حرمة تغرير الجاهل وإلقائه في الحرام الواقعي 

الكتاب : مصباح الفقاهة في المعاملات - المكاسب المحرمة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 5350

 

ــ[181]ــ

حرمة تغرير الجاهل وإلقائه في الحرام الواقعي

قوله : ويشير إلى هذه القاعدة كثير من الأخبار .

أقول: لمّا كان بيع الدهن المتنجّس من المسلم قد يوجب إلقاء له في الحرام الواقعي حكم بحرمته في الشريعة المقدّسة، فإنّه يستفاد من مذاق الشارع حرمة إلقاء الغير في الحرام الواقعي .

ويدلّ على صدق هذه الكبرى الكلّية مضافاً إلى ما ذكرناه من وجوب الإعلام ما ورد في الأخبار الكثيرة في مواضع شتّى ، الدالّة على حرمة تغرير الجاهل بالحكم أو الموضوع في المحرّمات .

منها : ما دلّ على حرمة الإفتاء بغير علم ، ولحوق وزر العامل به بالمفتي(1) فإنّ ثبوت ذلك عليه واستحقاق العقوبة الإلهية والمهلكة الأبدية إنّما هو لوجهين : أحدهما : افتراؤه على الله ، وهو بالضرورة من المحرّمات الذاتية والمبغوضات الإلهية ، وقد توافق العقل والنقل على حرمته . وثانيهما : التغرير والتسبيب وإلقاء المسلم في الحرام الواقعي ، وهو أيضاً حرام في الشريعة المقدّسة .

ومنها : ما دلّ على ثبوت أوزار المأمومين وإثمهم على الإمام في تقصير نشأ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أبو عبيدة الحذاء عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : « من أفتى الناس بغير علم ولا هدى لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه » وهي صحيحة . راجع الكافي 1 : 42 / 3 ، والوسائل 27 : 20 / أبواب صفات القاضي ب4 ح1 ، والوافي 1 : 190 / 3 ، والتهذيب 6 : 223 / 531 .

وفي سنن البيهقي 10 : 116 عن أبي هريرة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : « من قال عليّ ما لم أقل فليتبوّأ بيتاً في جهنّم ، ومن أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه » .

أقول : قد تواترت الروايات من الفريقين على ذلك ، ولكن خالفها أهل السنّة في اُصولهم وفروعهم .

ــ[182]ــ

من تقصير الإمام(1)، فيدل على حرمة تغرير الجاهل بالحكم وإلقائه في الحرام الواقعي .

ومنها : الروايات المتضمّنة لكراهة إطعام الأطعمة والأشربة المحرّمة للبهيمة(2)

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ] ففي البحار عن [ كتاب الغارات باسناده عن كتاب علي (عليه السلام) : « كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر : انظر يامحمد صلاتك كيف تصلّيها لوقتها ، فإنّه ليس من إمام يصلّي بقوم فيكون في صلاته نقص إلاّ كانت عليه ، ولا ينقص ذلك من صلاتهم » . قال المجلسي (رحمه الله) : في رواية ابن أبي الحديد : « ... وانظر يامحمّد صلاتك كيف تصلّيها ، فإنّما أنت إمام ، ينبغي لك أن تتمّها وأن تخفّفها وأن تصلّيها لوقتها ، فإنّه ليس من إمام يصلّي بقوم فيكون في صلاته وصلاتهم نقص إلاّ كان إثم ذلك عليه ، ولا ينقص ذلك من صلاتهم شيئاً » . ورواه في تحف العقول هكذا : « ثم انظر صلاتك كيف هي ، فإنّك إمام وليس من إمام يصلّي بقوم فيكون في صلاتهم تقصير إلاّ كان عليه أوزارهم ، ولا ينقص من صلاتهم شيء ، ولا يتمّها إلاّ كان له مثل اُجورهم ، ولا ينقص من اُجورهم شيء » . وهي مجهولة بالحسن بن إبراهيم وعباية وغيرهما . راجع البحار 85 : 92 / 58 ، وشرح النهج لابن أبي الحديد 6 : 71 . وتحف العقول : 41 ، ويظهر ذلك من جملة من روايات العامة منها : ما عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) « من أمّ الناس فأصاب الوقت وأتم الصلاة فله ولهم ، ومن نقص من ذلك شيئاً فعليه ولا عليهم » . راجع سنن البيهقي 3 : 127 .

(2) ففي الكافي والتهذيب عن غياث عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كره أن تسقى الدواب الخمر » . وهي موثّقة بغياث بن إبراهيم . وفي التهذيب عن أبي بصير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « سألته عن البهيمة البقرة وغيرها تسقى أو تطعم ما لا يحل للمسلم أكله أو شربه ، أيكره ذلك ؟ قال : نعم يكره ذلك » وهي ضعيفة بالحسن بن علي بن أبي حمزة . راجع التهذيب 9 : 114 / 496 ، 497 ، والوسائل 25 : 308 / أبواب الأشربة المحرّمة ب10 ح4 ، 5 ، والكافي 6 : 430 / 7 ، والوافي 20 : 685 / 2 ، 3 .

وفي المستدرك 17 : 51 / أبواب الأشربة المحرّمة ب6 ح1 عن دعائم الإسلام 2 : 133 / 471 عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) « أنّه نهى أن تسقى الأطفال والبهائم ، وقال (صلّى الله عليه وآله) : الإثم على من سقاها » وهي ضعيفة .

ــ[183]ــ

فقد استشعر منها المصنّف حرمة ذلك بالنسبة إلى المكلّف(1)، فتكون مؤيّدة للمدّعى .

