مستثنيات الغيبة 

الكتاب : مصباح الفقاهة في المعاملات - المكاسب المحرمة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 21126


مستثنيات الغيبة

قوله : الثالث : فيما استثني من الغيبة وحكم بجوازها بالمعنى الأعمّ(1).

أقول : ذكر المصنّف تبعاً لجامع المقاصد(2) أنّ المستفاد من الأخبار أنّ الغيبة المحرّمة هي ما كان الغرض منها انتقاص المؤمن وهتك عرضه ، أو التفكّه به ، أو إضحاك الناس منه . وأمّا إذا كان الاغتياب لغرض صحيح راجع إلى المغتاب ـ  بالكسر أو الفتح ـ أو إلى ثالث بحيث يكون هذا الغرض الصحيح أعظم مصلحة من احترام المؤمن وجب العمل على طبق أقوى المصلحتين ، وهذا كنصح المستشير والتظلّم ونحوهما ، وعليه فموارد الاستثناء لا تنحصر بعدد معيّن ، بل المدار فيها وجود مصلحة أهم من مصلحة احترام المؤمن . وعلى هذا المنهج جميع موارد التزاحم في الواجبات والمحرّمات ، سواء كانت من حقوق الله أم من حقوق الناس .

أقول : مقتضى الأدلّة المتقدّمة هو تحريم الغيبة بعنوانها الأوّلي ، سواء انطبقت

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 1 : 342 .

(2) جامع المقاصد 4 : 27 .

ــ[518]ــ

عليها سائر العناوين المحرّمة أم لا ، وعليه فلا وجه لجعل حرمة الغيبة تابعة لقصد هتك المؤمن ، أو التفكّه به ، أو انطباق غيرهما من العناوين المحرّمة . نعم ما ذكره المصنّف تبعاً لجامع المقاصد في ضابطة ترجيح الأهم على المهم فهو في غاية المتانة والجودة على ما نقّحناه في علم الاُصول(1)، ولا تحصى ثمراته في علم الفقه ، إلاّ أنّه لا وجه لذكر هذه الضابطة في المقام ، فإنّ الكلام هنا متمحّض لبيان مستثنيات الغيبة بحسب التعبّد بالأدلّة الخاصّة ، فلا مساس له بلحاظ المناط والعمل بطبق أقوى الملاكين . وكيف كان ، فقد عدّوا من مستثنيات الغيبة اُموراً :

الأول : المتجاهر بالفسق ، فإنّه يجوز اغتيابه بلا خلاف بين الشيعة والسنّة(2)وتدلّ على جواز غيبته جملة من الروايات :

منها : رواية هارون بن الجهم عن الصادق (عليه السلام) قال : « إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة »(3). وفيه : أنّ الرواية وإن كانت ظاهرة الدلالة على المدّعى ، ولكنّها ضعيفة السند .

ومنها : النبوي : « من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له »(4). أقول : ليس المراد في الحديث من ألقى جلباب الحياء بينه وبين ربّه حتّى قام في صفّ المتمردّين عليه وإلاّ لدلّ الخبر على جواز اغتياب كل مذنب ، لهتكهم الستر المرخى بينهم وبين

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محاضرات في أُصول الفقه 3 (موسوعة الإمام الخوئي 45) : 76 .

(2) راجع إحياء العلوم 3 : 153 .

(3) وهي ضعيفة بأحمد بن هارون . راجع الوسائل 12 : 289 / أبواب أحكام العشرة ب154 ح4 ، والبحار 72 : 253 / 32 .

(4) راجع المستدرك 9 : 129 / أبواب أحكام العشرة ب132 ح3 ، وسنن البيهقي 10 : 210
وإحياء العلوم 3 : 153 .

ــ[519]ــ

ربّهم  . وليس المراد به أيضاً من لا يبالي بارتكاب الاُمور العادية غير المناسبة لنوع الناس ، كالأكل في السوق ، والجلوس في المقاهي ، والاعتياد على الأكل في الضيافة زائداً على المتعارف ، بل المراد منه هو الفاسق المعلن بفسقه غير المبالي بالتمرّد على الشارع والجرأة على مخالفته بالإقدام على القبائح والمعاصي علناً ، فيدلّ على المقصود . إلاّ أنّه ضعيف السند .

ومنها : الروايات الدالّة على أنّ الفاسق المعلن بفسقه لا غيبة له ولا حرمة(1) إلاّ أنّها ضعيفة السند .

ومنها : ما روي عنه (عليه السلام) بطرق عديدة : « من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدّثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، كان ممّن حرمت غيبته وكملت مروّته ، وظهر عدله ، ووجبت اُخوّته »(2). فهذه الرواية دلّت بمفهومها على

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ففي الوسائل 12 : 289 / أبواب أحكام العشرة ب154 ح5 عن قرب الإسناد ]  176 / 645 [ قال (عليه السلام) : « ثلاثة ليس لهم حرمة : صاحب هوى مبتدع ، والإمام الجائر والفاسق المعلن بالفسق » وهي ضعيفة بأبي البختري . ورواها الغزالي في إحياء العلوم 3 : 153 عن الحسن .

وفي المستدرك 9 : 128 / أبواب أحكام العشرة ب134 ح1 ، 2 عن القطب عن النبي (صلّى الله عليه وآله) : « لا غيبة لثلاثة : سلطان جائر ، وفاسق معلن ، وصاحب بدعة » وهي مرسلة .

وعن السيّد فضل الله الراوندي ] في النوادر : 133 / 171 [ : « أربعة ليس غيبتهم غيبة : الفاسق المعلن بفسقه » وهي مرسلة .

وفي ح6 عن عوالي اللئالي ] 1 : 438 / 153 [ عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال : « لا غيبة لفاسق أو في فاسق » وهي مرسلة .

(2) وهي ضعيفة بعثمان بن عيسى . راجع مرآة العقول 9 : 273 / 28 . والوافي 5 : 569 / 4 ، والوسائل 12 : 278 / أبواب أحكام العشرة ب152 ح2 . وفي الوسائل 27 : 396 / كتاب الشهادات ب41 ح15 نقل هذا الحديث عن الخصال ] 208 / 28 [ والعيون ] 30 / 34 بتفاوت يسير [ ولكن ما عن الخصال ضعيف بزيد بن محمد وعبدالله بن أحمد الطائي وأبيه . وأمّا ما عن العيون فرواه الصدوق عن الرضا (عليه السلام) بطرق ثلاثة وكلّها مجهولة .

وفي المستدرك 17 : 440 / كتاب الشهادات ب35 ح9 رواه بطريقين مجهولين بداود بن سليمان وأحمد بن عامر الطائي وغيرهما . إذن فلا يجوز الاستناد إلى ذلك الحديث ، والله العالم  .

ــ[520]ــ

أنّ من ارتكب الاُمور المذكورة فهو جائز الغيبة ، ومن الواضح أنّ من ظلم الناس في معاملاتهم وكذبهم في حديثهم كان متجاهراً بالفسق .

ولكن الرواية بجميع طرقها ضعيفة السند . على أنّ الظاهر من هذه الرواية ومن صحيحة ابن أبي يعفور ورواية علقمة الآتيتين اعتبار العدالة في حرمة الغيبة ولم يلتزم به أحد .

ومنها : صحيحة ابن أبي يعفور(1) فقد دلّت على أنّ حرمة التفتيش عن أحوال الناس مترتّبة على الستر والعفاف منهم ، ومقتضى ذلك أنّ حرمة التفتيش تنتفي إذا انتفت الاُمور المذكورة .

وفيه : أنّ التفتيش غير الغيبة ، وحرمة أحدهما لا تستلزم حرمة الآخر ، نعم قد يجتمعان . ثم لو سلّمنا اتّحادهما فإنّ مقتضى ذلك اعتبار العدالة في حرمة الغيبة .

ومنها : ما في رواية علقمة عن الصادق (عليه السلام) وهو قوله : « فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً ، أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان ، فهو من أهل العدالة والستر وشهادته مقبولة ، وإن كان في نفسه مذنباً . ومن اغتابه بما فيه فهو خارج من ولاية

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع المصدر المتقدّم من الوسائل ح1 .

