الأقوال في المعاطاة ومدركها - الاستدلال على إفادة المعاطاة للملكية 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الاول : البيع-1   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 6639


ثمّ إنّ الأقوال في المعاطاة على ما حكاه شيخنا الأنصاري(2) ستّة :

قول بافادتها الملك اللازم مطلقاً ، وهو قول المفيد (رحمه الله)(3) من المتقدّمين

ــــــــــــــ
(2) المكاسب 3 : 37 .

(3) كما نسبه إليه في جامع المقاصد 4 : 58 وكما يظهر من عبارة المقنعة : 591 .

ــ[70]ــ

وبعض العلماء المتأخّرين كما سنبيّن إن شاء الله .

وقول بافادتها الملكية المتزلزلة والجائزة وبالتلف أو التصرّف المغيّر تصير لازمة ، وهذا قول المحقّق الكركي(1) ناسباً له إلى ظاهر الأصحاب ، وهو وإن كان قولا برأسه ولكن إسناده ونسبته إلى الأصحاب لا يخلو عن مناقشة كما ذكره شيخنا الأنصاري ، فإنّ ظاهرهم أنّها تفيد الاباحة .

الثالث : التفصيل بين ما إذا كان الدالّ على التراضي بالمعاملة لفظاً فتفيد الملك اللازم وبين غيره فتفيد الملك الجائز . وأمّا التفصيل بين ما إذا كان الدالّ على المعاملة لفظاً وعدمه فهو ليس تفصيلا في محلّ الكلام ، لأنّه تفصيل بين البيع اللفظي والمعاطاة  ، لا تفصيل في المعاطاة بين قسمين منها ، ونسب كلّ من ذلك إلى بعض معاصري الشهيد الثاني (قدّس سرّه) .

الرابع : القول بافادتها الإباحة وهذا أيضاً على قولين ، قول بافادتها حلّية جميع التصرّفات حتّى المتوقّفة على الملك ، وقول(2) بافادتها إباحة التصرّفات التي لا تتوقّف على الملك ، وهو محكي عن بعض حواشي الشهيد على القواعد .

والسادس : كون المعاطاة معاملة فاسدة لا يترتّب عليها شيء حتّى الإباحة كبقيّة العقود الفاسدة . وهو منسوب إلى العلاّمة(3) في بعض كتبه ، ولكن حكى المحقّق الكركي(4) عدوله عنه في باقي كتبه .

وما ذهب إليه العلاّمة (قدّس سرّه) إنّما يتمّ فيما إذا لم تشمل أدلّة صحّة البيع

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) جامع المقاصد 4 : 58 .

(2) هذا هو القول الخامس .

(3) النهاية 2 : 449 .

(4) جامع المقاصد 4 : 58 .

ــ[71]ــ

المعاطاة ولم يقم دليل على أنّ المعاطاة تفيد الاباحة ، فإنّه حينئذ مال للغير فلا يجوز التصرّف في مال الغير إلاّ باذنه ، ولكن كلا الأمرين ممنوع لما ستعرف إن شاء الله من إقامة الدليل على أنّ المعاطاة بيع فتشملها أدلّة صحّة البيع ، وعلى تقدير عدم تماميته نقيم البرهان على أنّها تفيد الاباحة ، فلا يبقى معه مجال لما ذهب إليه العلاّمة (قدّس سرّه) ويبقى في البين الأقوال الخمسة المتقدّمة.

وبعد ذلك نقول : البيع كما عرفت عبارة عن تبديل عين بعوض في عالم الاعتبار في جهة الملكية المبرز في الخارج بمبرز من المبرزات ، وهذا كما ترى متحقّق في المعاطاة أيضاً بأسره ، وعليه فالمعاطاة بيع حقيقة ومفيدة للملك اللازم ، إذ يشملها عمومات حلّ البيع والتجارة بل وعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(1) لأنّها بيع ومصداق للتجارة عن تراض كما يصدق عليها أنّها عقد فيجب الوفاء به ، وعليه فالقاعدة الأوّلية تقتضي قول المفيد (قدّس سرّه) .

