لا يستدعي قصوراً في الملك بوجه بعد ترتّب آثار الملك التامّ : من الانتقال إلى الوارث ، وضمان الغاصب ، ونحو ذلك .

   فوجوب الصرف في الصدقة ـ كوجوب الصرف في النفقة أو في نجاة شخص عن الهلكة ـ حكم تكليفي محض ، لا يترتّب على مخالفته سوى العصيان ، ولا يوجب أيّ نقصان في الملك .

   ولا مائز بين هذا الوجوب وبين الوجوب الناشئ من جهات اُخر ، كالشرط في ضمن العقد، فلو باعه مشروطاً بأن لا يبيعه أو لا يهبه من زيد ، لم يستوجب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الشرائع 1 : 167 .

(2) الجواهر 15 : 42 ـ 43 .

ــ[43]ــ

ذلك قصر المـلك بحيث لو خالف فباع أو وهب كان باطلاً ، بل غايته الإثم فقط .

   وعلى الجملة : فغاية ما يترتّب على النذر وجوب الفعل ، فإذا لم يفعل فقد عصى ، ولكن الملكيّة لا قصور فيها أبداً ، فلا موجب لانقطاع الحول بوجه .

   ثانيها : ما قد يقال من أنّ تعلّق النذر بشيء الموجب للوفاء به يمنع عن كلّ فعل يضادّه وينافيه من الأفعال التكوينيّة أو الاعتباريّة ، من بيع أو هبة ونحو ذلك ، فإنّها بأجمعها ممنوعة ، فهي غير مقدورة شرعاً ، فكانت كالممنوع عقلاً ، فيوجب ذلك بطلان البيع لا محالة ، لأنّ القدرة فيه على التسليم شرطٌ في صحّة المعاملة ، فلا جرم يكشف ذلك عن قصور في الملك ، نظير الوقف الذي ليس له التسلّط على رقبة المال ، لعدم تماميّة الملك ، فلأجله لا تتعلّق به الزكاة .

   ويندفع بما تعرّضنا له في بحث المكاسب عند التكلّم حول منذور التصدّق ، من أ نّه لم يدلّ أيّ دليل على اعتبار القدرة الشرعيّة على التسليم في صحّة البيع بحيث لايكون منافياً لواجب آخر، بل المعتبر إنّما هي القدرة الخارجيّة التكوينيّة فقط، نظراً إلى أنّ البيع ليس هو مجرّد الاعتبار النفسي المبرَز ، فإنّه وإن حصلت الملكيّة بمجرّد العقد إلاّ أنّ متمّمه في نظر العقلاء إنّما هو الأخذ والعطاء والقبض والإقباض المعبّر عنه بالفارسيّة ـ «داد و ستد» فإنّه الموجب لانقطاع علاقة الطرفين من العوضين ، بحيث لا عبرة بالتلف بعد ذلك ، وإلاّ فالتلف قبل القبض من مال بائعه ، فبالتسليم الخارجي يتحقّق تمام الملك ، ولأجله كانت القدرة عليه شرطاً في الصحّة ، سواء استلزم التسليم المزبور ترك واجب أو فعل حرام أم لا ، فإنّ ذلك لا دخل له في صحّة المعاملة بوجه ، بل هو من باب التضادّ ، ولا يترتّب على مخالفته إلاّ الإثم أو مع الكفّارة كما في موارد مخالفة النذر .

   وعلى الجملة : فالأمر بالتصدّق الناشئ من قبل النذر لا يستوجب بطلان

ــ[44]ــ

المعاملة بوجه ، فلو باع وسلّم إلى المشتري صحّ البيع وإن خالف النذر وعصى ، فهو نظير ما لو وجب الإنفاق على الزوجة ولم يكن له عدا هذا المال فباعه ، فإنّ البيع صحيح حينئذ بلا إشكال ، غايته أنّ هذا البيع ملازمٌ لترك واجب ، ولا ضير فيه ، لما عرفت من عدم الدليل على اعتبار القدرة الشرعيّة على التسليم ، بمعنى عدم المزاحمة لواجب آخر في صحّة البيع .

