5 ـ حرمة قتل المؤمن بالإكراه أو تقيّة 

الكتاب : مصباح الفقاهة في المعاملات - المكاسب المحرمة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 8015


حرمة قتل المؤمن بالإكراه أو بالتقيّة

قوله : الخامس : لا يباح بالإكراه قتل المؤمن ولو توعّد على تركه بالقتل إجماعاً .

أقول : هل يشرع بالتقيّة أو بالإكراه قتل النفوس المحترمة أو لا ؟ أمّا التقيّة فهي في اللغة(3) اسم لاتقى يتّقي ، بمعنى الخوف والتحذير والتجنّب ، والمراد بها هنا التحفّظ عن ضرر الظالم بموافقته في فعل أو قول مخالف للحقّ .

ـــــــــــــ
(3) لاحظ المصباح المنير : 669 ، المنجد : 915 مادّة وقي .

ــ[687]ــ

والظاهر أنّه لا خلاف في جوازها لحفظ الجهات المهمّة الشرعية ، بل قد عرفت في مبحث الكذب عند البحث عن أقوال الأئمّة الصادرة تقية(1) إجماع الفريقين وضرورة العقلاء وتظافر الآيات والروايات على جواز الكذب لإنجاء النفس المحترمة .

على أنّه ورد في بعض الأحاديث : « إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم ، فإذا بلغت التقيّة الدم فلا تقية »(2) فإنّ الظاهر من ذلك أنّه إذا توقّف حفظ النفس على ارتكاب أي محرّم فإنّه يصبح مباحاً مقدّمة لصيانة النفس المحترمة عن التلف ، إلاّ أنّ التقية إذا اقتضت إراقة دم محترم لحفظ دم آخر فإنّها لا تشرع حينئذ ، لما عرفت آنفاً أنّ كلا من الشخصين مشمول للحديث ، فترجيح أحدهما على الآخر ترجيح بلا مرجّح .

بل قد عرفت سابقاً أنّ الغرض الأقصى من جعل التقيّة في الشريعة المقدّسة إنّما هو حفظ أموال المؤمنين وأعراضهم ونفوسهم وما أشبه ذلك من شؤونهم ، فإذا توقّف حفظ شيء منها على إتلاف عديله من شخص آخر ارتفعت التقية حينئذ لارتفاع الغاية منها . ومثاله ما إذا اقتضت التقية إتلاف مال شخص لحفظ مال شخص آخر ، فإنّه لا يجوز إتلافه تقية .

والوجه فيه : أنّ شمول أخبار التقية لهما على حدّ سواء ، إذن فترجيح أحدهما على الآخر ترجيح بلا مرجّح كما عرفت ، فيرجع في ذلك إلى الأدلّة الدالّة على حرمة التصرّف في مال الغير بدون إذنه ، وهكذا الحال في جميع موارد التقية ، غاية

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ص627 .

(2) قد تقدّمت الرواية في البحث عن الإضرار بالناس مع الإكراه عليه ص676 .

ــ[688]ــ

الأمر أنّ ما دلّ على أنّ التقية إنّما شرعت ليحقن به الدم ناظر إلى بيان المرتبة العليا من التقية ، وليس فيه ظهور في اختصاص الحكم بهذه المرتبة فقط .

ومن هنا ظهر ما في كلام المحقّق الإيرواني ، حيث قال : ويقرب عندي أنّ المراد من هذه الأحاديث أمر وجداني يدركه العقل ، وهو أنّ التقية لمّا شرعت لغاية حفظ النفس فإذا لم تكن هذه الغاية موجودة ، بل كان الشخص مقتولا لا محالة اتّقى أو لم يتقّ فلا تقية ، لانتفاء ما هو الغرض من تشريع التقية(1).

ومع الإغضاء عمّا ذكرناه فإنّ ما أفاده إنّما يلائم قوله (عليه السلام) في رواية محمد بن مسلم : « إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم ، فإذا بلغ الدم فليس تقيّة » فإنّه يمكن أن يتوهّم منها أنّ الغاية من التقيّة هي حفظ الدم ، وإذا كان لابدّ للظالم من إراقة الدم فلا موضوع للتقية .