وما أفاده شيخنا الاُستاذ (قدّس سرّه)(2) من أنّ البيع لا يصدق على المعاطاة لأنّه عبارة عن التبديل في عالم الاعتبار ، والمعاطاة تبديل فعلي خارجي ، والتبديل الاعتباري لا يوجد به خارجاً ، مندفع بأنّ المدّعى أنّ البيع أمر إنشائي أي اعتبار نفساني مبرز في الخارج بمبرز ما ، والمبرز كما يكون قولا في بعض الموارد ، كذلك يمكن أن تكون إشارة أو كتابة أو فعلا ، وصحّة ذلك بمكان من الوضوح ، ولا ندّعي أنّ الأمر الاعتباري يمكن أن يتحقّق خارجاً ، وإنّما المراد أنّ الفعل الخارجي مبرز لذلك الاعتبار النفساني ، لأنّ الاعتبار صقعه النفس دون الخارج ، ولا مانع من أن يكون المبرز فعلا من الأفعال كما يمكن أن يكون إشارة أو غيرها . نعم لو فسّرنا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 5 : 1 .

(2) منية الطالب 1 : 119 .

ــ[72]ــ

الانشاء بإيجاد المعنى باللفظ لكان لما أفاده وجه ، ولكنّا ذكرنا غير مرّة أنّ اللفظ لا يعقل أن يكون موجداً لشيء من التكوينيات أو الاعتباريات ، فليس معنى الانشاء إلاّ ما أشرنا إليه ، وعليه فالمعاطاة بيع حقيقة فتشملها أدلّة الصحّة واللزوم .

فلو قام إجماع تعبّدي على عدم إفادة المعاطاة اللزوم ، فإن قام على عدم إفادتها اللزوم على نحو الاطلاق فنتنزّل إلى ما أفاده المحقّق الثاني من الالتزام بالملك الجائز فإنّها حينئذ بيع غير لازم للاجماع فرضاً ، وأمّا إذا قلنا بأنّ الإجماع دليل لبّي لا يمكن التمسّك باطلاقه بل نأخذ بالمقدار المتيقّن منه وهو صورة عدم كون ما يدلّ على التراضي لفظاً ، فحينئذ نتنزّل إلى هذا القول ونفصّل بين ما إذا كانت القرينة الدالّة على التراضي لفظيّة فتفيد الملك اللازم وبين ما إذا لم تكن كذلك فنلتزم بالملك الجائز .

ثمّ لو تنزّلنا عن ذلك أيضاً وقلنا بأنّ المعاطاة لا تفيد الملك ولو من جهة قوله (عليه السلام) « إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام »(1) على ما سيأتي ، أو لغير ذلك ممّا أقاموه على عدم كون المعاطاة مفيدة للملك ، فنلتزم بأنّها تفيد إباحة التصرّفات إلى زمان حصول الملزم ، وبعده تفيد الملك ، فمرجع هذا القول إلى أنّ حصول الملكية بالمعاطاة مشروط بالتلف أو التصرف كاشتراطها بالقبض في بيع الصرف وبالاقباض في الهبة ، فامضاء الملكية شرعاً يكون متأخّراً عن تحقّق المعاطاة وما بين الزمانين أعني زمان المعاطاة وزمان التلف قد حكم الشارع فيه بالإباحة والدليل عليه هو السيرة ، وأمّا أنّ هذه الإباحة إباحة جميع التصرّفات أو التصرفات التي لا تتوقّف على الملك فلابدّ في تحقيقه من ملاحظة السيرة وأنّها جارية في جميع التصرّفات أو فيما لا يحتاج إلى الملك ، فلو شككنا في ذلك لابدّ من

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 18 : 50 / أبواب أحكام العقود ب8 ح4 .

ــ[73]ــ

الأخذ بالمقدار المتيقّن من السيرة ، لأنّها دليل لبّي كالإجماع والمقدار المتيقّن منها هو التصرّفات غير المتوقّفة على الملك .

ومن هذا البيان ظهر أنّ المعاطاة على القولين الأخيرين أعني إفادتها الإباحة دون الملك ليست من قبيل ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع ، وليست منافية لقاعدة تبعية العقود للقصود التي هي من القواعد المسلّمة المستفادة من قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(1)، فإنّ الوفاء بالعقد إنّما هو باتمامه على ماقصد ، وذلك لأنّ هذه الإباحة إباحة شرعية ، نعم لو كانت إباحة مالكية كان من باب ما وقع لم يقصد ويلزم تخلّف العقد عن القصد ، لأنّ هذه الاباحة لم تقصد وقد وقعت بامضاء العقد .