 
 

ــ[521]ــ

الله ، وداخل في ولاية الشيطان »(1).

قال المصنّف : دلّ على ترتّب حرمة الاغتياب وقبول الشهادة على كونه من أهل الستر وكونه من أهل العدالة ـ على طريق اللفّ والنشر ـ أو على اشتراط الكل بكون الرجل غير مرئي منه المعصية ، ولا مشهوداً عليه بها ، ومقتضى المفهوم جواز الاغتياب مع عدم الشرط ، خرج منه غير المتجاهر(2).

وفيه أولا : أنّ الرواية ضعيفة السند .

وثانياً : أنّ ظاهرها اعتبار العدالة في حرمة الغيبة ، وهو بديهي البطلان كما عرفت آنفاً .

وثالثاً : أنّ ظاهر مفهومها هو أنّ غيبة الرجل جائزة لمن يشاهد صدور المعصية منه ، أو إذا شهد عليه بها شاهدان ، وعليه فتنحصر موارد الأدلّة الدالّة على حرمة الغيبة بالعيوب البدنية والأخلاقية ، فإنّ المغتاب ـ بالكسر ـ لابدّ له من العلم حين يغتاب ، وإلاّ كان من البهتان لا من الغيبة ، وهذا خلاف صراحة غير واحد من الروايات الدالّة على حرمتها ، على أنّه لم يلتزم به أحد . نعم لو اُريد من الخطاب في قوله (عليه السلام) : « فمن لم تره بعينك » العنوان الكلّي والقضية الحقيقية ـ وكان معناه أنّ صدور المعصية منه بمرأى من الناس ومسمع منهم ، بحيث يرى الناس ويرونه وهو يوقع المعصية ـ لسلم عن هذا الإشكال .

ومنها : ما في رواية ابن أبي يعفور من قوله (عليه السلام) : « وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : لا غيبة إلاّ لمن صلّى في بيته ورغب عن جماعتنا ، ومن رغب عن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهي ضعيفة بصالح بن عقبة وعلقمة . راجع الوسائل 27 : 395 / كتاب الشهادات ب41 ح13  .

(2) المكاسب 1 : 344 .

ــ[522]ــ

جماعة المسلمين وجبت على المسلمين غيبته »(1) فإنّه يدلّ على جواز غيبة من رغب عن الجماعة ، بل على وجوبها .

وفيه أولا : أنّ أصل الرواية وإن كانت صحيحة كما عرفت إلاّ أنّ هذه القطعة قد زيدت عليها في رواية الشيخ(2)، وهي مشتملة على ضعف في السند .

وثانياً : أنّها مختصّة بمن رغب عن الجماعة ، فلا تعمّ غيره .

وثالثاً : أنّ ظاهر الرواية هو دوران الغيبة والعدالة إثباتاً ونفياً مدار حضور الجماعة والرغبة عنها ، ويدلّ على هذا من الرواية أيضاً قوله (عليه السلام) بعد القطعة المذكورة : « وسقطت بينهم عدالته ، ووجب هجرانه ، وإذا رفع إلى إمام المسلمين أنذره وحذّره ، فإن حضر جماعة المسلمين وإلاّ أحرق عليه بيته ، ومن لزم جماعتهم حرمت عليهم غيبته ، وثبتت عدالته بينهم » .

وحاصل ما تقدّم : أنّه لم يدل دليل معتبر على جواز غيبة المتجاهر بالفسق ليكون مقيّداً للإطلاقات الدالّة على حرمة الغيبة مطلقاً . نعم قد ذكرنا في معنى الغيبة أنّها عبارة عن كشف ما ستره الله على العباد ، وأيّدناه ببعض الروايات فيكون المتجاهر بالفسق خارجاً عن حدود الغيبة تخصّصاً وموضوعاً ، لأنّه قد كشف ستره بنفسه قبل أن يكشفه المغتاب ـ بالكسر ـ .

فروع

الأول : هل يعتبر في جواز غيبة المتجاهر بالفسق قصد الغرض الصحيح من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهي ضعيفة بمحمد بن موسى . راجع الباب المتقدّم من الوسائل ح2 ، والوافي 16 : 1011  / 1 .

(2) التهذيب 6 : 241 / 596 ، الاستبصار 3 : 12 / 33 .

ــ[223]ــ

النهي عن المنكر وردعه عن المعاصي ، أو لا ؟ مقتضى العمل بالإطلاقات المتقدّمة الدالّة على نفي الغيبة عن المتجاهر بالفسق هو الثاني ، إذ لم تقيّد بالقصد المذكور ، كما أنّ ذلك أيضاً مقتضى ما ذكرنا من خروج ذكر المتجاهر بالفسق عن تعريف الغيبة موضوعاً ، إذ لم يتقيّد عنوان الغيبة بأكثر من كونها كشفاً لما ستره الله .

الثاني : هل تجوز غيبة المتجاهر في جميع ما ارتكبه من المعاصي وإن لم يتجاهر إلاّ في بعضها كما عن الحدائق(1)، أو لا تجوز إلاّ فيما تجاهر فيه كما عن الشهيد الثاني (رحمه الله)(2)؟

وفصّل المصنّف بين المعاصي التي هي دون ما تجاهر فيه في القبح وبين غيرها فيجوز اغتيابه في الأول ، ولا يجوز اغتيابه في الثاني . ومثاله : من تجاهر باللواط جاز اغتيابه بالتعرّض للأجنبيات ، ومن تجاهر بقطع الطرق جاز اغتيابه بالسرقة ومن تجاهر بكونه جلاّد سلطان الجور ـ يقتل الناس ، ويمثّل بهم ، وينكّل ـ جاز اغتيابه بشرب الخمر والزنا واللواط ، ومن تجاهر بنفس المعصية جاز اغتيابه في مقدّماتها ، ومن تجاهر بالمعاصي الكبيرة جاز اغتيابه بالتعرّض لجميع القبائح . ولعلّ هذا هو المراد من قوله (صلّى الله عليه وآله) : « من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له  »(3)لا من تجاهر بمعصية خاصّة وعدّ مستوراً في غيرها ، كبعض عمّال الظلمة . انتهى ملخّص كلامه .

أقول : أمّا القول بالتفصيل المذكور فلا دليل عليه بوجه ، فإنّ بعض الناس قد يتجاهر بالذنوب الكبيرة ، كقتل النفوس المحترمة ، وشرب الخمور ، وأكل أموال

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحدائق 18 : 166 ـ 167 .

(2) كشف الريبة : 75 ، المسالك 6 : 87 .

(3) تقدّمت مصادره في ص518 الهامش رقم (4) .

ــ[224]ــ

الناس ، ومع ذلك يتستّر فيما هو دونها ، كإيذاء الجار ، والنظر إلى الأجنبيات ، وترك العبادات الواجبة .

نعم إذا تجاهر في معصية جاز اغتيابه بها وبلوازمها ، فإذا تجاهر بشرب الخمر جاز اغتيابه بتهيئة مقدّمات الشرب من الشراء والحمل أو الصنع ، فإنّ الالتزام بالشيء التزام بلوازمه . ومن ألقى جلباب الحياء في معصية ألقى جلبابه في لوازمه أيضاً . وعليه فيدور الأمر بين القول بالجواز مطلقاً ، وبين القول بعدم الجواز كذلك .

وقد يقال : إنّ الظاهر هو جواز اغتياب المتجاهر مطلقاً ، كما عن الحدائق . بل استظهره من كلام جملة من الأعلام ، بل ذكر المصنّف تصريح بعض الأساطين(1)بذلك . والوجه فيه : هو إطلاق الروايات المتقدّمة ، فإنّه دالّ على جواز غيبة المتجاهر بالفسق حتّى بذكر المعاصي التي لم يتجاهر فيها . فكأنّ تجاهره بمعصية واحدة أسقط احترامه في نظر الشارع بحيث صار مهدور الحرمة ، كما أنّ المرتدّ بارتداده يصبح مهدور الدم .

ولكنّك قد عرفت ضعف الروايات المذكورة ، فلا يمكن التمسّك بإطلاقها وعليه فالاقتصار على المقدار المتيقّن يقتضي عدم جواز غيبة المتجاهر بغير ما تجاهر فيه وفي لوازمه .