   وعليه ، فلا يمكن القول بأنّ النذر يوجب سقوط الحول لقصور الملك ، إذ التكليف المحض لا يستتبع نقصاً في الملك أبداً ، لبقاء آثار الملكيّة على حالها بجميع أحكامها ، فلو مات قبل التصدّق بالمنذور ينتقل إلى وارثه ولا يجب عليه الوفاء ، لأنّ النذر أوجب الوفاء على الناذر لا على الوارث كما هو ظاهر .

   فهذا الوجه الذي ربّما يظهر من الشيخ في بيع منذور التصدّق من كتاب المكاسب ـ توجيهاً لقصور الملك ـ من عدم جواز التصرّف المنافي للمنذور ، لا يمكن المساعدة عليه بوجه ، إذ الوجوب التكليفي لا ينافي الجواز الوضعي أبداً ، والقدرة على التسليم ثابتة بمعنى وغير لازمة بالمعنى الآخر حسبما عرفت .

   ثالثها : ما قد يقال أيضاً من أنّ نذر التصدّق على الفقراء يوجب حقّاً لهم في المال ، كما في حقّ الرهانة ، فكما أنّ العين المرهونة موردٌ لحقّ المرتهن ، ولأجله كانت الملكيّة قاصرة كما مرّ (1) ، فكذلك الحال في منذور التصدّق ، فإنّه أيضاً موردٌ لحقّ الفقير ، الموجب لقصر الملك ، المستتبع لسقوط الزكاة .

   وفيه ما لا يخفى ، لوضوح الفرق بين الموردين ، فإنّ العين المرهونة وثيقة بيد المرتهن وفي قبضته ، وليس للمالك أن يتصرّف فيها بما ينافي الرهن ، فتعلّق حقّ المرتهن أوجب خروج العين عن استيلاء المالك ، فيستلزم قصوراً في الملك بطبيعة الحال ، وأين هذا من مورد النذر ؟! إذ ليس للفقراء أخذ المال قهراً من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 39 .

ــ[45]ــ

المالك ومنعه عن التصرّف بالضرورة ، كما هو الحال في النذر على غير الفقراء ، مثل ما لو نذر أن يهب ماله لزيد ، فكما لا يجوز لزيد أن يأخذ المال من صاحبه قهراً فكذلك الفقراء .

   وعلى الجملة : لا يستتبع النذر عدا تكليفاً محضاً متوجّهاً إلى الناذر ، وليس في البين أيّ حقّ للمنذور له أبداً حتى يستوجب قصوراً في الملك ، كما لعلّه أوضح من أن يخفى .

   رابعها : أنّ الفعل المتعلّق للنذر ـ أعني التصدّق ـ بما أ نّه يجعله لله فهو ملك له تعالى ، وبما أنّ المال موضوعٌ للتصدّق المملوك فهو متعلّق لحقّه تعالى ، ولأجله كانت الملكيّة قاصرة وقاطعة للحول ، لاشتراط الزكاة بالملكيّة التامّة كما سبق (1) .

   وهذا أيضاً لا يتمّ بكلا جزأيه :

   أمّا أوّلاً: فلأنّ النذر لا يتضمّن التمليك بوجه، بل معنى قوله: «لله عليّ» ـ كقوله تعالى : (للهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ ا لْبَيْتِ) (2)  ـ ليس إلاّ إيجاب الشيء وجعله على نفسه والتزامه به لله ، كما هو مقتضى لفظ النذر لغةً ، حيث إنّه بمعنى : إيجابُ شيء على النفس ، وإلاّ فلا يحتمل أن يكون الحجّ ـ مثلاً ـ مملوكاً لله تعالى بالملكيّة الاعتباريّة الثابتة في الأموال نظير ملكيّة زيد للدار ، فليس معنى نذر الصدقة أنّ التصدّق ملكٌ لله تعالى ، بل هو واجب ومجعول من قبل الناذر نفسه لا من قبل الله تعالى ابتداءً كما في الحجّ .

   وثانياً : لو سلّمنا ذلك في الحجّ ، فلا نكاد نسلّمه في النذر ، ضرورة أنّ هذه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص 29 ـ 30 .

(2) آل عمران 3 : 97 .

