الخلاف الوارد في تحديد النصاب الأوّل باختلاف الروايات الواردة في المقام 

الكتاب : المستند في شرح العروة الوثقى-الجزء 13:الزكاة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 3806


ــ[256]ــ

   وإنّما الكلام في تعيين الحدّ في نصاب الذهب ، فالمعروف والمشهور بين الخاصّة والعامّة أ نّه عشرون ديناراً ـ أي مثـقالاً ـ يعبّر بهذا تارةً وبذلك اُخرى ، والمرجع واحد ، لأنّ الدينار مثقال شرعي ، فلا زكاة ما لم يبلغ هذا لحدّ ، وفيه ربع العشر ـ أي نصف دينار ـ وعن جماعة : دعوى الإجماع عليه .

   وذهب بعض العامّة إلى أنّ حدّه أربعون ديناراً ، وفيه دينار ، ولا زكاة فيما دون هذا الحدّ . وقد نُسِب هذا القول إلى ابني بابويه (1) وجماعة من الأصحاب .

   ومنشأ الخلاف اختلاف الروايات الواردة في المقام ، فقد ورد في جملة وافرة من النصوص المستفيضة التحديد بالعشرين :

   إمّا تصريحاً ، كصحيح الحسين بن بشّار في حديث : «قال : في الذهب في كلّ عشرين ديناراً نصف دينار ، فإن نقص فلا زكاة فيه» (2) .

   وموثّق سماعة : «ومن الذهب في كلّ عشرين ديناراً نصف دينار، وإن نقص فليس عليك شيء»(3) ونحوهما غيرهما ، وهي كثيرة .

   أو تلويحاً، كصحيح الحلبي : عن الذهب والفضّة، ما أقلّ ما يكون فيه الزكاة ؟ «قال : مائتا درهم وعدلها من الذهب» (4) .

   وصحيح ابن مسلم : عن الذهب ، كم فيه من الزكاة ؟ «قال : إذا بلغ قيمته مائتي درهم فعليه الزكاة» (5) .

   فإنّ عدل مائتي درهم وقيمتها من الذهب إنّما هو عشرون ديناراً ، إذ أنّ كلّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الجواهر 15 : 169 .

(2) الوسائل 9 : 138 /  أبواب زكاة الذهب والفضّة ب 1 ح 3 .

(3) الوسائل 9 : 138 /  أبواب زكاة الذهب والفضّة ب 1 ح 4 .

(4) الوسائل 9 : 137 /  أبواب زكاة الذهب والفضّة ب 1 ح 1 .

(5) الوسائل 9 : 137 /  أبواب زكاة الذهب والفضّة ب 1 ح 2 .

ــ[257]ــ

دينار يسوى عشرة دراهم في صدر الشريعة كما نصّ عليه الأصحاب ، بل شهدت به الآثار التي منها ما ورد في باب الديّات من التصريح بالتخيير بين ألف دينار وبين عشرة آلاف درهم (1) .

   وإنّما جعل الاعتبار في هاتين الروايتين بالدرهم لكونه كالأصل في النقود ، حيث إنّه أكثر تداولاً وتعارفاً ، إذ يشترك فيه الفقير والغني ، بخلاف الدينار الذي لا يتعاطاه غالباً إلاّ الأغنياء .

   بل قد يظهر من بعض النصوص التسالم على هذا الحكم والمفروغيّة عنه عند الرواة ومغروسيّته في أذهانهم ، كما في موثّقة إسحاق بن عمّار: عن رجل له مائة درهم وعشرة دنانير، أعليه زكاة؟ «فقال: إن كان فرّبها من الزكاة فعليه الزكاة»(2).

   فإنّ ظاهرها المفروغيّة عن ثبوت الزكاة في عشرين ديناراً ، وإنّما السؤال عن صورة التلفيق من نصفين يبلغ مجموعهما العشرين .

   وتدلّ عليه أيضاً صحيحة أحمد بن أبي نصر قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عمّا أخرج المعدن من قليل أو كثير ، هل فيه شيء ؟ «قال : ليس فيه شيء حتى يبلغ ما يكون في مثله الزكاة عشرين ديناراً» (3) .

   فإنّ ظاهرها الفراغ عن أنّ النصاب هو العشرون .

   إلى غير ذلك من الروايات التي لا حاجة إلى استقصائها ، بل يضيق عن نقلها المقام .

   وبإزائها روايتان :

   إحداهما :  صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام) :

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 29 : 195 /  أبواب ديّات النفس ب 1 ح 4 .