وفيه : أنّا إذا قلنا بالتعدّي عن مورد الروايات ثبتت الكراهة أو الكراهة المغلّظة في ذلك بالنسبة إلى المكلّف بالأولوية القطعية ، وأمّا الحرمة فلا .

ومنها : ما دلّ على ضمان الإمام صلاة المأمومين إذا صلّى بهم جنباً أو على غير طهر(2)، ومعنى الضمان هنا هو الحكم بوجوب الإعادة على الإمام دون المأمومين ، وتحمّله كل وزر يحدث على المأمومين من جهة النقص إذا كان عالماً .

ومنها : ما دل على حرمة سقي الخمر للصبي والكفّار ، وأنّ على الساقي كوزر من شربها(3)، وإذا كان التسبيب والتغرير بالإضافة إلى الصبي والكفّار حراماً فهو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 1 : 74 .

(2) عن معاوية بن وهب قال « قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : أيضمن الإمام صلاة الفريضة ؟ فإنّ هؤلاء يزعمون أنه يضمن ، فقال : لا يضمن ، أي شيء يضمن ؟ إلاّ أن يصلّي بهم جنباً أو على غير طهر » وهي صحيحة . راجع التهذيب 3 : 277 / 813 ، والوسائل 8 : 373 / أبواب صلاة الجماعة ب36 ح6 ، والوافي 8 : 1252 / 4 .

(3) في عقاب الأعمال : 336 باسناده عن النبي (صلّى الله عليه وآله) في حديث : « ومن سقاها ـ أي الخمر ـ يهودياً أو نصرانياً أو صابياً أو من كان من الناس فعليه كوزر من شربها » . وهي مجهولة ، لجهالة كثير من رواتها ، كموسى بن عمران ، ويزيد بن عمر ، وغيرهما .

وفي الخصال : 635 باسناده عن علي (عليه السلام) في حديث الأربعمائة قال : « من سقى صبياً مسكراً وهو لا يعقل حبسه الله (عزّوجلّ) في طينة خبال » وهي ضعيفة بالقاسم بن يحيى . ومثله في سنن البيهقي 8 : 288 ، وفيه قيل : وما طينة الخبال يارسول الله ؟ قال : صديد أهل النار . راجع الوسائل 25 : 309 / أبواب الأشربة المحرّمة ب10 ح7 ، 6 .

وفي المستدرك 17 : 51 / أبواب الأشربة المحرّمة ب6 ح3 عن جامع الأخبار ] 427 / 26 فصل 113 [ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال في حديث في الخمر : « ألا ومن سقاها غيره يهودياً أو نصرانياً أو امرأة أو صبياً أو من كان من الناس فعليه كوزر من شربها » .

ــ[184]ــ

أولى بالحرمة في غير الصبي والكفّار .

ومنها : الأخبار الآمرة باهراق المائعات المتنجّسة ، وسيأتي التعرّض لها في حكم الانتفاع بالمتنجّس(1).

ومنها : الأخبار الدالّة على حرمة ارتكاب المحرّمات ، فإنّه لا فرق في إيجاد المحرّم بين الإيجاد بالمباشرة أو بالتسبيب .

ويؤيّد ما ذكرناه ما ورد في جواز بيع العجين المتنجّس من مستحل الميتة(2)

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص206 .

(2) في الوافي 19 : 117 / 7 عن ابن محبوب عن محمد بن الحسين عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا قال : وما أحسبه إلاّ حفص بن البختري ، قال : « قيل لأبي عبدالله (عليه السلام) في العجين يعجن من الماء النجس ، كيف يصنع به ؟ قال : يباع ممّن يستحل الميتة » وهي صحيحة لو كان المراد ببعض أصحابنا هو حفص بن البختري كما هو الظاهر ، وإلاّ فهي مرسلة . ثم إنّ صاحب الوسائل قد أخرجها في 1 : 242 / أبواب الأسآر ب11 ح1 و 17 : 100 / أبواب ما يكتسب به ب7 ح3 ، ولكن المذكور في الموضع الثاني على ما هو الموجود في نسخة عين الدولة لا يخلو عن الاشتباه من حيث المتن والسند.

ــ[185]ــ

دون غيره ، وما ورد من الأخبار الدالّة على حرمة بيع المذكّى المختلط بالميتة ، وأنه يرمى بهما إلى الكلاب ، وقد تقدّم ذكرها في مبحث بيع الميتة(1)، وما يدل على جواز إطعام المرق المتنجّس لأهل الذمّة أو الكلاب ، وقد تقدّم ذلك أيضاً في المبحث المذكور .

قوله : ويؤيّده أنّ أكل الحرام وشربه من القبيح ولو في حقّ الجاهل .

أقول : توضيح كلامه : أنّ الأحكام الواقعية كما حقّق في محلّه(2) ليست مقيّدة بعلم المكلّفين ، وإلاّ لزم التصويب المستحيل أو الباطل ، فالأحكام الواقعية وملاكاتها شاملة لحالتي العلم والجهل ، ثم إنّ غرض الشارع من بعث المكلّفين نحوها وتكليفهم بها ليس إلاّ امتثالها بالإتيان بالواجبات وترك المحرّمات ، حتى لا يوجد ما هو مبغوض للشارع ، ولا يترك ما هو مطلوب .

ونتيجة المقدّمتين أنّ المكلّف الملتفت كما يحرم عليه مخالفة التكاليف الإلزامية من ارتكاب المحرّمات وترك الواجبات ، فكذلك يحرم عليه التسبيب إلى مخالفتها بالقاء الجاهل في الحرام الواقعي ، لأنّ مناط الحرمة في ذلك إنّما هو تفويت غرض المولى بإيجاد المفسدة وترك المصلحة الملزمتين ، وهذا المناط موجود في كلتا الصورتين . فالأدلّة الأوّلية كما تقتضي حرمة مخالفة التكاليف الإلزامية بالمباشرة فكذلك تقتضي حرمة مخالفتها بالتسبيب .