ولكن يباينه قوله (عليه السلام) في رواية أبي حمزة الثمالي : « إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم ، فإذا بلغت التقيّة الدم فلا تقيّة  »(2) فإنّ هذه الرواية ظاهرة بل صريحة في أنّ التقيّة إذا توقّفت على إراقة الدم فلا تقية ، فتكون هذه الرواية قرينة لبيان المراد من الرواية الاُولى أيضاً .

ثم إنّه لا فرق بين أفراد المؤمنين من حيث الصغر والكبر ، ولا من حيث الرجولة والاُنوثة ، ولا من حيث العلم والجهل ، ولا من حيث الحرّية والعبودية لإطلاق قوله (عليه السلام) « إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدم ، فإذا بلغت التقيّة الدم فلا تقيّة » .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) حاشية المكاسب (الإيرواني) 1 : 271 .

(2) وقد تقدّمت في ص676 .

ــ[689]ــ

وأمّا الإكراه ـ وقد تقدّم معناه في الأمر الثاني ـ فهو لا يسوّغ قتل النفس المحترمة بلا خلاف بين الفريقين ، والوجه فيه هو ما تقدّم من أنّ الأدلّة الدالّة على نفي الإكراه والضرر والحرج واردة في مقام الامتنان ، ومن الواضح أنّ الإضرار بالغير مناف للامتنان ، فلا يكون مشمولا لها ، فتبقى الأدلّة الدالّة على حرمة قتل النفس المحترمة سليمة عن المزاحم .

نعم إذا أجبر الظالم أحداً على قتل أحد شخصين محقوني الدم ، أو اضطرّ إليه نفسه ، كما إذا وقع من شاهق ، وكان لابدّ له من الوقوع على رأس أحدهما ، فلابدّ حينئذ من الرجوع إلى قواعد التزاحم ، ويتّضح ذلك بلحاظ ما حقّقناه في دوران الأمر بين إنقاذ أحد الغريقين(1)، فإنّه لم يستشكل أحد في وجوب المبادرة لإنقاذ الأهم منهما وترك الآخر . وهذا نظير الإكراه على إيقاع الضرر المالي على أحد الشخصين  ، وقد تقدّم الكلام فيه .

لا يقال : قد نطق القرآن الكريم في آية محكمة(2) بالتكافؤ بين الدماء المحترمة ومعه فأي معنى لملاحظة الأهم والمهم في ذلك ، وقد ورد ذلك في الأخبار المستفيضة المذكورة في أبواب القصاص(3).

فإنّه يقال : نعم ، ولكن مورد التكافؤ الذي دلّت عليه الآية والروايات إنّما هو القصاص فقط ، فلا مساس له بما نحن فيه .

ومن هنا اتّضح حكم ما لو أكره الجائر أحداً إمّا على قتل نفسه وإمّا على قتل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ذكرت الكبرى المنطبقة على المثال في محاضرات في أُصول الفقه 3 (موسوعة الإمام 45)  : 76 .

(2) وهي قوله تعالى : (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) المائدة 5 : 45 .

(3) الوسائل 29 : 75 / أبواب القصاص في النفس ب31 ، 33 وغيرهما .

ــ[690]ــ

غيره .

وقد انجلى الصبح ، وانكشف الظلام ، وظهر الفارق بين التقيّة والإكراه موضوعاً وحكماً ، والله العالم بالحقائق والأسرار .

إنّ المستحقّ للقتل قصاصاً محقون الدم

بالنسبة إلى غير ولي الدم

قوله : وأمّا المستحقّ للقتل قصاصاً فهو محقون الدم بالنسبة إلى غير ولي الدم  .

أقول : مستحقّ القتل قد يكون مهدور الدم لكل أحد ، لكونه مسلوب الاحترام ، كالنواصب الذين يظهرون العداوة والبغضاء لآل محمّد (صلّى الله عليه وآله)  . وقد يكون مهدور الدم بالنسبة إلى جميع الناس ، ولكن بإجازة حاكم الشرع كمن ثبت عليه الحدّ الشرعي الموجب للقتل . وقد يكون مهدور الدم لفريق معيّن كمن قتل مؤمناً عن عمد واختيار .