الثالث : ظهر من مطاوي ما ذكرناه أنه يعتبر في صدق التجاهر بالفسق أن يكون المتجاهر به ممّا يوجب الفسق والخروج عن العدالة ، فلو ارتكب أحد الحرام الواقعي لشبهة حكمية أو موضوعية فإنه ليس بمذنب ، فضلا عن كونه متجاهراً بالفسق .

أمّا الشبهة الحكمية فكما إذا شرب العصير التمري المغلي قبل ذهاب ثلثيه ، أو

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) شرح القواعد 1 : 228 .

ــ[525]ــ

أكل لحم الارنب لأنّه يعتقد إباحتهما بحسب اجتهاده أو اجتهاد من يقلّده ، فإنّه يكون معذوراً في هذا الارتكاب إذا تمّت له أو لمقلّده مقدّمات الاجتهاد .

وأمّا الشبهة الموضوعية فكشرب الخمر باعتقاد أنّها ماء ، وكوطي امرأة أجنبية باعتقاد أنّها زوجته ، وكقتل المؤمن باعتقاد أنه مهدور الدم ، فإنّه أيضاً معذور في هذه الأعمال ، إلاّ إذا كان مقصراً فيها .

الرابع : قد عرفت أنّ مقتضى العمل بالمطلقات هو جواز غيبة المتجاهر مطلقاً بمجرّد تجاهره بمعصية من المعاصي ، فيكون التجاهر ولو في معصية واحدة علّة تامّة لجواز الغيبة ، وعليه فلا يفرق في ذلك بين أن يكون معروفاً بالتجاهر في الفسق بين جميع الناس وفي جميع الأمكنة والأصقاع ، أو بين بعضهم وفي بعض البلاد والقرى .

وعلى هذا فلا وجه لما استشكله المصنّف من : دعوى ظهور روايات الرخصة في من لا يستنكف عن الإطّلاع على عمله مطلقاً ، فرب متجاهر في بلد ، متستّر في بلاد الغربة أو في طريق الحجّ والزيارة ، لئلاّ يقع عن عيون الناس .

نعم لو تجاهر بذلك بين جماعة هم أصحاب سرّه ورفقائه في العمل فإنّه لا يعدّ متجاهراً بالفسق .

ولكن قد عرفت ضعف المطلقات المذكورة ، فلا يمكن الاستناد إليها في تجويز هتك عرض المؤمن وافتضاحه بين الناس ، ولا تصلح لتقييد المطلقات الدالّة على حرمة الغيبة . إذن فلا تجوز غيبة المتجاهر إلاّ لمن تجاهر بالمعصية عنده ، لا من جهة الروايات ، بل لعدم تحقّق مفهوم الغيبة مع التجاهر ، على ما ذكرناه في تفسيرها والله العالم .

ولقد أجاد المصنّف حيث قال : وبالجملة ، فحيث كان الأصل في المؤمن الاحترام على الإطلاق ، وجب الاقتصار على ما تيقّن خروجه .

ــ[526]ــ

قوله : وهذا هو الفارق بين السبّ والغيبة .

أقول : قد تقدّم توضيح ذلك في البحث عن حرمة سباب المؤمن ، وقلنا : إنّ النسبة بين الغيبة وسبّ المؤمن هي العموم من وجه(1).

جواز تظلّم المظلوم

قوله : الثاني : تظلّم المظلوم وإظهار ما فعل به الظالم وإن كان متستّراً به(2).

أقول : ذكر الشيعة والسنّة(3) من مستثنيات حرمة الغيبة تظلّم المظلوم وإظهار ما أصابه من الظالم وإن كان متستّراً في ظلمه إيّاه ، كما إذا ضربه أو شتمه أو أخذ ماله أو هجم على داره في مكان لا يراهما أحد أو لا يراهما من يتظلّم إليه ، فإنه يجوز للمظلوم أن يتظلّم بها إلى الناس .

ويدلّ عليه قوله تعالى : (لاَ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ)(4) فقد ثبت من الخارج أنّ الغيبة من الجهر بالسوء ، فإنّها إظهار ما ستره الله من العيوب الموجبة لهتك المقول فيه وإهانته كما عرفت ، وعليه فتنطبق الآية على ما نحن فيه ، وتكون النتيجة أنّ الله لا يحبّ الاغتياب إلاّ للمظلوم ، فإنّ له أن يتظلّم إلى الناس بذكر مساوئ الظالم وإن لم يرج ارتداعه عن ظلمه إيّاه .

وأمّا الرواية المفسّرة للجهر بالسوء بأنّ المراد به الشتم(5) فمضافاً إلى ضعف

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع ص434 .

(2) المكاسب 1 : 347 .

(3) راجع إحياء العلوم للغزالي 3 : 152 .

(4) النساء 4 : 148 .

(5) راجع مجمع البيان 3 : 201 .

ــ[527]ــ

السند فيها ، أنّ انطباقه على ذلك لا ينافي انطباقه على الغيبة أيضاً ، لما عرفت مراراً من أنّ الروايات الواردة في تفسير القرآن كلّها لبيان المصداق وتنقيح الصغرى .

وقيّد الشهيد في كشف الريبة(1) وجمع ممّن تأخّر عنه جواز الغيبة هنا بكونها عند من يرجو منه إزالة الظلم عنه ، اقتصاراً في مخالفة الأصل الثابت بالعقل والنقل على المتيقّن ، إذ لا عموم في الآية ليتمسّك به في إثبات الإباحة مطلقاً . وما ورد في تفسير الآية من الأخبار لا ينهض للحجّية ، مع أنّ المروي عن الباقر (عليه السلام) في تفسيرها المحكي عن مجمع البيان : أنّه لا يحبّ الشتم في الانتصار إلاّ من ظلم .

وفيه : أنّ الآية وإن لم تشتمل على شيء من ألفاظ العموم وأدواته إلاّ أنّ قوله  : (إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ) مطلق ، فبمقتضى مقدّمات الحكمة فيه يفيد العموم ، وعليه فيجوز للمظلوم اغتياب الظالم سواء احتمل ارتداعه أم لا .

ويدلّ على الحكم المذكور ما في تفسير القمّي من الرخصة للمظلوم في معارضة الظالم(2)، وكذلك يدلّ عليه ما ورد في تطبيق الآية على ذكر الضيف إساءة المضيف إيّاه(3). ولكن جميع ذلك ضعيف السند .

ثم إنّ المراد من إساءة الضيافة هو هتك الضيف وعدم القيام بما يليق بشأنه وبما تقتضيه وظائف الضيافة والمعاشرة المقرّرة في الشريعة المقدّسة ، ويسمّى ذلك في لغة الفرس بكلمة (پذيرائى) وليس المراد بها ترك ما يشتهيه الضيف ويتمنّاه زائداً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كشف الريبة : 73 .

(2) تفسير القمّي 1 : 157 .

(3) في مجمع البيان 3 : 202 ، والوسائل 12 : 290 / أبواب أحكام العشرة ب154 ح7 في قوله تعالى : (لاَ يُحِبُّ اللهُ) الخ عن أبي عبدالله (عليه السلام) « إنّه الضيف ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته ، فلا جناح عليه في أن يذكره بسوء ما فعله » وهي مرسلة .

ــ[528]ــ

على المقدار المتعارف .

وبعبارة اُخرى : حقّ الضيف على المضيف أن يكرمه ويحترمه بالحدّ الأوسط  ، فلا تجوز له مطالبته بالحدّ الأعلى ، ولا يجوز للمضيف أن يعامل ضيفه بالحدّ الأدنى ، وإلاّ لجاز لأي منهما أن يذكر ما فعله الآخر معه من المساءة ، لأنّه نوع من التظلّم ، فيكون مشمولا للآية من دون احتياج إلى الرواية ، وحينئذ فيكون تطبيق الآية على إساءة الضيافة مؤيّداً لما ذكرناه .

وقد يستدل على الجواز هنا باُمور غير ناهضة للدلالة على المقصود :

الأول : قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ)(1) وقوله تعالى : (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيل)(2) بدعوى أنّ ذكر المظلوم ما فعله الظالم معه من السوء نحو من الانتصار ، فيكون مشمولا للآيتين .