(2) الوسائل 9 : 151 /  أبواب زكاة الذهب والفضّة ب 5 ح 3 .

(3) الوسائل 9 : 494 /  أبواب ما يجب فيه الخمس ب 4 ح 1 .

ــ[258]ــ

«قالا : في الذهب في كلّ أربعين مثقالاً مثقال ـ إلى أن قال : ـ وليس في أقلّ من أربعين مثقالاً شيء» (1) .

   وقد حملها الشيخ (2) .

   تارةً : على أنّ الشيء المنفي مطلقٌ يعمّ المثقال فما دون ، فليحمل على الأوّل ، جمعاً بينها وبين النصـوص المتقدّمة المصرّحة بأنّ في العشرين نصف دينار ، لارتفاع التنافي بذلك .

   وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ ظاهر النفي الوارد في مقام التحديد عدم تعلّق الزكاة فيما دون الأربعين بتاتاً ، لا خصوص المثقال ، لبعده عن الفهم العرفي جدّاً ، ولذا لو قال : في كل ثمانين مثقالان وليس في أقلّ من ثمانين شيء ، لا يفهم منه عرفاً إلاّ نفي الزكاة عن الأقلّ رأساً ، لا خصوص المثقالين .

   واُخرى على التقيّة ، لموافقتها لبعض العامّة .

   وهذا أيضاً بعيد ، لعدم تأتّي التقيّة لمجرّد الموافقة لقول بعض العامّة وإن كان شاذّاً نادراً كما في المقام ، بل لا بدّ وأن يكون معروفاً عندهم كي يصدق عنوان الاتّقاء كما لا يخفى .

   وعليه ، فيدور الأمر بين وجهين آخرين .

   إمّا حمل النصوص السابقة على الاستحباب بقرينة صراحة هذه في نفي الزكاة عمّا دون الأربعين .

   أو المعارضة والتصدّي للترجيح .

   وحيث لا سبيل إلى الأوّل ، لما عرفت سابقاً من أنّ قوله (عليه السلام) :

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 9 : 141 /  أبواب زكاة الذهب والفضّة ب 1 ح 13 .

(2) لاحظ التهذيب 4 : 11 ، الاستبصار 2 : 13 .

ــ[259]ــ

«فيه الزكاة» و : «ليس فيه الزكاة» متعارضان عرفاً ومتهافتان ، ولا يصلحان للقرينيّة بوجه ، مضافاً إلى التسالم على الوجوب في العشرين من أكثر الأصحاب حسبما عرفت . فيتعيّن الثاني ، وستعرف الحال فيه .

   ثانيتهما : صحيحة زرارة ، قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : رجل عنده مائة درهم وتسعة وتسعون درهماً وتسعة وثلاثون ديناراً ، أيزكّيهما ؟ «فقال : لا ، ليس عليه شيء من الزكاة في الدراهم ولا في الدنانير حتى يتمّ أربعون ديناراً والدراهم مائتي درهم» هكذا في التهذيب (1) .

   ولكن الشيخ الصدوق رواها بعين السند والمتن إلاّ أنّ المذكور فيها : «تسعة عشر ديناراً» بدل : «تسعة وثلاثون» كما نبّه عليه في الحدائق (2) ، فيظهر من ذلك وقوع التحريف في التهذيب إمّا من الشيخ نفسه أو من النسّاخ ، وبذلك يضعف الاعتماد على رواية الشيخ .

   وممّا يرشدك إلى وقوع التحريف من النسّاخ ـ لا من الشيخ ـ أ نّه (قدس سره) نقل هذه الصحيحة ولم يعلّق عليها بشيء كما علّق على صحيحة الفضلاء من التوجيه والحمل على التقـيّة أو غيرها كما سمعت ، فإنّه يكشف عن أنّ الرواية كانت عنده مثل ما في الفقيه وإلاّ لعلّق عليها كما علّق على اُختها (3) ، فهذا ينبئ عن أ نّها لم تكن مخالفة لمذهبه ، وإنّما وقع الاشـتباه من النسّاخ في نقلها .

   ومع الغضّ عمّا ذكر فغايته إجمال الرواية من أجل تردّد النسخة وتعدّدها ،

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 9 : 141 / أبواب زكاة الذهب والفضّة ب1 ح14 ، التهذيب 4 : 92 / 267 .

(2) الحدائق الناضرة 12 : 88 .

(3) لعلّ الوجه في عدم التعليق أ نّه (قدس سره) أورد الروايتين في بابين مختلفين ، لاحظ التهذيب 4 : 11 و 92 ، والحاجة إلى التعليق إنّما تناسب الباب الأوّل كما لا يخفى .