وبعبارة اُخرى : قد ذكرنا في علم الاُصول(3) في الكلام عن حديث الرفع : أنّ المرفوع عن المكلّفين عند جهلهم بالتكاليف الواقعية ليس إلاّ خصوص الإلزام

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص114 ، الهامش رقم (1) .

(2) محاضرات في أُصول الفقه 2 (موسوعة الإمام الخوئي 44) : 85 ، 100 .

(3) مصباح الأُصول 2 (موسوعة الإمام الخوئي 47) : 298 .

ــ[186]ــ

الظاهري والعقاب الذي تستلزمه مخالفة الواقع ، وأمّا الأحكام الواقعية وملاكاتها فهي باقية على حالها ، وعليه فتغرير الجاهل بالأحكام الواقعية وإن لم يوجب مخالفة المغرور التكاليف الإلزامية ، إلاّ أنّه يوجب تفويت غرض الشارع ، فهو حرام .

ومثال ذلك في العرف : أنّ المولى إذا نهى عبيده عن الدخول عليه في وقت خاص عيّنه لفراغه ، فإنّ نهيه هذا يشمل المباشرة والتسبيب ، ولذلك لو سبّب أحد العبيد دخول أحد على مولاه في ذلك الوقت صحّ عقابه ، كما يصح عقابه لو دخل هو بنفسه ، لاتّحاد الملاك في كلتا الصورتين بحكم الضرورة والبديهة .

وممّا ذكرناه ظهر لك أنّ في تعبير المصنّف تسامحاً واضحاً ، فإنّه أتى بلفظ القبيح بدل لفظ الحرمة ، ومن الضروري أنّ القبح يرتفع عند الجهل بالتكليف ، ولا يلزمه ارتفاع الحرمة ، اللهمّ إلاّ إذا أراد بالقبيح الحرمة . ولكنّه لا يرفع التسامح .

ثم إنّ الوجوه المتقدّمة إنّما تقتضي حرمة تغرير الجاهل بالأحكام الواقعية فيما إذا كان المغرور في معرض الارتكاب للحرام ، وإلاّ فلا موضوع للإغراء ، ويترتّب على ذلك تقييد وجوب الإعلام في بيع الدهن المتنجّس بذلك أيضاً ، فإنّه إنّما يجب فيما إذا كان المشتري في معرض الانتفاع به فيما هو مشروط بالطهارة ، وإلاّ فلا دليل على وجوبه .

قوله : بل قد يقال بوجوب الإعلام وإن لم يكن منه تسبيب .

أقول : قد عرفت بما لا مزيد عليه حرمة إلقاء الجاهل في الحرام الواقعي ، وأمّا لو ارتكبه الجاهل بنفسه من دون تغرير ولا تسبيب من الغير فهل يجب على العالم بالواقع إعلامه بالحال ؟ فيه وجهان : فعن العلاّمة (رحمه الله) في أجوبة المسائل المهنّائية(1) التصريح بوجوب الإعلام ، حيث سأله السيّد المهنّا عمّن رأى في ثوب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أجوبة المسائل المهنّائية : 48 / مسألة 53 .

ــ[187]ــ

المصلّي نجاسة ، فأجاب بأنه يجب الإعلام ، لوجوب النهي عن المنكر .

ولكن يرد عليه : أنّ أدلّة وجوب النهي عن المنكر مختصة بما إذا كان صدور الفعل من الفاعل منكراً ، وفي المقام ليس كذلك ، لأنّا قد فرضنا جهل الفاعل بالواقع .

وقد يقال بعدم الوجوب في غير موارد التسبيب ، لرواية ابن بكير(1) فإنّها صريحة في عدم وجوب الإعلام بنجاسة ثوب المصلّي . وفيه : أنّ الرواية أجنبية عمّا نحن فيه ، لأنّ عدم وجوب الإعلام بالنجاسة إنّما هو لأنّ الطهارة الخبثية ليست من الشرائط الواقعية للصلاة ، وإنّما هي من الشرائط العلمية ، لأنّ تنبيه الجاهل وإعلامه ليس بواجب على العالم . ويرشدك إلى ذلك أنّ الرواية مختصّة بصورة الجهل ، ولا تشمل صورة النسيان .

نعم يمكن الاستدلال عليه على وجه الإطلاق بخبرين آخرين :

الأول : خبر محمد بن مسلم(2) فإنّ الإمام (عليه السلام) نهى فيه عن الإعلام بالدم في ثوب المصلّي وقال : « لا يؤذنه حتّى ينصرف » من صلاته . ولا يرد عليه الإشكال المتقدّم في رواية ابن بكير ، فقد عرفت أنّ مورد السؤال فيها مختص

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) عن أبي عبدالله (عليه السلام) « عن رجل أعار رجلا ثوباً فصلّى فيه ، وهو لا يصلّي فيه فقال : لا يُعلِمه ، قلت : فإن أعلمه ؟ قال : يعيد » وهي موثّقة بعبدالله بن بكير الفطحي . راجع الوسائل 3 : 488 / أبواب النجاسات ب47 ح3 . ولا يخفى أنّ ذيل الرواية محمول على الإعلام قبل الصلاة ، جمعاً بينها وبين ما دلّ على عدم وجوب الإعادة فيما إذا كان بعد الصلاة .

(2) عن أحدهما (عليهما السلام) قال : « سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دماً وهو يصلّي قال : لا يؤذنه حتّى ينصرف » وهي صحيحة . راجع الكافي 3 : 406 / 8 . والوسائل الباب المتقدّم ح1 .