وفيه : أنّ الآيتين أجنبيتان عمّا نحن فيه ، بل هما راجعتان إلى جواز الاعتداء والانتقام بالمثل ، نظير قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)(3). وقد ذهب إلى هذا جمع من الأكابر ، حتّى صرّح الأردبيلي(4)في محكي كلامه بجواز اعتداء المضروب بالضرب والمشتوم بالشتم كما عرفته إجمالا في البحث عن حرمة السبّ(5). ويدلّ على ما ذكرناه من حمل الآيتين على الانتقام بالمثل قوله تعالى بينهما : (وَجَزَاءُ سَيِّئَة سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) .

ودعوى أنّ الغيبة نحو من الاعتداء دعوى جزافية ، فإنه لا إطلاق للآيتين

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ، (2) الشورى 42 : 39 ، 41 .

(3) البقرة 2 : 194 .

(4) زبدة البيان في أحكام القرآن : 680 .

(5) في ص433 .

ــ[529]ــ

بالنسبة إلى المجازاة بالمحرّمات ، وإلاّ لجاز الاعتداء بالزنا ونحوه ، ولم يلتزم به أحد بل هو ضروري البطلان .

الثاني : أنّ في منع المظلوم من التظلّم حرجاً عظيماً ، بل ربما لا يتحمّله إلاّ الأوحدي من الناس .

وفيه : أنّ هذا لا يتم في جميع الموارد ، فرب شخص يتحمّل ما لا يحصى من المصائب الشديدة والنوائب العسرة حتّى من الأشخاص الدنيّة بغير حرج ومشقّة . على أنّ في شمول دليل الحرج للمقام إشكالا بل منعاً ، لأنّه مناف للامتنان في حقّ المغتاب ـ بالفتح ـ وقد حقّقنا في معنى أدلّة الحرج والضرر(1) أنّها أدلّة امتنانية وإنّما تجري إذا لم يلزم من جريانها خلاف الامتنان في حقّ الآخرين .

الثالث : أنّ في تشريع الجواز مظنّة ردع الظالم ، وهي مصلحة خالية عن المفسدة ، فتوجب الجواز ، فإنّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد على مسلك العدلية .

وفيه : أنّ الأحكام الشرعية وإن كانت تابعة للملاكات الواقعية ، إلاّ أنّ المصلحة المظنونة لا تقاوم المفسدة المقطوعة ، لأنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً . على أنه ربما لا يرتدع الظالم باغتيابه ، بل قد لا يرتدع بما هو أعظم من الاغتياب ، على أنّ لازم هذا الوجه هو جواز اغتيابه حتّى من غير المظلوم ، فإنّ الظنّ بالارتداع موجود فيهما ، بل قد يكون ذكر غير المظلوم آكد في ردع الظالم .

الرابع : ما في رواية قرب الإسناد المتقدّمة في البحث عن جواز غيبة المتجاهر بالفسق(2) وهو قوله (عليه السلام) : « ثلاثة ليس لهم حرمة : صاحب هوى مبتدع

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مصباح الأُصول 2 (موسوعة الإمام الخوئي 47) : 625 ، 632 .

(2) في ص519 الهامش رقم (1) .

ــ[530]ــ

والإمام الجائر ، والفاسق المعلن بالفسق » بدعوى أنّ عدم احترام الإمام الجائر إنّما هو لجوره ، لا لتجاهره بالفسق ، وإلاّ لم يكن قسيماً للفاسق المعلن بفسقه .

وفيه أولا : أنّها ضعيفة السند كما عرفته في المبحث المذكور . وثانياً : يمكن أن يراد من الإمام الجائر من يتقمّص بقميص الخلافة على غير استحقاق ، ويشغل منصب الإمامة بغير رضى من الله ورسوله . ويمكن أن يراد به مطلق القاعد الذي يجور على الناس ويظلمهم ، سواء ادّعى الخلافة مع ذلك أم لا ، ويعبّر عنه في لغة الفرس بلفظ (زمامدار) وعليه فيدخل فيه من يقضي بين الناس أو يفتيهم على غير هدى من الله ورسوله . وعلى كل حال ، فلا دلالة في توصيف الإمام بالجور على علّيته لجواز الغيبة ، فإنّ عطف الفاسق عليه من قبيل عطف العام على الخاص .

على أنّ الرواية المذكورة مروية عن النبي بسند آخر(1) وهي تشتمل على توصيف الإمام بالكذّاب . على أنّ هذا الوجه لو دلّ على الجواز لم يختصّ بخصوص المظلوم ، فإنّ الإمام الجائر يجوز اغتيابه لكل أحد ، فعموم العلّة ـ أعني الجور  ـ يقتضي عموم الحكم .

الخامس : قوله (صلّى الله عليه وآله) : « فإنّ لصاحب الحقّ مقالا »(2).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهي مجهولة بموسى بن إسماعيل . راجع المستدرك 9 : 128 / أبواب أحكام العشرة ب134 ح2 .

(2) في مرآة العقول 10 : 419 . وسنن البيهقي 6 : 52 / باب ما جاء في التقاضي . وصحيح البخاري 2 : 37 / باب الوكالة في قضاء الدَين عن أبي هريرة : « أنّ أعرابياً تقاضى النبي (صلّى الله عليه وآله) ديناً كان له عليه فأغلظ له ، فهمّ به أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال النبي : دعوه ، فإنّ لصاحب الحقّ مقالا ، ثم قال : اقضوه ، فقالوا : لا نجد إلاّ سنّاً أفضل من سنّه ، قال : اشتروه واعطوه ، فإنّ خيركم أحسنكم قضاء » .

وفي إحياء العلوم 3 : 152 ذكر هذه الجملة : « إنّ لصاحب الحقّ مقالا » في مسوغات الغيبة ، ولم يذكر المصدر .

ــ[531]ــ

وفيه أولا : أنّه ضعيف السند ، وغير منجبر بشيء . وثانياً : أنّه لا دليل إلاّ على ثبوت المقال لصاحب الحقّ من حيث الكبرى ، أي في موارد ثبوت الحقّ له بالفعل ، وأمّا إحراز الصغرى فلابدّ وأن يكون بأدلّة اُخرى .

ومعنى الحديث أنّ كل من ثبت له حق فعلي على أحد من الحقوق المالية والعرضية والبدنية وغيرها فله مقال في المطالبة به ، والمرافعة عليه . وعلى هذا فلا تشمل المظلوم الذي اُضيع حقّه ، وفات بالظلم عليه ، إذ ليس له حق فعليّ حتّى يكون له مقال في المطالبة به ، والمرافعة عليه .

ويحتمل اختصاصه بالدَين فقط ، فيكون مساوقاً لقوله (صلّى الله عليه وآله) : «  ليّ الواجد بالدَين يحلّ عرضه وعقوبته ما لم يكن دَينه فيما يكره الله عزّوجلّ  »(1).

عدم جواز الغيبة في ترك الأولى

لا يجوز للمظلوم أن يغتاب الظالم بترك الأولى ، لعدم الدليل عليه . وقد يستدل على الجواز بروايتين :

الاُولى : رواية حمّاد بن عثمان الواردة في استقضاء الدَين(2)، فإنّها ظاهرة في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهي ضعيفة بهارون . راجع الوسائل 18 : 333 / أبواب الدَين والقرض ب8 ح4 . وفي سنن البيهقي 6 : 51 روى هذه الجملة : « ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته » في أحاديث شتّى  . وفي المستدرك 13 : 397 / أبواب الدَين والقرض ب8 ح5 روى هذه الجملة : « ليّ الواجد يحلّ عقوبته » عن عوالي اللئالي ] 4 : 72 / 44 [ مرسلا .

(2) ففي الكافي 5 : 100 / 1 ، والوافي 18 : 801 / 7 ، والوسائل 18 : 348 / أبواب الدَين والقرض ب16 ح1 عن حمّاد قال : « دخل رجل على أبي عبدالله (عليه السلام) فشكى إليه رجلا من أصحابه ، فلم يلبث أن جاء المشكو ، فقال له أبو عبدالله (عليه السلام) ما لفلان يشكوك ؟ فقال له : يشكوني أنّي استقضيت منه حقّي ، قال : فجلس أبو عبدالله مغضباً ثم قال : كأنّك إذا استقضيت حقّك لم تسئ ، أرأيت ما حكى الله عزّوجلّ فقال : (وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) أترى أنّهم خافوا الله أن يجور عليهم ، لا والله ما خافوا إلاّ الاستقضاء ، فسمّاه الله سوء الحساب ، فمن استقضى فقد أساء » وهي ضعيفة بمعلّى بن محمد .