إلى هنا ظهر مدارك الأقوال وأنّ مستندها ماذا ، وبعد ذلك نرجع إلى تحقيقها وأنّ أيّها تامّ وأيّها غير تامّ ولا يمكن الالتزام به .

كما ظهر أنّ ما ذهب إليه المحقّق الثاني(2) وصاحب الجواهر (قدّس سرّهما)(3)كلاهما خارج عن جادّة الصواب ، وأنّه لا يمكن حمل الاباحة في كلمات الأصحاب على الملك المتزلزل كما صنعه المحقّق المذكور ، لأنّ المشهور يلتزمون بافادتها الاباحة على التقريب المتقدّم ، ولا يلتزمون بالملك الجائز بوجه ، كما أنّ حمل كلماتهم على صورة قصد الاباحة بعيد وإن صدر عن صاحب الجواهر (قدّس سرّه) فإنّ ظواهر كلماتهم إرادة صورة قصد التمليك بالمعاطاة .

ودعوى أنّها مع قصدهما التمليك كيف يمكن الالتزام بافادتها الاباحة مع أنّ العقود تابعة للقصود ويلزم حينئذ أن يتحقّق ما لم يقصد ، مدفوعة بأنّ المشهور كما

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة 5 : 1 .

(2) جامع المقاصد 4 : 58 .

(3) لاحظ الجواهر 22 : 213 فما بعدها .

ــ[74]ــ

عرفت ملتزمون بإفادتها الملك ، غاية الأمر لا من الابتداء بل بعد عروض أحد الملزمات ، وإنّما التزموا بالاباحة إلى زمان عروضه لأجل السيرة المتقدّمة ، فهي إباحة شرعية وليست مالكية ليقال إنّه وقع ما لم يقصد ، ولا مانع من أن يتصرّف الشارع فيما قصده المتعاملان بامضائه من جهة وردعه من جهة اُخرى . كما وقع نظير ذلك في بيع الصرف والسلم وكذلك في الهبة فإنّ التمليك فيها متوقّف على الاقباض ، مع أنّ قصده موجود من الابتداء ، غاية الأمر أنّ التصرّف فيها قبل حصول الاقباض فاسد وحرام ، وفي المعاطاة قبل عروض أحد الملزمات لا مانع من التصرف في المال لأجل السيرة المتقدّمة التي هي إباحة شرعية .

فتحصّل : أنّ محلّ كلامهم ومورد نقضهم وإبرامهم إنّما هو صورة قصد المتعاطين التمليك دون الاباحة ، وبعدما عرفت ذلك نرجع إلى تحقيق الأقوال المتقدّمة وبيان صحيحها وتمييزه عن فاسدها .

قد عرفت أنّ المفيد (رحمه الله) ذهب إلى أنّ المعاطاة تفيد الملك اللازم وهو مقتضى القاعدة الأوّلية ، والكلام في تحقيقه يقع في مقامين : أحدهما : في إفادتها الملكية . وثانيهما : في كونها لازمة أو جائزة .

أمّا إفادتها الملكية فيمكن الاستدلال عليها بوجوه :

الوجه الأوّل : السيرة المستمرّة بين المسلمين والمتشرّعين في معاملتهم مع المأخوذ بالمعاطاة معاملة الملك ، فلذا يرونه منتقلا إلى وارثه بعد موته ، وثبوت ذلك بينهم ممّا لا يقبل الانكار ، هذا .

وقد ناقش فيها شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(1) بما ذكره في أواخر كلامه من أنّ مثل هذه السيرة إنّما نشأت من عدم مبالاتهم بالدين ولا يمكن الاعتماد عليها

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 3 : 42 .

ــ[75]ــ

أبداً  ، وإلاّ فلابدّ من رفع اليد عن المحرّمات التي جرت سيرتهم على ارتكابها أو الواجبات التي جرت عادتهم على تركها ، وهو كما ترى لا يمكن الالتزام به ، فلا ينبغي الاعتماد على هذه السيرة في المقام ، هذا .