أمّا الأول : فلا شبهة في خروجه عن حدّ النفوس المحترمة قطعاً ، لأنّ الشارع المقدّس سلب احترام دمه عند كل من اطّلع على خبثه ورذالته ، فيكون مهدور الدم لجميع الناس ، ولا يكون مشمولا لقوله (عليه السلام)(1): « فإذا بلغت التقيّة الدم فلا تقيّة » . وعليه فلو اقتضت التقية أو الإكراه قتل ناصبي فلا محذور في الإقدام عليه لثبوت جوازه قبل التقيّة والإكراه ، فمعهما يكون أولى بالجواز ، إلاّ أن تترتّب الفتنة على قتله ، فإنّه لا يجوز حينئذ الإقدام على قتله ، لوجوب سدّ أبواب الفتن .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المتقدّم في ص676 .

ــ[691]ــ

وأمّا الثاني : فحكمه حكم بقيّة النفوس المحترمة ، فلا يجوز قتله بدون إذن الحاكم الشرعي حتّى مع التقيّة والإكراه ، لكونه محقون الدم بالنسبة إلى غير الحاكم الشرعي .

ومن هنا يعلم حكم الثالث أيضاً ، فإنّ الكتاب العزيز(1) إنّما أثبت السلطنة على دم القاتل لولي المقتول ، فلا يسوغ لغيره الإقدام عليه في حال من الحالات ، إلاّ مع الإذن الشرعي .

وقد انجلى ممّا ذكرناه ما في كلام المحقّق الإيرواني(2)، فإنّه (رحمه الله) استظهر من الروايات أنّ المراد من محقون الدم ما يكون محقوناً بقول مطلق  ، ويرجع في غيره إلى عموم رفع ما استكرهوا عليه(3).

حكم التقيّة والإكراه في قتل المخالفين

قوله : وممّا ذكرنا ظهر سكوت الروايتين عن حكم دماء أهل الخلاف .

أقول : قد أشرنا آنفاً(4) إلى أنّ الغرض الأقصى من التقية هو حفظ دماء الشيعة  ، وأنّ حدّها بلوغ التقية إلى الدم ، وحينئذ فما دلّ على عدم جريان التقية في الدماء المحترمة ساكت عن حكم التقية فيما إذا أدّت إلى قتل غير الشيعة من أي فرق المسلمين ، وعليه فحكم قتل المخالفين بالتقية أو بالإكراه حكم سائر المحرّمات التي ترتفع حرمتها بهما .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في قوله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً) الإسراء 17 : 33 .

(2) حاشية المكاسب (الإيرواني) 1 : 271 .

(3) راجع الوسائل 15 : 369 / أبواب جهاد النفس ب56 .

(4) في ص677 ، 687 .

ــ[692]ــ

قوله : بقي الكلام في أنّ الدم يشمل الجرح وقطع الأعضاء ، أو يختصّ بالقتل ؟ وجهان .

أقول : إنّ الظاهر من قوله (عليه السلام)(1): « إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدم  » وإن كان هو الدم الذي كان علّة لبقاء الحياة ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يمكن الحكم بجواز جرح الغير أو قطع أعضائه للتقية ، فإنّ دليل جواز التقية كدليل رفع المستكره عليه إنّما ورد في مقام الامتنان ، فلا يشمل ما إذا كان شموله منافياً له ، وعليه فيجري في موردها ما ذكرناه في مورد الإكراه ، فراجع .

قوله : فيما ينبغي للوالي العمل به في نفسه وفي رعيته . أقول : قد ورد في الروايات الكثيرة(2) حكم الوالي في نفسه ، وحكمه مع رعيته ، فلابدّ وأن يلاحظها المتقمّص لمنصب الولاية لكي لا يكون في عداد الظالمين ، بل يتصدّى لأعمال الولاية بالقسط والعدل .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net