ــ[188]ــ

بصورة الجهل بالواقع فقط ، وهذا بخلاف مورد السؤال في هذه الرواية فإنّه مطلق يشمل صورتي الجهل والنسيان ، ومن الواضح أنّ الطهارة الخبثية في صورة النسيان من الشرائط الواقعية للصلاة .

الثاني : خبر عبدالله بن سنان(1) فإنّه صريح في عدم وجوب الإعلام في صورة الجهل في غير الصلاة أيضاً ، وفي هذا الخبر كفاية وإن لم يسلم الخبر السابق من الإشكال المذكور . ومع الإغضاء عمّا ذكرناه فالمرجع في المقام هو أصالة البراءة ، إذ ليس هنا ما يدلّ على وجوب الإعلام لنخرج به عن حكم الأصل .

ثم إنّ هذا كلّه إذا لم يكن ما يرتكبه الجاهل من الاُمور التي اهتمّ الشارع بحفظها من كل أحد كالدماء والفروج والأحكام الكلّية الإلهية ، كما إذا اعتقد الجاهل أنّ زيداً مهدور الدم شرعاً فتصدّى لقتله وهو محترم الدم في الواقع ، أو اعتقد أنّ امرأة يجوز له نكاحها فأراد التزويج بها وكانت في الواقع محرّمة عليه ، أو غير ذلك من الموارد ، فإنّه يجب على الملتفت إعلام الجاهل في أمثال ذلك لكي لا يقع في المحذور ، بل تجب مدافعته لو شرع في العمل وإن كان فعله من غير شعور والتفات وأمّا في غير تلك الموارد فلا دليل عليه بل ربما لا يحسن ، لكونه إيذاء للمؤمن .

قوله : والحاصل : أنّ هنا اُموراً أربعة .

أقول : ملخّص كلامه : أنّ إلقاء الغير في الحرام الواقعي على أربعة أقسام :

الأول : أن يكون فعل أحد الشخصين علّة تامّة لصدور الحرام من الآخر كإكراه الغير على الحرام . وهذا ممّا لا إشكال في حرمته على المكره ـ بالكسر ـ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « اغتسل أبي من الجنابة فقيل له : قد أبقيت لمعة في ظهرك لم يصبها الماء ، فقال له : ما كان عليك لو سكت ، ثم مسح اللمعة بيده » وهي صحيحة . راجع الكافي 3 : 45 / 15 ، والباب المتقدّم من الوسائل ح2 .

ــ[189]ــ

وثبوت وزر الحرام عليه .

الثاني : أن يكون فعل أحدهما سبباً لصدور الحرام من الآخر ، كإطعام الشيء المحرّم للجاهل بحرمته . وهذا أيضاً ممّا لا إشكال في حرمته ، فإنّ استناد الفعل إلى السبب أولى من استناده إلى المباشر ، فتكون نسبة الحرام إلى السبب أولى ، كما يستقر الضمان أيضاً على السبب دون المباشر في موارد الإتلاف . ومن هذا القبيل ما نحن فيه ، أعني بيع الدهن المتنجّس ممّن لا يعلم بنجاسته من دون بيان .

الثالث : أن يكون فعل أحدهما شرطاً لصدور الحرام من الآخر ، وهذا على وجهين ، لأنّ عمل الشخص الأول تارة يكون من قبيل إيجاد الداعي للثاني على المعصية ، سواء كان بإثارة الرغبة إلى الحرام في نفس الفاعل بالتحريض والتوصيف ونحوهما ، أو بإيجاد العناد في قلبه ، كسبّ آلهة الكفّار الموجب لإلقائهم في سبّ الحقّ عناداً . واُخرى يكون من قبيل إيجاد مقدّمة من مقدّمات الحرام غير إيجاد الداعي كبيع العنب ممّن يعلم أنه يجعله خمراً .

الرابع : أن يكون من قبيل رفع المانع ، وهو أيضاً على وجهين ، لأنّ حرمة العمل الصادر من الفاعل إمّا أن تكون فعلية على أي تقدير ، كسكوت الشخص عن المنع من المنكر ، ولا إشكال في حرمة السكوت إذا اجتمعت شرائط النهي عن المنكر . وإمّا أن تكون غير فعلية على تقدير وجود المانع ، كسكوت الملتفت إلى الحرام عن منع الجاهل الذي يريد أن يرتكبه ، فإنّ الجاهل ما لم يلتفت إلى الحرام لا يكون ارتكابه محرّماً ليجتمع سكوت الملتفت عن المنع مع الحرمة الفعلية ، كما فيما نحن فيه ، وهذا الأخير إن كان من الاُمور المهمّة في نظر الشارع حرم السكوت ووجب رفع الحرام ، وإلاّ ففيه إشكال .

أقول : هذا التقسيم الذي أفاده المصنّف (رحمه الله) لا يرجع إلى محصّل ، مضافاً إلى جريه في إطلاق العلّة والمعلول على غير ما هو المصطلح فيهما ، والمناسب في

ــ[190]ــ

المقام تقسيم إلقاء الغير في الحرام الواقعي على نحو يمكن تطبيقه على القواعد واستفادة حكمه من الروايات .

فنقول : إنّ الكلام قد يقع في بيان الأحكام الواقعية ، وقد يقع في إضافة فعل أحد الشخصين إلى الشخص الآخر من حيث العلّية أو السببية أو الداعوية .

أمّا الأول فقد يكون الكلام في الأحكام الكلّية الإلهية ، وقد يكون في الأحكام الجزئية المترتّبة على الموضوعات الشخصية .

أمّا الأحكام الكلّية الإلهية فلا ريب في وجوب إعلام الجاهل بها ، لوجوب تبليغ الأحكام الشرعية على الناس جيلا بعد جيل إلى يوم القيامة ، وقد دلّت عليه آية النفر(1) والروايات الواردة في بذل العلم وتعليمه وتعلّمه(2).