وردّه السيّد في حاشيته(1) باستلزامه عدم اعتبار السيرة رأساً ، لأنّ هذا الاحتمال موجود في جميع موارد ثبوتها بل ذكر بعضهم أنّه عليه فعلى السيرة السلام  .

ولكن الحقّ مع الشيخ (قدّس سرّه) لأنّ السيرة في المقام لا يمكن إثبات اتّصالها بما هي سيرة المتشرّعة وكاشفة عن رضا الشارع بزمان المعصوم (عليه السلام) ، كيف ومراجع التقليد قبل المحقّق الثاني كانوا يفتون بعدم إفادتها الملك ، وهل يمكن مع ذلك أن تكون سيرة المتشرّعة في تلك الأعصار ناشئة عن منشأ صحيح ، وهل يشكّ به على تقدير ثبوتها في كونها ناشئة عن عدم المبالاة ، ولا تقاس هذه بالسير التي لم تكن مخالفة لفتاوى مراجع التقليد في زمان ما .

مضافاً إلى أنّ السيرة لو قامت فإنّما هي في الأشياء اليسيرة وأمّا الاُمور الخطيرة فلا يكتفون فيها بمجرّد التراضي والمعاطاة ، بل يجرون الصيغة وغيرها من شرائط البيع ، هذا .

والصحيح أن يستدلّ في المقام بالسيرة المتحقّقة بين العقلاء الثابتة قبل زمان الشرع والشريعة ، فإنّهم قبل الشريعة المقدّسة كانوا يكتفون في معاملاتهم بمجرّد الأخذ والاعطاء من دون إجراء الصيغة بينهم ، كما هو الحال فعلا بين العقلاء غير المسلمين فإنّهم لا يعتبرون الصيغة في المعاملات ، وهذه السيرة كانت بمرأى من النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة الأطهار (سلام الله عليهم أجمعين) ومع ذلك لم يردعوا عنها وهو يكشف عن رضاهم بها كشفاً قطعيّاً ، إذ لولا رضاهم بها لردعوا عنها

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) حاشية المكاسب (اليزدي) : 68 .

ــ[76]ــ

كغيرها من السيرات العقلائية التي ردع عنها الشارع في موارد كثيرة ، وما يتوهّم أن يكون رادعاً عن السيرة أمران : أحدهما الإجماع على عدم إفادة المعاطاة للملك  . وثانيهما : حديث « إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام » وسيأتي بطلان كلا الأمرين وعدم صحّة الردع بهما عن قريب إن شاء الله فانتظر(1).

وعليه فلا يحتاج إلى ملاحظة السيرة بعد زمان الأئمّة (عليهم السلام) ليقال إنّها مخالفة لفتوى الفقهاء المتقدّمين ، لكفاية ثبوتها في زمانهم (عليهم السلام) مع عدم ردعهم ، وعليه فنسأل عن مدرك الفتاوى .

الوجه الثاني : قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(2) وشيخنا الأنصاري(3) حمل الآية على الحلّية التكليفية ، وبما أنّه رأى عدم مناسبتها مع البيع ـ إذ لم يتوهّم أحد حرمة البيع تكليفاً ، غاية الأمر أن يكون فاسداً نظير البيع الغرري فإنّ النهي عنه ليس بمعنى كونه محرّماً تكليفياً بل المراد أنّه فاسد ولا يترتّب عليه الأثر ـ فالتزم بتعلّق الحلّ بالتصرّفات المترتّبة على البيع واقعاً ، وإنّما اُسند إلى البيع لفظاً من باب المجاز في الاسناد لأنّ البيع سبب لها أو من باب المجاز في الحذف ، فاستند في الاستدلال بالآية على صحّة البيع إلى الدلالة الالتزامية ، فإنّ جواز جميع التصرفات مستلزم شرعاً لثبوت الملك وصحّة البيع . ثمّ وقع في الإشكال من حيث إنّ جواز التصرّفات تكليفاً لازم أعمّ للملك ، ولذا قالوا بثبوته دون الملك ، ولم يتخلّص من الإشكال .