ورواها في التهذيب 6 : 194 / 425 بسند فيه جهالة بمحمّد بن يحيى الصيرفي ، وفي المستدرك 13 : 406 / أبواب الدَين والقرض ب16 ح3 عن العياشي ] في التفسير 2 : 210 / 41 [ مرسلا .

ــ[532]ــ

جواز الشكوى من الدائن لتركه الأولى ، لأنّ الإمهال في قضاء الدَين من الاُمور المستحبّة .

وفيه أولا : أنّها ضعيفة السند . وثانياً : أنّ ظاهر الفرض في الرواية أنّ الدائن قد تعدّى على المديون ، فطلب منه أداء الدَين مع عدم وجوب الأداء عليه لعسر أو لغيره ، ولا شبهة أنّ ذلك ظلم تباح معه الغيبة .

ويؤيّد ذلك أنّ الإمام (عليه السلام) لم يوجب على المديون أداء الدَين ، ولو كان واجداً ولم يكن له عذر لكان أداء الدَين واجباً عليه بلا ريب ، لما ورد « أنّ ليَّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته » وقد عرفت ذلك آنفاً .

هذا كلّه على النسخة المعروفة التي تبعها صاحب الوسائل والمصنّف في النقل وأمّا على نسختي الوافي والمستدرك وما ذكره المجلسي(1) عن بعض النسخ القديمة من تبديل الضاد المعجمة في « استقضيت » في الموضعين بالصاد المهملة فالرواية تكاد تكون نصّاً فيما ذكرناه ، فإنّ معنى الاستقصاء في الحقّ البلوغ إلى الغاية

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع مرآة العقول 19 : 54 / باب آداب اقتضاء الدَين ح1 .

ــ[533]ــ

في المطالبة . ومن الواضح أنّ ذلك قد يؤدّي إلى الهتك والظلم ، فيكون حراماً . وعليه فتكون الرواية من جملة ما دلّ على جواز اغتياب الظالم من قبل المظلوم بذكر أوصافه المحرمة كما تقدّم .

ومن تأمّل الرواية وتشديد الإمام (عليه السلام) فيها على المشكو عليه واستشهاده بالآية يطمئن بصحة نسخة الوافي . على أنّ المحدّث الكاشاني دقيق في نقله . ومع الإغضاء عن جميع ما ذكرناه وتسليم عدم ظهور الرواية فيما نقول فليس لها ظهور فيما ذكره المصنّف أيضاً ، فتكون مجملة .

الثانية : مرسلة ثعلبة بن ميمون(1)، قال : « كان عنده قوم يحدّثهم إذ ذكر رجل منهم رجلا فوقع فيه وشكاه ، فقال له أبو عبدالله (عليه السلام) : وأنّى لك بأخيك كلّه ، وأي الرجال المهذّب » فإنّ الظاهر من الجواب أنّ الشكوى إنّما كانت من ترك الأولى الذي لا يليق بالأخ الكامل المهذّب .

وفيه أولا : أنّها ضعيفة السند . وثانياً : أنّ جواب الإمام (عليه السلام) ظاهر في أنّ الصنع الذي شكى منه الرجل أمر يرتكبه جميع الناس ، وليس يوجد من لا يرتكبه إلاّ الأوحدي ، وعليه فيخرج هذا عن موضوع الغيبة ، فقد عرفت أنّها كشف ما ستره الله .

وقد يستدل على جواز الغيبة بترك الأولى بما ورد في ذكر الضيف مساوئ ضيافة المضيف ، فإنّ ذلك ليس إلاّ من ترك الأولى.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) عمّن ذكره عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « كان عنده قوم يحدّثهم إذ ذكر رجل منهم رجلا فوقع فيه وشكاه ، فقال له أبو عبدالله (عليه السلام) : وأنّى لك بأخيك كلّه ، وأي الرجال المهذّب » وهي مرسلة . راجع الوافي 5 : 574 / 10 ، والوسائل 12 : 85 / أبواب أحكام العشرة ب56 ح1 .

ــ[534]ــ

وفيه : مضافاً إلى ضعف السند فيه ، أنّك قد عرفت(1) أنّ المراد من إساءة الضيافة في الرواية هو الهتك والظلم والإهانة ، وإلاّ لما صّح تطبيق الآية على الموارد  . وأمّا ما في حاشية الإيرواني(2) من دعوى أنّ ترك الأولى نوع من الظلم فلا وجه له .

نصح المستشير

قوله : فيبقى من موارد الرخصة لمزاحمة الغرض الأهم صورٌ تعرّضوا لها
منها  : نصح المستشير .

أقول : مستثنيات الغيبة التي ذكروها تندرج في واحد من ثلاثة عناوين :

الأول : ما كان خارجاً عنها موضوعاً ، كذكر المتجاهر بالفسق ، إذا خصّصنا الجواز بذكر ما تجاهر فيه من المعاصي ، وقد تكلّمنا فيه مفصّلا . ومن هذا القبيل ذكر الأشخاص بالأوصاف الظاهرة ، كالأعمش والأحول والأعرج ونحوها ، بل من المتعارف في كل زمان ذكر الناس بالأوصاف الواضحة ، كما هو كذلك في كثير من الرواة . والوجه في ذلك هو ما تقدّم في معنى الغيبة من كونها إظهاراً لما ستره الله على المقول فيه ، فذكر الاُمور الظاهرة ليس منها في شيء .

الثاني : أن تكون في الغيبة مصلحة تزاحم المفسدة في تركها ، كما إذا توقّف حفظ النفس المحترمة أو الأموال الخطيرة أو صيانة العرض عن الخيانة على الغيبة . ولابدّ حينئذ من ملاحظة قواعد التزاحم ، والعمل على طبق أقوى الملاكين . وعليه فتتّصف الغيبة بالأحكام الخمسة كما هو واضح .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص527 .

(2) حاشية المكاسب (الإيرواني) 1 : 210 .

ــ[535]ــ

الثالث : ما كان خارجاً عن الغيبة بالتخصيص ، وهو على قسمين ، الأول : أن يكون الخروج بدليل مختص بالغيبة ، كتظلّم المظلوم ، وقد تقدّم الكلام فيه . الثاني : أن يكون الخروج بدليل عام جار في أبواب الفقه ، ولا يختص بالغيبة فقط ، كأدلّة نفي الحرج والضرر .

هذا كلّه بحسب الكبرى ، وأمّا بحسب الصغرى فقد ذكروا لها موارد عديدة :

الأول : نصح المستشير ، قال المصنّف : فإنّ النصيحة واجبة للمستشير ، فإنّ خيانته قد تكون أقوى مفسدة من الوقوع في المغتاب ، وكذلك النصح من غير استشارة .

وعليه فالنسبة بينه وبين الغيبة عموم من وجه ، لأنّ الغيبة قد تتحقّق بإظهار العيوب المستورة حيث لا يتحقّق النصح ، كما هو الكثير . وقد يتحقّق النصح حيث لا تتحقّق الغيبة ، كما إذا لم يتوقّف على ذكر أحد بالسوء . وقد يجتمعان ، كما إذا استشاره أحد في التزوّج بامرأة معلومة ، وهو يعلم أنّها فاجرة ومتبرّجة ، أو استشاره في مصاحبة رجل في السفر أو التجارة أو المجالسة ، وهو يعلم أنّه خائن وسيء الخُلق وشارب الخمر ومرتكب الفجور وآكل أموال الناس بالظلم والعدوان  ، أو استشاره في التلمذة عند شخص وهو يعلم أنه سيء العقيدة أو سيء العمل ، فإنّ النصح في الموارد المذكورة يتوقّف على الغيبة . وعلى هذا فإن كان دليل وجوب النصح ودليل حرمة الغيبة من قبيل المتعارضين تساقطا معاً في مادّة الاجتماع ، وكان المرجع إلى أصالة الإباحة . وإن كانا من قبيل تزاحم المقتضيين فلابدّ في ترجيح أحدهما على الآخر من ملاحظة أقوى الملاكين .