ــ[46]ــ

الملكيّة المزعومة إنّما حدثت بفعل الناذر وبالجعل الثانوي ، وليس حكماً ابتدائيّاً كما في الحجّ ، فلا بدّ وأن يلتفت إليه الناذر ليفرضه على نفسه ، ولا يكاد يلتفت أحدٌ من الناذرين إلى هذا المعنى بحيث يعتبر ملكيّة التصدّق لله كما يعتبرها في مثل قوله : هذا لك بالضرورة ، فإنّه يعتبر الملكيّة في مثل الهبة ويبرزها بمبرز ، ولا يحتمل ذلك في النذر جزماً ، وإنّما هو التزامٌ وتعهّدٌ بفعل  لله وإيجابٌ له على نفسه لا يزيد عليه بشيء .

   وثالثاً : سلّمنا أنّ التصدّق ملكٌ لله تعالى ، إلاّ أ نّه لا يستلزم بوجه أن يكون موضوعه ـ وهو المال ـ متعلّقاً لحقّه تعالى ، لعدم الدليل عليه ، فإنّ التصدّق وإن كان مقيّداً بالمال إلاّ أنّ التقيّد داخل والقيد خارج ، فلا المال مملوك ولا متعلّق لأحد .

   نعم ، هو متعلّق للتكليف بتسليم التصدّق إلى مالكه ، من غير أن يستتبع ذلك حقّاً يمنعه عن التصرّف فيه أبداً ليستوجب قصراً في الملك ، نظير ما لو آجر نفسه ليخيط ثوباً لزيد في دار خاصّة أو بإبرة أو مكينة مخصوصة ، فإنّ المستأجر وإن ملك الفعل ـ أعني الخياطة ـ إلاّ أنّ ذلك لا يستتبع حقّاً له في الدار أو الإبرة أو المكينة ، بحيث يسلب السلطنة التامّة عن مالكها بنحو لا يسعه التصرّف فيها من بيع أو هبة ونحو ذلك ، فإنّ ذلك باطلٌ جزماً ولا قائل به قطعاً .

   نعم ، يجب عليه ـ تكليفاً ـ حفظها مقدّمةً للوفاء بالإجارة على الكيفيّة المقرّرة ، إلاّ أنّ ذلك لا يستلزم بطلان البيع وضعاً بالضرورة .

   ونحوه ما لو آجر نفسه ليصلّي عن زيد في مكان أو لباس مخصوص ، فإنّ شيئاً من ذلك لا يستوجب الحقّ في متعلّق التكليف بلا خلاف ولا إشكال .

   ثمّ إنّ ممّا يؤكّد ما ذكرناه ـ من أنّ المال ليس مورداً لحقّ الفقراء وهم

ــ[47]ــ

أجنبيّون عنه ـ : أ نّه لو تعلّق النذر بالتصدّق لفقير معيّن ، أفهل يجوز له أن يطالب بحقّه ؟! ليس له ذلك قطعاً ، فلو كان النذر مستوجباً لثبوت حقٍّ للفقراء لكان ثابتاً فيما لو نذر التصدّق لشخص خاصٍّ ـ كزيد ـ أو أشخاص معيّنين ـ  كأولاده مثلاً  ـ وجاز له أو لهم المطالبة بالحقّ ، وليس كذلك قطعاً كما عرفت .

   وممّا يؤكّد ما ذكرناه ـ من أنّ نذر التصدّق لا يمنع عن تعلّق الزكاة ـ : أنّ هذا لو تمّ لعمّ وجرى في كلّ نذر مشروع ، إذ مقتضى ذلك : أنّ النذر بنفسه يرفع موضوع الزكاة ، ولا خصوصيّة لتعلّقه بالتصدّق ، بل يعمّ كلّ نذر سائغ راجح المتعلّق ، كما لو نذر أنّ كلّ ما يملكه من ذهب أو فضّة يصرفه في توسعة معاش عياله أو في شراء دار لولده ، ونحو ذلك من الاُمور الراجحة شرعاً ، أفهل يمكن القول بأنّ هذا يوجب سقوط الزكاة ؟!

   نعم ، لو وفى بنذره قبل حلول الحول ، لا إشكال في السقوط ، لانعدام الموضوع وزوال الملك كما هو واضح ، وإنّما الكلام فيما قبل الوفاء ، فإنّه لا يظنّ بأحد الالتزام بالسقوط بمجرّد النذر المزبور وإن لم يف بنذره حتى حال عليه الحول كما هو محلّ الكلام .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net