ــ[260]ــ

إذ لا يحتمل أن تكونا روايتين صدرتا عن المعصوم مرّتين، وإنّما هي رواية واحدة قد تردّد الصادر عنه (عليه السلام) بين إحدى النسختين فلا يمكن الاعتماد عليها .

   فلم يبق إلاّ الرواية الاُولى ـ أعني : صحيحة الفضلاء ـ وقد عرفت أ نّها معارضة مع النصوص السابقة ، ولكن لا ينبغي التأمّل في أنّ الترجيح مع تلك النصوص ، لأ نّها معروفة مشهورة ، وهذه رواية شـاذّة نادرة لا تكاد تنهض للمقاومة معها فتطرح ويردّ علمها إلى أهله .

   ومع التنزّل عن هذا أيضاً ، فتلك الروايات موافقة لعموم الكتاب ، وهذه مخالفة ، فتتقدّم .

   وتوضيحه : أ نّه قد ورد في تفسير قوله تعالى : (وَا لَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَا لْفِضَّةَ) (1) أنّ المراد : الامتناع عن أداء الزكاة ، كما رواه ابن الشيخ الطوسي في أماليه بإسناده عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) ، «قال : لمّا نزلت هذه الآية (وَا لَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَا لْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَاب أَلِيم) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : كلّ مال يؤدّى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وكلّ مال لا يؤدّى زكاته فهو كنزٌ وإن كان فوق الأرض» (2) .

   ونقل أيضاً في مجمع البيان ما يقرب من ذلك من روايات الخاصّة والعامّة (3) .

   وعليه ، فالآية المباركة ناظرة إلى النهي عن الامتناع عن أداء الزكاة ، وإلاّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) التوبة 9 : 34 .

(2) الوسائل 9 : 30 /  أبواب ما تجب فيه الزكاة ب 3 ح 26 ، أمالي الطوسي : 519 / 1142 .

(3) مجمع البيان 3 : 26 .

 
 

ــ[261]ــ

فمجرّد كنز الذهب وادّخاره تحت الأرض أو فوقه لا حرمة فيه ما لم يمتنع عن أداء ما تعلّق به من الحقّ الشرعي .

   إذن فمفاد الآية المباركة وجوب أداء زكاة الذهب والفضّة .

   ومقتضى إطلاقها وجوب الزكاة في مطلق الذهب والفضّة حتى لو كان بمقدار دينار أو أقلّ .

   إلاّ أ نّا نقطع بعدم الوجوب فيما دون العشرين دينار ، للتسالم وتطابق النصوص عليه ، فالآية بهذا المقدار مخصّصة يقيناً .

   وأمّا العشرون فما زاد فالنصوص المتقدّمة تدلّ على ثبوت الزكاة فيه ، وهو مطابق لإطلاق الآية .

   وهذه الصحيحة ـ أي صحيحة الفضلاء ـ تدلّ على العدم ما لم يبلغ الأربعين ، وهذا مخالف لإطلاقها ، فلا جرم تتقدّم تلك عليها ، لأنّ الموافقة لعموم الكتاب أو إطلاقه من المرجّحات(1) ، فتطرح هذه الصحيحة ويردّ علمها إلى أهله .

   فتحصّل : أنّ الصحيح ما عليه المشهور من أنّ النصاب الأوّل للذهب عشرون ديناراً ، وخلافُ ابني بابويه لا يُعبأ به .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لا يخفى أنّ المرجّح إنّما هو الموافقة للكتاب نفسه لا بضميمة الرواية الواردة في تفسيره كما في المقام ، على أ نّها ضعيفة السند وكذا غيرها ممّا رواه في المجمع ، مع أنّ إطلاق الآية حتى بضميمة التفسير غير واضح ، إذ بعد كون الكنز كناية عن عدم أداء الزكاة ـ  كما تضمّنته الرواية المفسّرة ـ يكون محصّل الآية المباركة : حرمة منع الزكاة وأنّ من لم ينفقها في سبيل الله فله من الوزر كذا ، فهي نظير الأمر بإتيان الزكاة الوارد في مقام أصل التشريع ، وأمّا أ نّها ثابتة في الأموال بأيّ مقدار فلم تكن بصدد البيان من هذه الناحية لينعقد لها الإطلاق ، ومنه يظهر النظر في التمسّك بإطلاق الآية في غير مورد من المباحث الآتية .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net