ولكن الظاهر أنّ ما نحن فيه من صغريات باب التزاحم ، لا التعارض ، فإنّ الغيبة في موارد الاجتماع مأخوذة في مقدّمات النصح ، وأنه يتولّد منها ويتوقّف عليها ، نظير توقّف إنقاذ الغريق والإتيان بالصلاة على التصرف في ملك غيره .

ــ[536]ــ

وعليه فيتّصف كل من النصح والغيبة بالأحكام الخمسة حسب اختلاف الموارد بقوّة الملاك وضعفه على ما تقدّمت الإشارة إليه ، فإن تساوى الملاكان كان النصح والغيبة مباحين ، وإن زاد أحدهما على الآخر كان الزائد متّصفاً بالوجوب أو الاستحباب بقدر ما فيه من زيادة الملاك ، وكان الناقص محرّماً أو مكروهاً بمقدار ما فيه من نقصه ، هذا كلّه مع تسليم وجوب النصح .

ولكن بعد التأمّل في الأخبار الموهمة لوجوب النصح لم نجد فيها ما يدلّ على الوجوب ، فإنّها على أربع طوائف :

الاُولى : ما دلّ على حرمة خيانة المؤمن لأخيه(1). ومن المعلوم أنّها أجنبية عمّا نحن فيه ، لعدم الملازمة بين الخيانة وترك النصيحة حتى مع الاستشارة ، لإمكان ردّه إلى غيره ، سواء كان ذلك الغير أعرف منه بحال المسؤول عنه أم لا ، ومن الواضح أنّه لو كان النصح واجباً لما جاز ردّه .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ففي الوافي 5 : 560 / 8 ، والوسائل 12 : 207 / أبواب أحكام العشرة ب122 ح10 في رواية أبي المأمون الحارثي عن أبي عبدالله « من حقّ المؤمن على المؤمن أن لا يخونه » وهي مجهولة بالحارثي .

وفي الباب المزبور من الوسائل ح2 ، والوافي 5 : 548 / 5 عن أبي المعزا عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يخونه » وهي صحيحة .

وفي الموضع المتقدّم من الوسائل ح6 ، والوافي 5 : 553 / 7 عن علي بن عقبة عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « إنّ المؤمن أخو المؤمن ، عينه ودليله ، لا يخونه » وهي صحيحة .

وفي رواية الحارث عن أبي عبدالله (عليه السلام) « المسلم أخو المسلم ـ لا يخونه » وهي ضعيفة بسهل ، ومجهولة بالمثنّى الحنّاط . إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة المذكورة في المصادر المزبورة والمستدرك 9 : 39 / أبواب أحكام العشرة ب105 .

ــ[537]ــ

الثانية : الأخبار الدالّة على وجوب نصح المؤمن ابتداءً(1) بدون سبق استشارة واستهداء ، وهي وإن كانت كثيرة ومعتبرة ، ولكنّها راجعة إلى الجهات الأخلاقية ، فتحمل على الاستحباب .

والوجه في ذلك : هو لزوم العسر الأكيد والحرج الشديد من القول بوجوب النصح على وجه الإطلاق . وتقييده بمورد الابتلاء أو بمن يفي بحقوق الاُخوّة من غير أن يضيع منها شيئاً وإن كان يرفع العسر والحرج ، ولكن قامت الضرورة على عدم وجوبه هنا أيضاً .

الثالثة : الأخبار الواردة في خصوص نصح المستشير ، وقد ادّعى غير واحد من المحدّثين وغيرهم ظهورها في الوجوب . منها : قوله (عليه السلام) في رواية ابن عمر عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « من استشار أخاه فلم ينصحه محض الرأي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ففي الوافي 5 : 335 / 4 ، والكافي 2 : 163 / 2 ، والوسائل 16 : 340 / أبواب فعل المعروف ب21 عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : « أنسك الناس نسكاً أنصحهم جيباً » وهي ضعيفة بالنوفلي .

وفي الوافي 5 : 681 / 1 ، 2 ، والوسائل 16 : 381 / أبواب فعل المعروف ب35 ح1 ، 2 والكافي 2 : 208 / 1 ، 2 عن عيسى عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « يجب للمؤمن على المؤمن أن يناصحه » وهي صحيحة . وعن ابن وهب عنه (عليه السلام) قال : « يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة له في المشهد والمغيب » وهي صحيحة . وغير ذلك من الروايات المذكورة في المصادر المتقدّمة ، وفي الوافي 5 : 985 / ب170 (ترك مناصحة المؤمن) ، والمصدر المتقدّم من الوسائل ب36 ، والكافي 2 : 362 / باب من لم يناصح أخاه المؤمن ، والمستدرك 9 : 39 / أبواب أحكام العشرة ب105 ، 12 : 429 / أبواب فعل المعروف ب35 ، 36 .

ــ[538]ــ

سلبه الله عزّوجلّ رأيه »(1) ومنها : قوله (عليه السلام) في رواية النوفلي : «  من استشاره أخوه المؤمن فلم يمحضه النصيحة سلبه الله لبّه »(2).

وفيه : أنّ التوعيد في هاتين الروايتين بالعقوبة الدنيوية من سلب اللبّ والرأي لا يدلّ على أزيد من الاستحباب ورجحان العمل ، فإنّ العقل من أعظم النعم الإلهية ، وقد منّ به سبحانه على عباده لهدايتهم ، فصرفه إلى غير ما خلق لأجله يوجب الزوال ، وهو من النقمات الشديدة . كما أنّ صرفه إلى ما خلق لأجله يوجب المزيّة والاستكمال ، ولا شبهة في رجحانه .

ومن هنا ظهر أنّ قوله (عليه السلام) في رواية عباية : « وانصح لمن استشارك  »(3) إرشاد إلى ما ذكرناه ، فيكون محمولا على الاستحباب . على أنّ الروايات المذكورة كلّها مجهولة الرواة .

ويدلّ على عدم الوجوب أيضاً ما أشرنا إليه سابقاً من جواز إرجاع المستشير إلى غيره ، فإنّه ينافي وجوب النصح .

الرابعة : الروايات الآمرة بإعانة المؤمن وكشف كربته وقضاء حاجته(4)ومن الواضح أنّ نصح المؤمن نوع منها ، فيكون واجباً.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهي مجهولة بالحسين بن حازم ، والحسين بن عمر . راجع الوسائل 12 : 44 / أبواب أحكام العشرة ب23 ح2 .

(2) وهي مجهولة بعبدالله بن سليمان النوفلي . راجع المستدرك 8 : 346 / أبواب أحكام العشرة ب22 ح1 .

(3) وهي مجهولة بيحيى ، ومالك ، وعباية . راجع الباب المذكور من المستدرك ح2 .

(4) راجع مصادقة الإخوان للصدوق ] 173 / ب30 ، 19 ، 35 وغيرها [ . والوافي 5 : 535 / ب35 وما بعده من الأبواب ، والوسائل 12 / أبواب أحكام العشرة .

ــ[539]ــ

وفيه : أنّ جميع ما ورد في حقوق الإخوان محمول على الجهات الأخلاقية فيحمل على الاستحباب ، إلاّ ما ثبت وجوبه في الشريعة ، كردّ السلام ونحوه ضرورة أنّه لم يلتزم أحد فيها بالوجوب ، بل قامت الضرورة على عدم الوجوب فتكون الضرورة قرينة على رفع اليد عن ظهورها في الوجوب .

وحاصل جميع ما قدّمناه : أنّه لا دليل على وجوب النصح بعنوانه الأوّلي مطلقاً ، إلاّ إذا كان تركه موجباً لتلف النفس ، وهتك العرض ، وذهاب المال الخطير فإنّه يجب حينئذ ، لأهمية الاُمور المذكورة .

جواز الاغتياب في مواضع الاستفتاء

الثاني : الاستفتاء إذا توقّف على ذكر الظالم بالخصوص ، بأن يقول للمفتي : ظلمني فلان في حقّي فكيف طريقي في الخلاص .