والذي ينبغي أن يقال في المقام : إنّ الحلّ في الآية المباركة بما أنّه وقع في مقابل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع الصفحة 108 .

(2) البقرة : 2 : 275 .

(3) المكاسب 3 : 40 .

ــ[77]ــ

الحرمة في قوله تعالى (وَحَرَّمَ الرِّبَا) لم يمكن حمله على الحلول بمعنى القرار والثبوت في مقابل الرحلة والخروج بأن يكون معنى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) أقرّ الله البيع وأثبته في مقرّه أي لم يتصرّف فيه برفعه بل أبقاه على حاله من الصحّة والجواز كما ذكره بعض مشايخنا المحقّقين(1)، وذلك لما عرفت من أنّه في مقابل الحرمة في الآية المباركة وليس في مقابل الرحلة ليحتمل حمل الحلّ على الحلول ، بل إنّما هو في مقابل الحرمة كما هو واضح .

والظاهر أنّه بمعنى الحلّ في مقابل الشدّ والعقد وأنّ الله أحلّ البيع ، يعني أرسله وأطلقه ولم يشدّه ويمنع عنه ، بخلاف الربا فإنّه منع عنه وقيّده ، فالبيع محلول في مقابل الممنوع والمشدود ، وهذا المعنى للحل يجتمع مع كل من الحلّية التكليفية والوضعية بحسب اختلاف الموارد ، فإذا اُسند في كلام الشارع إلى الأفعال أو الموضوعات الخارجية اُريد به الحل من حيث التكليف وعدم العقاب ، وإذا اُسند إلى الاعتبارات العرفية كالبيع اُريد به الصحّة والنفوذ بمناسبة الحكم والموضوع ، كما أنّ الحرمة أيضاً كذلك تجتمع مع كلّ من التكليف والوضع بحسب اختلاف الموارد ، وعليه فالآية تدلّ بالمطابقة على صحّة البيع ونفوذه بقرينة إسناد الحلّ إلى البيع الذي هو من الاعتبارات العرفية .

ويمكن تقريب دلالة الآية بوجه آخر يمكن جعله تصحيحاً أو تتميماً لتقريب شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه) وحاصله الاستدلال بالدلالة التزامية العرفية ، فإنّ الحكم بجواز جميع التصرفات في الثمن أو المثمن تكليفاً ظاهر عرفاً في إمضاء البيع كما أنّ المنع عنها ظاهر عرفاً في فساده ، كما استظهرناه من قوله (عليه السلام) : « ثمن العذرة سحت » ووجه هذه الدلالة أنّ هذا الجواز جواز تصرّف مالكي وبعنوان

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) حاشية المكاسب (الأصفهاني) 1 : 105 .

ــ[78]ــ

المالكية وهو عبارة اُخرى عن إمضاء الملك ، وقد رتّب في الآية على البيع ، فيكون ظاهراً في إمضاء البيع وإفادته الملك . ومنه يظهر أنّ قياس هذا الجواز للتصرفات بغيره ممّا لم يكن بعنوان المالكية فاسد ، فإنّ جواز التصرّف لا بعنوان المالكية لا يدلّ على الملك بخلافه بذاك العنوان .

وأمّا الاستدلال بالدلالة الالتزامية العقلية بدعوى أنّ جواز جميع التصرفات حتّى التصرفات المتوقّفة على الملك يستلزم عقلا ثبوت الملك ، ففيه أنّ جواز التصرف المتوقّف على الملك لا يكشف عن الملك من حين العقد بل يكشف عن الملك قبل التصرف آناً ما ، فالآخذ بالمعاطاة يجوز له البيع والوطء لكن البيع والوطء المسبوق بالملك آناً ما لا من حين المعاطاة ، فما ذكره شيخنا المحقّق(1) ناسباً له إلى الآخوند في حاشيته(2) في تقريب حصول الملكية من حين ثبوت الجواز وتحقّق المعاطاة من أنّ فعلية جواز جميع التصرفات من حين العقد تستلزم فعلية الملك من ذلك الحين ، لأنّه يقال إنّ كلاًّ من المتعاطيين يجوز له التصرف المتوقّف على الملك فيما انتقل إليه فعلا وكل من يجوز له ذلك التصرف فعلا فهو مالك وهذا قياس ينتج أنّ كلا من المتعاطيين مالك لما انتقل إليه فعلا ، فيه : أنّ جواز التصرف وإن كان فعلياً من حين تحقّق المعاطاة إلاّ أنّه لا يكشف عن فعلية الملك من ذلك الحين ، لأنّ متعلّقه يقتضي سبق الملك على التصرّف آناً ما ، فمرجع هذا الجواز إلى جواز التملّك فعلا لا إلى الملك الفعلي .