وأمّا الأحكام الجزئية المترتّبة على الموضوعات الشخصية فإن لم نقل بوجود الدليل على نفي وجوب الإعلام ـ كالرواية المتقدّمة(3) الدالّة على صحة الصلاة في الثوب النجس جهلا ، وأنّه لا يجب على المعير إعلام المستعير بالنجاسة ـ فلا ريب في عدم الدليل على وجوبه ، وعلى هذا فلو رأى أحد نجاسة في طعام الغير فإنّه لا يجب عليه إعلامه ، كما أنّه لا يجب تنبيه المصلّي إذا صلّى بالطهارة الترابية مع الغفلة عن وجود الماء عنده ، إلاّ إذا كان ما ارتكبه الجاهل من الاُمور المهمّة ، فإنّه يجب إعلام الجاهل بها كما عرفت .

وأمّا الثاني : ـ أعني إضافة فعل أحد الشخصين إلى الشخص الآخر ـ فقد

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهي قوله تعالى في سورة التوبة 9 : 122 : (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) .

(2) راجع الكافي 1 : 41 / باب بذل العلم ، والوافي 1 : 203 / ب15 ، استعمال العلم .

(3) في ص187 الهامش رقم (1) .

ــ[191]ــ

يكون فعل أحد الشخصين سبباً لوقوع الآخر في الحرام ، واُخرى لا يكون كذلك .

أمّا الأول : فلا شبهة في حرمته ، كإكراه الغير على الحرام ، وقد جعله المصنّف من قبيل العلّة والمعلول . والدليل على حرمته هي الأدلّة الأوّلية الدالّة على حرمة المحرّمات ، فإنّ العرف لا يفرّق في إيجاد مبغوض المولى بين المباشرة والتسبيب .

وأمّا الثاني : فإن كان الفعل داعياً إلى إيجاد الحرام كان حراماً ، فإنّه نحو من إيقاع الغير في الحرام ، ومثاله تقديم الطعام المتنجّس أو النجس أو المحرّم من غير جهة النجاسة إلى الجاهل ليأكله ، أو توصيف الخمر بأوصاف مشوّقة ليشربها ، ومن هذا القبيل بيع الدهن المتنجّس من دون إعلام بالنجاسة ، وسبّ آلهة المشركين الموجب للجرأة على سبّ الإله الحقّ ، وسبّ آباء الناس الموجب لسبّ أبيه ، وقد جعل المصنّف بعض هذه الأمثلة من قبيل السبب ، وبعضها من قبيل الشرط وبعضها من قبيل الداعي ، ولكنّه لم يجر في جعله هذا على المنهج الصحيح ، وقد اُشير إلى حرمة التسبيب إلى الحرام في بعض الآيات(1) والروايات(2).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كقوله تعالى في سورة الأنعام 6 : 108 : (وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْم) . وفي مجمع البيان 4 : 537 قال قتادة : كان المسلمون يسبّون أصنام الكفّار فنهاهم الله عن ذلك ، لئلاّ يسبّوا الله ، فإنّهم قوم جهلة .

(2) في الكافي 2 : 360 / 4 ، 3 ، 322 / 3 ، والوافي 5 : 949 / 3 ، 4 ، 5 . والوسائل 12 : 297 / أبواب أحكام العشرة ب158 ح1 ، 2 عن ابن الحجّاج البجلي عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) « في رجلين يتسابّان ، فقال : البادي منهما أظلم ، ووزره ووزر صاحبه عليه ما لم يعتذر إلى المظلوم » وهي صحيحة . وفي حسنة اُخرى باختلاف في صدر السند قال (عليه السلام) : « ما لم يتعدّ المظلوم » .

وعن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : « إنّ رجلا من بني تميم أتى النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال : أوصني ، فكان ممّا أوصاه أن قال : لا تسبّوا الناس فتكسبوا العداوة منهم ـ بينهم ـ لهم » . وهي صحيحة .

ــ[192]ــ

وإن لم يكن الفعل داعياً إلى الحرام فامّا أن يكون مقدّمة له ، وإمّا أن لا يكون كذلك . أمّا الأول فكاعطاء العصا لمن أراد ضرب اليتيم ، فإنّ اعطاءه وإن كان مقدّمة للحرام ، إلاّ أنه ليس بداع إليه ، والحكم بحرمته يتوقّف على أمرين ، الأول : كونه إعانة على الإثم ، والثاني : ثبوت حرمة الإعانة على الإثم في الشريعة المقدّسة وسيأتي الكلام على ذلك في مبحث بيع العنب ممّن يجعله خمراً(1).

وأمّا الثاني : فكمن ارتكب المحرّمات وهو بمرأى من الناس ، فإنّ رؤيتهم له عند الارتكاب ليست مقدّمة لفعل الحرام ، نعم لا بأس بادخاله تحت عنوان النهي عن المنكر ، فيجب النهي عنه إذا اجتمعت شرائطه .

ولا يخفى أنّ في كلام المصنّف تهافتاً واضحاً ، حيث جعل ما نحن فيه تارة من القسم الثاني واُخرى من القسم الرابع ، ويمكن توجيهه بوجهين :

الأول : أن يراد بالفرض الذي أدخله في القسم الثاني هو فرض الدهن المتنجّس ، فإنّ إعطاءه للغير لا يخلو عن التسبيب إلى الحرام الذي سيق هذا القسم لبيان حكمه ، وأن يراد بالفرض الذي جعله من القسم الرابع هو فرض الثوب المتنجّس ، كما تقدّم(2) في مسألة السيد المهنّا من العلاّمة عمّن رأى في ثوب المصلّي نجاسة ، فإنّ القسم الرابع لم يفرض فيه كون فعل شخص سبباً لصدور الحرام من الشخص الآخر ، بل المفروض فيه كونه من قبيل عدم المانع ، كسكوت العالم عن إعلام الجاهل ، ولا شبهة في مناسبة الثوب المتنجّس لذلك .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص282 .