والذي تقتضيه القاعدة هو الجواز إذا كان السؤال مورداً للابتلاء مع عدم تمكّن السائل منه بغير تسمية المغتاب ، والوجه في ذلك : هو قيام الأدلّة النقلية والعقلية وضرورة المذهب على وجوب تعلّم الأحكام الشرعية التي تكون في معرض الابتلاء بها ، وعليه فإذا توقّف ذلك على ترك واجب أو ارتكاب حرام فإنّ العمل حينئذ يكون على طبق أقوى الملاكين ، ومن الواضح أنّ التعلّم أهم من ترك الغيبة ، فإنّ ترك التعلّم ينجرّ إلى اضمحلال الدين .

وأمّا بحسب الروايات فقد استدلّ على الجواز بروايتين .

الاُولى : شكاية هند زوجة أبي سفيان إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) حيث قالت : إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي ، ولم يزجرها النبي

ــ[540]ــ

(صلّى الله عليه وآله) عن قولها(1).

وفيه أولا : أنّ الرواية ضعيفة السند . وثانياً : أنّ القضية شخصية ، فيحتمل أن يكون عدم الردع لفسق أبي سفيان ونفاقه ، أو لمعروفيته بالبخل ، حتّى قيل إنّه كان مضرب المثل في البخل . على أنّ مورد الرواية من صغريات تظلّم المظلوم ، فقد عرفت جواز ذكر الظالم فيه ، فلا تدل على جواز الغيبة في مورد الاستفتاء مطلقاً . ومن هنا ظهر الجواب عمّا ورد في قصّة بيعة النساء من أنّ هند رمت زوجها أبا سفيان بأنّه رجل ممسك ، ولم يردعها الرسول (صلّى الله عليه وآله)(2).

الثانية : صحيحة ابن سنان المشتملة على ذكر الرجل اُمّه بأنّها لا تدفع يد لامس ، ولم يردعه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)(3)، فتدلّ على جواز الغيبة عند الاستفتاء .

وفيه أولا : أنّه لم يظهر لنا من الرواية كون المرأة معروفة عند النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وقد عرفت فيما سبق اعتبار العلم بالمغتاب ـ بالفتح ـ في تحقّق الغيبة .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ففي المستدرك 9 : 129 / أبواب أحكام العشرة ب134 ح4 . وإحياء العلوم 3 : 152 عن النبي (صلّى الله عليه وآله) « إنّه قال لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان حين قالت : إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني ، فقال لها : خذي لك ولولدك بالمعروف » وهي مرسلة .

(2) راجع مجمع البيان 9 : 414 .

(3) ففي الفقيه 4 : 51 / 184 ، والوافي 15 : 551 / 15 ، والوسائل 28 : 150 / أبواب حدّ الزنا ب48 ح1 عن عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : « جاء رجل إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال : إنّ اُمّي لا تدفع يد لامس ، قال : فاحبسها ، قال : قد فعلت ، قال : فامنع من يدخل عليها ، قال : قد فعلت ، قال : فقيّدها ، فإنّك لا تبرّها بشيء أفضل من أن تمنعها من محارم الله عزّوجلّ » وهي صحيحة .

 
 

ــ[541]ــ

وذكرها بعنوان الاُمومة لا يستلزم التعيين ، ويتّفق نظير ذلك كثيراً للمراجع والمجتهدين .

وثانياً : أنّ المذكور في الرواية قضية شخصية ، وخصوصياتها مجهولة لنا فيحتمل أن تكون الاُمّ متجاهرة بالزنا كما هو الظاهر من قول ابنها : « إنّ اُمّي لا تدفع يد لامس » الخ ، وعلى هذا فلا مجال لاستصحاب عدم التجاهر كما صنعه المصنّف ، على أنّه لا يترتّب عليه أثر إلاّ على القول بالأصل المثبت .

جواز الاغتياب لردع المقول فيه عن المنكر

الثالث : قصد ردع المغتاب ـ بالفتح ـ عن المنكر الذي يفعله ، وقد استدلّ المصنّف على الجواز هنا بوجهين :

الأول : أنّ الغيبة هنا إحسان في حقّه ، فإنّها وإن اشتملت على هتكه وإهانته إلاّ أنّه توجب إنقاذه من المهلكة الأبدية والعقوبة الاُخروية .

الثاني : أنّ عمومات النهي عن المنكر شاملة لذلك .

أمّا الوجه الأول ففيه أولا : أنّ الدليل أخصّ من المدّعى ، إذ ربما لا يرتدع المقول فيه عن فعل المنكر .

وثانياً : أنّ الغيبة محرّمة على المغتاب ـ بالكسر ـ ولا يجوز الإحسان بالأمر المحرّم ، فإنّه إنّما يتقبّل الله من المتّقين . وهل يتوهّم أحد جواز الإحسان بالمال المغصوب والمسروق إلاّ إذا كان أعمى البصيرة ، كبعض المنحرفين عن الصراط المستقيم . ودعوى رضى المقول فيه حينئذ بالغيبة جزافية ، فإنّها مضافاً إلى بعدها أنّ رضاه لا يرفع الحرمة التكليفية .

وأمّا الوجه الثاني : ففيه أنّه لا يجوز ردع المنكر بالمنكر ، لانصراف أدلّته عن ذلك ، وإلاّ لجاز ردع الزناة بالزنا بأعراضهم ، وردع السرّاق بسرقة أموالهم .

ــ[542]ــ

نعم قد ثبت جواز دفع المنكر بالمنكر في موارد خاصّة كما يتّضح ذلك لمن يلاحظ أبواب النهي عن المنكر وأبواب الحدود ، وقد تقدّم في البحث عن حرمة السبّ(1) جواز شتم المبدع والوقيعة فيه ، والبهت عليه ، بل وجوبها كما يظهر من بعض الروايات المتقدّمة في المبحث المذكور .

هذا كلّه فيما إذا لم يكن ردع ذلك المنكر مطلوباً من كل أحد ، وإلاّ وجب ردعه على كل من اطّلع عليه بأي نحو اتّفق ، كمن تصدّى لقتل النفوس المصونة وهتك الأعراض المحترمة ، وأخذ الأموال الخطيرة ، فإنّ منعه واجب بما هو أعظم من الغيبة فضلا عنها ، لأنّ حفظ الاُمور المذكورة أهم في نظر الشارع من ترك الغيبة ونحوها ، وقد تقدّمت الإشارة إلى حكم مزاحمة ترك الغيبة بما هو أهمّ منه(2).

جواز الاغتياب لحسم مادّة الفساد

الرابع : قصد حسم مادّة الفساد عن الناس ، كاغتياب المبدع في الدين الذي يخاف إضلاله للناس ، وقوده إيّاهم إلى الطريقة الباطلة ، ويدلّ على جواز الغيبة هنا اُمور :

الأول : أنّ مصلحة دفع فتنته عن الناس أولى من الستر عليه ، بل ربما يجب هتكه وحطّه عن الأنظار إذا لم يرتدع بالغيبة وحدها ، فإنّ حرمة الدين في نظر الشارع أهم من حرمة هذا المبدع في الدين .

الثاني : قوله (عليه السلام) في صحيحة داود بن سرحان المتقدّمة(3) في البحث

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص435 .

(2) في ص534 .

(3) في ص435 الهامش رقم (3) .

ــ[543]ــ

عن حرمة سبّ المؤمن « إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم ، وأكثروا من سبّهم والقول فيهم والوقيعة ـ الغيبة ـ وباهتوهم كي لا يطمعوا في الفساد في الإسلام » .

الثالث : ما تقدّم(1) في البحث عن جواز غيبة المتجاهر بالفسق « ثلاثة ليس لهم حرمة : صاحب هوى مبتدع ... » . ولكنّه ضعيف السند .