ثمّ ربما يورد على دلالة الآية على جواز جميع التصرفات حتّى المتوقّفة على الملك أنّ موضوع هذا الجواز هو الملك ولا يمكن إثباته بهذا الحكم ، لأنّ الحكم لا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) حاشية المكاسب (للأصفهاني) 1 : 105 .

(2) حاشية المكاسب (الآخوند) : 11 .

ــ[79]ــ

يثبت موضوعه ، بل ربما يدعى أنّ أدلّة توقّف تلك التصرفات على الملك يقتضي تخصيص جواز التصرفات المستفاد من الآية بغير المتوقّفة على الملك ، ولكنّه يندفع أوّلا بأنّه بعد استظهار جواز التصرفات المترتّبة على البيع لا نشكّ في شمولها للتصرفات المتوقّفة على الملك ، لأنّها من أظهر مصاديقها عرفاً ، فإنّ العرف يرتّب هذه التصرفات على البيع .

وثانياً : أنّ الحكم وإن كان لا يثبت موضوعه خارجاً إلاّ أنّه يمكن أن يكشف عنه ، والمقام من هذا القبيل ، فإنّ المدّعى كشف جواز التصرفات عن تحقّق الملك لا إثبات الملك خارجاً . وعليه فلا مانع من دلالة الآية على جواز جميع التصرفات حتّى المتوقّفة على الملك ولا تكون أدلّة التوقّف على الملك مخصّصة لها لأنّ أدلّة التوقّف موضوعها الملك والآية تثبت الملك فلا تنافي بينهما ليحمل أحدهما على الآخر .

والحاصل أنّه يمكن تقريب دلالة الآية على حصول الملك بالمعاطاة بوجهين أحدهما بالدلالة المطابقية وهو المختار . وثانيهما بالدلالة الالتزامية العرفية الذي جعلناه تصحيحاً لتقريب الشيخ (قدّس سرّه) ، ولكن هذا الوجه خلاف الظاهر .

الوجه الثالث : عقد الاستثناء من قوله تعالى (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاض)(1) وتقريب دلالتها على أنّ المعاطاة تفيد الملك ما تقدّم في الآية السابقة وتوضيحه : أنّ المراد بالأكل إمّا التملّك وإمّا التصرف  ، فعلى الأوّل تدلّ بالمطابقة على حصول الملك بالمعاطاة ، وذلك لدلالتها على جواز تملّك أموال الناس بالتجارة عن تراض التي منها المعاطاة ، والمراد بالجواز حينئذ الصحّة لاسناده إلى الفعل الاعتباري ، والتعبير بالأكل كناية عن

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) النساء 4 : 29 .

ــ[80]ــ

التملّك شائع في الاستعمالات العرفية حتّى في لغات غير العرب . وعلى الثاني تدلّ بالملازمة العرفية على ذلك ، وذلك لأنّ معناها حينئذ أنّه يجوز تكليفاً التصرف في أموال الناس بالتجارة عن تراض ، وجواز جميع التصرفات تكليفاً حتّى المتوقّفة على الملك يلازم الملك عرفاً .

الوجه الرابع : قوله (عليه السلام) : « الناس مسلّطون على أموالهم »(1) وزاد بعضهم قوله « وعلى أنفسهم » ولكنّه غير موجود في الرواية ، وكيف كان فهذه الرواية وإن كانت مشهورة بين الأصحاب ويتمسّك بها الأكابر في موارد متعدّدة إلاّ أنّ للمناقشة في سندها ودلالتها مجالا واسعاً .