(2) في ص186 .

ــ[193]ــ

الوجه الثاني : أن يراد من كلامه الدهنُ المتنجّس في كلا الموردين مع الالتزام فيهما باختلاف الجهتين ، بأن يكون الملحوظ في القسم الثاني كونه تسبيباً لإيقاع الجاهل في الحرام ، والملحوظ في إلحاقه بالقسم الرابع هو الحرمة النفسية مع قطع النظر عن التسبيب .

قوله : ثم إنّ بعضهم استدلّ على وجوب الإعلام بأنّ النجاسة عيب خفي فيجب إظهارها .

أقول : أشكل عليه المصنّف (رحمه الله) بوجهين ، الأول : أنّ وجوب الإعلام على القول به ليس مختصاً بالمعاوضات ، بل يشمل مثل الإباحة والهبة من المجانيات . والثاني : أنّ كون النجاسة عيباً ليس إلاّ لكونه منكراً واقعياً وقبيحاً ، فإن ثبت ذلك حرم الإلقاء فيه مع قطع النظر عن مسألة وجوب إظهار العيب ، وإلاّ لم يكن عيباً فتأمّل .

أقول : إنّ ما أفاده أولا وإن كان وجيهاً ، إلاّ أنّ الثاني غير وجيه ، فإنّ النجاسة لا ينكر كونها عيباً في الأعيان النجسة والمتنجّسة ، سواء كانت من القبائح الواقعية أم لم تكن ، بل ربما يوجب جهل المشتري بها تضرّره ، كما إذا اشترى الدهن المتنجّس مع جهله بنجاسته ومزجه بدهنه الطاهر ثم اطّلع عليها ، ولعلّه لذلك أمر بالتأمّل .

والذي يسهّل الخطب أنه لا دليل على وجوب إظهار العيب الخفي في المعاملات ، وإنّما الحرام هو غش المؤمن فيها كما سيأتي في البحث عن حرمة الغش(1). وعليه فالعيب الخفي إن استلزم الغش في المعاملات وجب رفع الغش وإلاّ فلا دليل على وجوبه ، ومن المعلوم أنّ رفع الغش هنا لا ينحصر بإظهار العيب

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص461 وما بعدها .

ــ[194]ــ

الخفي ، بل يحصل بالتبرّي عن العيوب ، أو باشتراط صرفه فيما هو مشروط بالطهارة ومن هنا يعلم أنه لا وجه لتوهّم أنّ النجاسة عيب خفي يجب إظهارها حتى لا يكون غشّاً للمسلم .

ثم إنّ وجوب الإعلام بالنجاسة فيما إذا كان المشتري مسلماً مبالياً في أمر الطهارة والنجاسة ، وأمّا إذا كان كافراً أو مسلماً غير مبال في الدين فلا يجب الإعلام ، لكونه لغواً ، وإن كان الجميع مكلّفين بالفروع كتكليفهم بالأُصول .

جواز استصباح الدهن المتنجّس تحت الظلال

قوله : الثالث : المشهور بين الأصحاب وجوب كون الاستصباح تحت السماء(1).

أقول : المشهور بين الأصحاب هو جواز الاستضاءة بالدهن المتنجّس تحت السماء ، وذهب بعضهم إلى جواز الإسراج به على وجه الإطلاق ، وذهب المشهور من العامة(2) إلى جواز الاستصباح به في غير المسجد ، ففي أطعمة السرائر : وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطه في كتاب الأطعمة : روى أصحابنا أنه يستصبح به تحت السماء دون السقف . وهذا يدل على أنّ دخانه نجس ، غير أنّ عندي أنّ هذا مكروه إلى أن قال : وأمّا ما يقطع بنجاسته فقال قوم : دخانه نجس ، وهو الذي دلّ عليه الخبر الذي قدّمناه من رواية أصحابنا ، وقال آخرون ـ وهو الأقوى ـ : إنّه ليس بنجس . وقال ابن إدريس بعده : ولا يجوز الاستصباح به تحت الظلال ، لأجل التعبّد ، ثم قال : ولا يجوز الادّهان به ولا استعماله في شيء من الأشياء سوى

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 1 : 78 .

(2) راجع المجموع 9 : 237 ، حلية العلماء 4 : 62 ، الوجيز 1 : 133 .

ــ[195]ــ

الاستصباح به تحت السماء ، ثم قال : ما ذهب أحد من أصحابنا إلى أنّ الاستصباح به تحت الظلال مكروه ، بل محظور بغير خلاف بينهم ، وشيخنا أبو جعفر محجوج بقوله في جميع كتبه إلاّ ما ذكره هنا ، فالأخذ بقوله وقول أصحابه أولى من الأخذ بقوله المتفرّد من أقوال أصحابنا(1).

أقول : إنّ الروايات وإن استفاضت من الفريقين على جواز إسراج الدهن المتنجّس إلاّ أنّها خالية عن ذكر الاستصباح به تحت السماء فقط ، وستأتي الإشارة إلى هذه الروايات المستفيضة في البحث عن جواز الانتفاع بالمتنجّس(2)، نعم استدلّ على ذلك بوجوه :

الأول : دعوى غير واحد من أعاظم الأصحاب الإجماع عليه . وفيه : أنّ دعواه في المقام مجازفة ، لمخالفة جملة من الأعاظم كالشيخ(3) والعلاّمة(4) وغيرهما على أنّ الإجماع التعبّدي هنا ممنوع ، لاحتمال استناد المجمعين إلى الوجوه المذكورة في المسألة .