جواز جرح الشهود

الخامس : جرح الشهود ، وقد اتّفق الأصحاب على جواز جرحهم وإظهار فسقهم ، بل إقامة البيّنة على ذلك ، صوناً لأموال الناس وأعراضهم وأنفسهم ، إذ لولا ذلك لبغى الفسّاق في الأرض ، وأظهروا فيها الفساد ، فيدّعي الواحد منهم على غيره حقّاً مالياً أو عرضياً أو بدنياً ، أو يدّعي زوجية امرأة أجنبية لنفسه ، أو يدّعي نسباً كاذباً ليرث من ميّت ، ثمّ يقيم الشهود على دعواه من أشباه الهمج الرعاع فيصيب من أموال الناس وأعراضهم ودمائهم ما يشاء .

وأولى بالجواز من ذلك جرح الرواة الضعفاء ، إذ يتوقّف عليه حفظ الدين وصيانة شريعة سيّد المرسلين ، وقد جرى عليه ديدن الأصحاب في جميع الأمصار والأعصار ، ودوّنوا في ذلك كتباً مفصّلة لتمييز الموثّق منهم عن غيره ، بل على هذا سيرة الأئمّة (عليهم السلام) .

ويومئ إلى هذا قوله تعالى : (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا)(2) فإنّ التبيّن عن حال الفاسق الحامل للخبر لا يخلو عن الجرح غالباً .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص519 الهامش رقم (1) .

(2) الحجرات 49 : 6 .

ــ[544]ــ

ومن هنا يظهر حكم الشهادة على الناس بالقتل والزنا والسرقة والقذف وشرب الخمر ونحوها ، لإقامة الحدّ عليهم ، وقد ثبت جواز الشهادة ، بل وجوبها بالكتاب والسنّة المعتبرة ، كما يظهر ذلك لمن يراجع أبواب الشهادات .

جواز الاغتياب لدفع الضرر عن المقول فيه

السادس : جواز الاغتياب لدفع الضرر عن المغتاب ـ بالفتح ـ كما إذا أراد أحد أن يقتله أو يهتك عرضه ، أو يأخذ أمواله ، أو يضرّه بما يرجع إليه ، فإنّ غيبته جائزة لدفع الاُمور المذكورة عنه ، فإنّ حفظها أهم في الشريعة المقدّسة من ستر ما فيه من العيوب ، بل لو اطّلع عليها المقول فيه لرضي بالاغتياب طوعاً .

وقد حمل المصنّف على هذا ما ورد في ذمّ زرارة بن أعين (رحمه الله) من الأحاديث المذكورة في كتب الرجال(1)، واستوضح ذلك من صحيحة الكشي(2)الصريحة في تنزيه زرارة وتقديسه عن المطاعن والمعائب ، وأنّ ذمّ الإمام (عليه السلام) إيّاه في بعض الأحيان إنّما هو كتعييب الخضر (عليه السلام) سفينة المساكين لئلاّ يأخذها الغاصب من ورائهم ، بل تبقى صالحة لأهلها . وقد أورد الكشي (رحمه الله) في رجاله روايات عديدة مشتملة على اعتذار الإمام (عليه السلام) من قدح زرارة وذمّه والتبرّي منه لكي يصان زرارة عن كيد الخائنين ، ولا تصيبنّه فتنة المعاندين .

ولكن الظاهر أنه لا دلالة في شيء من الروايات المذكورة على مقصود المصنّف من جواز الغيبة لدفع الضرر عن المقول فيه ، فإنّك قد عرفت أنّ الغيبة إظهار ما ستره الله عليه ، ومن الواضح أنّه لم يكن في زرارة عيب ديني ليكون ذكره

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) معجم رجال الحديث 8 : 237 / 4671 .

(2) راجع رجال الكشي : 138 / 221 . وقد ذكرها المصنّف في المتن ] أي المكاسب 1 : 354 [ .

ــ[545]ــ

غيبة ، وإنّما ذمّه الإمام (عليه السلام) وتبرّأ منه لحفظ دمه وشؤونه عن الأخطار ، كما عرفت التصريح بذلك فيما أشرنا إليه من الأخبار المتقدّمة . بل الظاهر منها أنّ قدح الإمام (عليه السلام) فيه يدلّ على رفعة شأنه وعظم مقامه وجلالة مرتبته ، بحيث لا يرضى الإمام (عليه السلام) أن تمسّه أيدي الظالمين .

جواز الاغتياب بذكر الأوصاف الظاهرة

السابع : أن يكون الإنسان معروفاً بوصف يدلّ على عيب ، كالأعمش والأعرج والأشتر والأحول والأصم ، فإنّه لا محذور في ذكر المقول فيه بالأوصاف المذكورة وما يجري مجراها .

فقد كثر بين الفقهاء وعلماء الرجال ذكر الرواة وحملة الأحاديث بالأوصاف الظاهرة المعرِبة عن العيوب ، بل وعليه السيرة القطعية من حديث الأيّام وقديمها بل وكان هذا مرسوماً بين الأئمّة (عليهم السلام) أيضاً ، كما يومئ إليه بعض الأحاديث(1) الواردة في توثيق بعض الرواة ، وفي بعض الأحاديث « جاءت زينب العطّارة الحولاء إلى نساء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) » وقد تقدّم ذلك في البحث عن حرمة الغش(2).

والوجه في جواز ذلك أنّ ذكر الأوصاف الظاهرة خارج عن تعريف الغيبة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ففي الوسائل 27 : 143 / أبواب صفات القاضي ب11 ح18 عن الفضل بن عبدالملك قال : «  سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول : أحبّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً أربعة ، فذكر منهم الأحول » .

(2) في ص462 .

ــ[546]ــ

كما تقدّم(1)، لأنّها ليست ممّا ستره الله ، إلاّ إذا كان ذكرها بقصد التنقيص والتعيير فإنّه حرام من غير جهة الاغتياب .

الثامن : قال الشهيد في كشف الريبة : قيل : إذا علم اثنان من رجل معصية شاهداها فأجرى أحدهما ذكرها في غيبة ذلك العاصي جاز ، لأنّه لا يؤثّر عند السامع شيئاً . ثم قال : الأولى تنزيه النفس عن ذلك لغير غرض صحيح ، خصوصاً مع احتمال النسيان(2). ولكن الظاهر خروج هذا القسم عن الغيبة موضوعاً ، وهو واضح .

التاسع : ردّ من ادّعى نسباً ليس له ، وقد استدلّ عليه المصنّف بأنّ مصلحة حفظ الأنساب أولى من مراعاة حرمة المغتاب .

أقول : أهمية حفظ الأنساب ثابتة فيما إذا ترتّب على النسب أثر شرعي من التوارث والنظر إلى النساء ونحوهما ، وأمّا إذا لم يترتّب عليه أثر شرعي ، أو ترتّب الأثر على دعوى النسب ، كأن ادّعاه لصيانة نفسه أو عرضه أو ماله من إصابة الظالم إيّاها ، فلا تجوز الغيبة بردّ هذه الدعوى . ومع الشكّ في مورد يرجع إلى المطلقات الدالّة على حرمة الغيبة على وجه الإطلاق ، لأنّ الشبهة وإن كانت مصداقية ، إلاّ أنّ التخصيص من جهة المزاحمة ، فلابدّ من الاقتصار على المتيقّن .

العاشر : القدح في مقالة باطلة ، فإنّ وجوب حفظ الحقّ وإضاعة الباطل أهم من احترام المقول فيه . وأمّا ما وقع من بعض المتجاهرين بالنسبة إلى الأعاظم أحياء كانوا أم أمواتاً من الجهر بالسوء كإطلاق الغبي والبله ونحوهما من الألفاظ القبيحة فلا شبهة في حرمته ، لكونه من الفحش والشتم ، كما تقدّمت الإشارة إليه في

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص501 .

(2) كشف الريبة : 76 .

ــ[547]ــ

البحث عن حرمة السبّ .

قوله : ثم إنّهم ذكروا موارد للاستثناء لا حاجة إلى ذكرها .

أقول : منها تفضيل بعض العلماء على بعضهم وإن استلزم انتقاص الآخر ، ولا ريب في جوازه ، لتوقّف الغرض الأهم عليه ، وقد جرى على هذا ديدن الأصحاب في جميع الأزمان والأقطار ، خصوصاً في تعيين مراجع التقليد . ولكن هذه مرحلة كم زلّت فيها الأقدام ، عصمنا الله من الزلل .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net