أمّا بحسب سندها ، فلأنّها نبوية لم توجد في كتب الحديث المعتبرة للشيعة نعم رويت مرسلة في بحار الأنوار ، وقد أمر شيخ الشريعة الأصفهاني في زمانه بأن يتفحّص عنها المحصّلون ، ولكنّهم فحصوا ولم يظفروا بها ثمّ هو (قدّس سرّه) نبّه على مكانها ، ودعوى انجبار ضعف سندها بعمل المشهور ممنوع صغرى وكبرى ، إذ استنادهم إليها غير محرز ، وعلى تقدير إحراز أنّهم استندوا إليها في عملهم لا دليل على أنّه يوجب انجبار ضعف سند الرواية ، كما ذكرنا تفصيله في الاُصول(2) فراجع .

وأمّا بحسب الدلالة فلأنّ محتملاتها ثلاثة :

الأوّل : أن يراد بالرواية سلطنة الناس على أموالهم من حيث أنواع التصرفات وأسبابها ، كأن يكونوا مسلّطين على تمليك أموالهم مثلا بأي كيفية وأي سبب شاؤا ولو كان ذلك السبب غير متعارف ومجعولا من المتبايعين ، فيشمل ما إذا اتّفق شخصان على انتقال مال كل منهما إلى الآخر بدخول دار مثلا ، فيكون نافذاً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) عوالي اللآلي 3 : 208 ح49 ، بحار الأنوار 2 : 272 .

(2) مصباح الاُصول 2 (موسوعة الإمام الخوئي 47) : 279 فما بعدها .

 
 

ــ[81]ــ

بعموم النبوي . وهذا الاحتمال مبنى الاستدلال ، فيقال إنّ الناس مسلّطون على تمليك أموالهم بالمعاطاة .

الثاني : أن يراد بها سلطنة الناس على أموالهم من حيث أنواع التصرفات فإذا شكّ في بعض التصرفات كالأكل والشرب والايجار مثلا يتمسّك في جوازه بالحديث ، وهذا الاحتمال مختار الشيخ (قدّس سرّه)(1)، وعليه لا تدلّ الرواية على المقصود .

الثالث : أن تكون ناظرة إلى سلطنة المالك من جهة إضافة المال إليه في مقابل الحجر عليه لا من جهة سائر الأحكام الشرعية التي لا ربط لها بحيثية إضافة المال إلى مالكه ، فمعنى الرواية أنّ سلطنة الناس على أموالهم من حيث إضافتها إليهم تامّة  ، فلا تتوقّف تصرفاتهم المشروعة على إذن الغير أو إجازته ، وعليه فإذا شكّ في اعتبار إذن الغير أو إجازته في صحّة عقد بعد ثبوت مشروعيته ـ كما احتملوا اعتبار إذن الزوج في صحّة هبة الزوجة أموالها للغير ـ دفع اعتباره بالحديث . وعلى هذا الاحتمال أيضاً لا تدلّ الرواية على المدّعى .

والظاهر من هذه الاحتمالات هو الأخير ، ومن هنا لو شكّ في حلّية أكل جزء من أجزاء الحيوان المملوك لا يتمسّك أحد بالحديث لاثبات جوازه ، وكذا لو شكّ في حلّية أكل لحم الأرنب المملوك ، وسرّ ذلك ما بيّناه من عدم كون الحديث ناظراً إلى الأحكام الشرعية التي يشكّ فيها من غير جهة إضافة المال إلى مالكه ، إذن فالحديث أجنبي عمّا نحن فيه .

وفي الوجوه السابقة كفاية وبها نحكم بأنّ المعاطاة تفيد الملك وإن كانت الشهرة على خلافه إلاّ أنّه لا مانع من الانفراد إذا ساعدنا الدليل . مع أنّا لسنا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المكاسب 3 : 41 .

ــ[82]ــ

منفردين لموافقة المفيد (رحمه الله) والمحقّق الثاني والمتأخّرين ، وليكن هذا من أحد الموارد التي ذهب المتأخّرون فيها على خلاف المتقدّمين ، نظير مسألة البئر فإنّ المتقدّمين بنوا على تنجّسه من غير نكير وقد انقلب ذلك عند المتأخّرين انقلاباً عجيباً فبنوا على طهارته وعدم انفعاله .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net