الثاني : الشهرة الفتوائية . وفيه : أنّها وإن كانت مسلّمة ، إلاّ أنّها ليست بحجّة .

الثالث : مرسلة الشيخ المتقدّمة ، المنجبر ضعفها بعمل المشهور ، وهي صريحة في كون الإسراج به تحت السماء .

وفيه : أنّ من المظنون أنّها صدرت من سهو القلم ، فإنّ أصحاب الحديث لم ينقلوها في اُصولهم حتى الشيخ بنفسه في تهذيبيه ، وظاهر قوله (رحمه الله) : روى

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) السرائر 3 : 121 .

(2) في ص209 ـ 210 .

(3) المبسوط 6 : 283 .

(4) المختلف 8 : 349 (نقل بالمضمون) .

ــ[196]ــ

أصحابنا أنه يستصبح به تحت السماء ، يقتضي كون الرواية مشهورة في المقام . فلا وثوق بوجود الرواية المذكورة ، نعم لو كانت العبارة أنه : روي أنه يستصبح به تحت السماء ، كانت حينئذ رواية مرسلة .

وإذا سلّمنا كون العبارة المذكورة رواية مرسلة ، فإنّ العمل بها لا يجوز للإرسال . وتوهّم انجبارها بعمل المشهور بها ممنوع صغرى وكبرى كما هو واضح خصوصاً مع مخالفة الشيخ (رحمه الله) فإنّه حملها على الكراهة ، ومخالفة العلاّمة (رحمه الله) فإنّه أعرض عنها ، وجعل العلّة في تحريم الإسراج به تحت الظلال هي حرمة تنجيس السقف ، قال في المختلف : نعم لو كان صعود بعض الأجزاء الدهنية بواسطة الحرارة موجباً لتنجّس السقف فلا يجوز الاستصباح به تحت الظلال ، وإلاّ فيجوز مطلقاً(1).

الرابع : ما نقلناه عن العلاّمة من أنّ الاستصباح به تحت الظلال يوجب تنجيس السقف ، لتصاعد بعض الأجزاء الدهنية قبل إحالة النار إيّاه إلى أن تلاقي السقف ، فهو حرام .

ولكن يرد عليه أوّلا : أنّ دخان النجس كرماده ليس بنجس ، للاستحالة . ومجرد احتمال صعود الأجزاء الدهنية إلى السقف قبل الاستحالة لا يمنع عن الإسراج به تحت الظلال ، لكونه مشكوكاً .

وثانياً : أنّ الدليل أخصّ من المدّعى ، لأنّ الدخان قد لا يؤثّر في السقف إمّا لعلوّه ، أو لقلّة الزمان ، أو لخروجه من الأطراف ، أو لعدم وجود دخان فيه .

وثالثاً : إذا سلّمنا جميع ذلك فلا دليل على حرمة تنجيس السقف ، نعم لا يجوز تنجيسه في المساجد والمشاهد ، وعليه فلا وجه للمنع عن الاستصباح به تحت

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المختلف 8 : 349 .

ــ[197]ــ

السقف من جهة حرمة تنجيسه .

قوله : لكن الأخبار المتقدّمة على كثرتها .

أقول : محصّل كلامه : أنّ المطلقات حيث كانت متظافرة وواردة في مقام البيان فهي آبية عن التقييد ، ولو سلّمنا جواز تقييدها إلاّ أنه ليس في المقام ما يوجب التقييد عدا مرسلة الشيخ ، وهي غير صالحة لذلك ، لأنّ تقييد المطلقات بها يتوقّف على ورودها للتعبّد ، أو لحرمة تنجيس السقف كما فهمها الشيخ ، وكلا الوجهين بعيد ، فلابدّ من حمل المرسلة على الإرشاد إلى عدم تنجّس السقف بالدخان .

وفيه : أنّ غاية ما يترتّب على كون المطلقات متظافرة أن تكون مقطوعة الصدور لا مقطوعة الدلالة ، إذن فلا مانع عن التقييد ، إذ هي لا تزيد على مطلقات الكتاب القابلة للتقييد حتّى بالأخبار الآحاد . وأوهن من ذلك دعوى إبائها عن التقييد من جهة ورودها في مقام البيان ، فإنّ ورودها في مقام البيان مقوّم لحجّيتها ومن الواضح أنّ مرتبة التقييد متأخّرة عن مرتبة الحجّية في المطلق ، ونسبة حجّيته إلى التقييد كنسبة الموضوع إلى الحكم ، ولا يكون الموضوع مانعاً عن ترتّب الحكم عليه .

وأمّا ما ذكره من أنّ المرسلة غير صالحة لتقييد المطلقات ففيه : أنه بناء على جواز العمل بها وانجبار ضعفها بعمل المشهور لا مانع من حملها على التعبّد المحض فتصلح حينئذ لتقييد المطلقات ، ومجرد الاستبعاد لا يكون مانعاً عن ذلك ، وإنّما الإشكال في أصل وجود المرسلة كما تقدّم . وأمّا تقييد المطلقات بها من جهة أنّ المرسلة تدل على حرمة تنجيس السقف فبعيد غايته .

قوله : لكن لو سلّم الانجبار .

أقول : قد أشار به إلى أنّها غير منجبرة بشيء كما أشرنا إليه ، لأنّ الشهرة إنّما

ــ[198]ــ

تجبر الخبر الضعيف إذا علم استنادها إليه ، ومن المحتمل أن تكون فتوى المشهور بعدم جواز الإسراج به تحت السقف مستندة إلى ما ذهب إليه العلاّمة من حرمة تنجيس السقف ، لا إلى المرسلة المذكورة .

قوله : ولو رجع إلى أصالة البراءة حينئذ لم يكن إلاّ بعيداً عن الاحتياط ، وجرأة على مخالفة المشهور .

أقول : لا يكون البعد عن الاحتياط مانعاً عن الرجوع إلى البراءة في شيء من الموارد ، وأمّا الجرأة على خلاف المشهور فلا محذور فيها ، لأنّ الشهرة ليست بحجّة .

جواز الانتفاع بالدهن المتنجّس في غير الاستصباح

قوله : هل يجوز الانتفاع بهذا الدهن في غير الاستصباح .

أقول : حاصل كلامه : أنه حيث إنّ جواز الانتفاع بالدهن المتنجّس في غير الاستصباح لم ترد فيه إلاّ رواية ضعيفة(1) في جعله صابوناً ، فلابدّ من الرجوع فيه إلى القواعد . ثم قرّب الجواز . وعن الحنفية التصريح بذلك(2).

وقد يتوهّم عدم جواز استعماله في غير الاستصباح مطلقاً ، استناداً إلى رواية قرب الإسناد الدالّة على عدم جواز التدهّن به(3). ولكن الرواية ضعيفة السند .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يأتي ذكرها في ص210 ، الهامش (2) .

(2) في الفقه على المذاهب الأربعة 2 : 209 عن الحنفية : فيجوز أن يبيع دهناً متنجّساً ليستعمله في الدبغ ودهن عدد الآلات (الماكينات) ونحوها .

(3) روى في قرب الإسناد : 261 / 1033 ، والوسائل 17 : 100 / أبواب ما يكتسب به ب7 ح5 عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال : « سألته عن حبّ دهن ماتت فيه فارة ؟ قال : لا تدهن به ، ولا تبعه من مسلم » وهي مجهولة بعبدالله بن الحسن .

ــ[199]ــ

لا يقال : إنّ هذه الرواية لا يجوز العمل بها وإن كانت صحيحة ، لأنّها غير معمول بها بين الأصحاب ، لفتواهم بجواز الانتفاع بالدهن المتنجّس في غير الاستصباح أيضاً ، فإنّه يقال : قد ذكرنا في علم الاُصول(1) أنّ إعراض المشهور عن الرواية الصحيحة لا يوجب الوهن فيها ، وقد أشرنا إليه في الكلام عن رواية تحف العقول .

لا يقال : إنّ هذه الرواية مجملة لا تفي باثبات المقصود ، فإنّه يحتمل أن يكون قوله (عليه السلام) : « لا تدهن به » من باب الافتعال بالتشديد ، فيكون دالا على عدم جواز تنجيس البدن ، أو من باب الإفعال ، فلا يمكن الاستناد إليها في عدم جواز الاستعمال مطلقاً ، فإنّه يقال : إنّ ظاهر الرواية هو النهي عن طلي البدن بالدهن المتنجّس ، ومن الواضح أنّ الإدهان من الإفعال بمعنى الخدعة ، وأنّ الذي بمعنى الطلي هو من باب الافتعال .

والذي ينبغي أن يقال : إنّ جواز الانتفاع بهذا الدهن في غير الموارد المنصوصة وعدم جوازه مبني على تحقيق الأصل في الانتفاع بالمتنجّس ، فهل الأصل يقتضي جواز ذلك أو حرمته حتى يخرج الخارج بالدليل ؟ فذهب جمع من الأصحاب إلى الثاني ، وقال جمع من المتأخّرين بالأول ، وهو الأقوى ، وهو مقتضى أصالة البراءة الثابتة بالأدلّة المستفيضة ، ويدل هذا الأصل على إباحة ما لم يرد فيه نهي وحلّيته ، ومن البيّن أنّ الانتفاع بالمتنجّس في غير ما هو مشروط بالطهارة من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الاُصول 2 (موسوعة الإمام الخوئي 47) : 236 ، 280 .

ــ[200]ــ

صغريات ذلك .

قوله : وقاعدة حل الانتفاع بما في الأرض .

أقول : لا وجه لهذه القاعدة إلاّ قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الاَْرْضِ جَمِيعاً)(1).

ولكن الآية ليست بدالّة على جواز الانتفاع بجميع ما في الأرض ليكون الانتفاع بالمتنجّس من صغرياته ، بل هي إمّا ناظرة إلى بيان أنّ الغاية القصوى من خلق الأجرام الأرضية وما فيها ليس إلاّ خلق البشر وتربيته وتكريمه ، وأمّا غير البشر فقد خلقه الله تعالى تبعاً لخلق الإنسان ومقدّمة له . ومن البديهي أنّ هذا المعنى لا ينافي تحليل بعض المنافع عليه دون بعض .

وإمّا ناظرة إلى أنّ خلق تلك الأجرام وتكوينها على الهيئات الخاصّة والأشكال المختلفة والأنواع المتشتّتة من الجبال والأودية والأشجار والحيوانات على أنواعها ، وأنحاء المخلوقات من النامي وغيره ، لبيان طرق الاستدلال على وجود الصانع وتوحيد ذاته وصفاته وفعاله ، وعلى اتقان فعله وعلو صنعه وكمال قدرته وسعة علمه . إذن فتكون اللام للانتفاع ، فإنه أي منفعة أعظم من تكميل البشر . ولعلّ هذا هو المقصود من قوله (عليه السلام) في دعاء الصباح : « يامن دلّ على ذاته بذاته » .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) البقرة 2 : 29 . وفي مجمع البيان 1 : 172 : المعنى : أنّ الأرض وجميع ما فيها نعم من الله تعالى مخلوقة لكم إمّا دينية فتستدلون بها على معرفته ، وإمّا دنياوية فتنتفعون بها بضروب النفع عاجلا .

 
 




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net