الكلام في تلقّي الركبان - الكلام في النجش 

الكتاب : التنقيح في شرح المكاسب - الجزء الثاني : البيع-2   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 4918


الكلام في تلقّي الركبان

والأقوال في ذلك ثلاثة : أحدها الحرمة كما حكي عن بعض الأعلام . وثانيها  : الكراهة وهي المشهور بين الأصحاب . وثالثها : عدم الحرمة ولا الكراهة والمعاملة صحيحة لعمومات (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) و (تِجَارَةً عَنْ تَرَاض) . أمّا القائل بالحرمة فقد استند إلى الأخبار الواردة في النهي عن تلقّي الركبان كقوله « لا تلقّ » وقوله « لا يتلقّى أحدكم تجارة خارجاً من المصر ولا يبيع حاضر لباد والمسلمون

ــ[498]ــ

يرزق الله بعضهم من بعض »(1) وظاهرها الحرمة . ويدفعه : أنّه إن اُريد الاستدلال بهذه الأخبار فهي ضعاف ولا يمكن الاعتماد على شيء منها ولا تثبت بها الحرمة وإن اُريد الاستدلال بمجموع تلك الأخبار البالغة حدّ الاستفاضة بدعوى أنّها توجب الاطمئنان بصدور بعضها لا محالة ، ففيه : أنّه يختصّ حينئذ بمن حصل له الاطمئنان بصدور بعضها منها ونحن لا نطمئن بل لا نظن بصدورها ، لأنّ الروايات بأجمعها نبويّات ولا يمكننا الاعتماد عليها مع أنّه لو كان محرّماً لبان وظهر .

والقول بالكراهة مبنيّ على القول بالتسامح في أدلّة السنن بأخبار من بلغ والالتزام بأنّها تدلّ على استحباب العمل الذي بلغه الثواب فيه ، وأمّا إذا قلنا بأنّ أخبار من بلغ إرشادية إلى حكم العقل بحسن العمل برجاء الثواب أو برجاء أمر المولى في حدّ نفسه فلا يبقى للاستدلال بها على الاستحباب مجال ، إذ لا أمر طولي فيها ولو بنحو الاستحباب ، وكذا يبتني على تعميم السنن إلى المكروهات أيضاً بأن يقال إنّ أخبار من بلغ تشمل الخبر الدالّ على الحزازة والمنقصة في عمل كما تشمل الخبر الدالّ على الثواب ، وأمّا إذا قلنا بأنّها على تقدير ثبوتها تختصّ بما إذا بلغه فيه الثواب على عمل ولا تشمل ما إذا بلغه فيه منقصة وحزازة فلا يبقى للاستدلال بها مجال ، نعم بعد تمامية المقدّمتين لا مانع من الاعتماد عليها في القول بالكراهة في المقام .

وبعد تسليم المقدّمتين لا وجه للاعتراض كما عن بعض الأعلام بأنّ قاعدة التسامح لو ثبتت فإنّما تفيد فيما إذا دلّ خبر ضعيف على الاستحباب أو الكراهة ، وأمّا إذا دلّ على الوجوب أو الحرمة كما في المقام فلا معنى للاستدلال بالقاعدة ، لأنّا إن صحّحنا الخبر وأخذنا به فلابدّ من الالتزام بالحرمة لأنّها مفاد الخبر على الفرض

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 17 : 443 / أبواب آداب التجارة ب36 ح5 وأورد ذيله في ص444 / أبواب آداب التجارة ب37 ح1 .

ــ[499]ــ

وإن لم نلتزم به فلا نلتزم بالحرمة فمن أين جاءت الكراهة أو الاستحباب .

والوجه في عدم صحّة الاعتراض ما ذكرناه في قاعدة التسامح في أدلّة السنن من أنّها على تقدير صحّتها تقتضي الالتزام بالاستحباب فيما إذا ورد خبر ضعيف ودلّ على استحبابه أو فيما إذا وردت رواية ضعيفة ودلّت على وجوبه ، وذلك لأنّها حينئذ دلّت على الثواب في فعل ذلك الشيء وأخبرت عنه غاية الأمر أنّها أخبرت عن ثبوت العقاب على تركه أيضاً ، وهذا الإخبار لا يثبت لضعفها ، وأمّا إخبارها بثواب العمل فلا مانع من الأخذ به بأدلّة التسامح في أدلّة السنن .

وكذا الحال فيما إذا عمّمنا السنن وقلنا بشمولها للمكروهات أيضاً فإنّه إذا وردت رواية ضعيفة ودلّت على كراهة العمل لابدّ من الالتزام بها بهذه القاعدة ، أو وردت رواية ودلّت على حرمته مع ضعف سندها فلابدّ من الالتزام بكراهة العمل حينئذ لأنّها قد أخبرت عن ثبوت الحزازة والمنقصة في الفعل (كالرواية الدالّة على الكراهة) وأخبرت أيضاً عن ثبوت العقاب في فعله ، والإخبار الثاني لا يثبت لضعفها فلا نلتزم بالحرمة ، وأمّا الاخبار بالحزازة والمنقصة فلابدّ من الأخذ به لقاعدة التسامح كما عرفت ، وكيف كان فلا تختصّ القاعدة بما إذا ورد خبر ضعيف على استحباب العمل أو كراهته بل تعمّه وما إذا دلّ على وجوبه أو حرمته ولم يمكننا الأخذ به لضعف سنده .

فالمتحصّل أنّه لا وجه للقول بالحرمة في المقام ، والقول بالكراهة يبتني على أمرين وعلى تقدير ثبوتهما لا مانع من الفتوى بالكراهة في تلقّي الركبان ، هذا كلّه في حكم تلقّي الركبان .

وأمّا شروط ذلك الأمر المحرّم أو المكروه : فقد اشترطوا في الحرمة أو الكراهة أن يكون التلقّي إلى أربعة فراسخ فما دونها ، والظاهر أنّ الحدّ خارج عن المحدود بمعنى أنّ الكراهة أو الحرمة إنّما هي فيما لم يبلغ إلى أربعة فراسخ وأمّا إذا كان التلقّي

ــ[500]ــ

إلى أربعة فراسخ فتزول الكراهة أو الحرمة ، لأنّه مسافرة حقيقة ولا مانع من الضرب في الأرض لأجل التجارة بل وفي بعض الأخبار(1) أنّها جلب لا تلق وذلك لأنّه إذا سار أربعة فراسخ فلابدّ من أن يرجع أربعة فراسخ أيضاً ، فهذه مسافة يجب فيها القصر وهو ضرب في الأرض والضرب للجلب أمر ممدوح وكيف كان فهذا أحد الشروط .

الشرط الثاني : أن يكون قصده من ذلك هو تلقي الركب للتجارة وأمّا إذا كان قصده شيئاً آخر كما إذا خرج للسير أو لطلب غريم فصادف الركب واشترى متاعهم ، أو كان قصده استقبال قريب له في الركب يرجع من سفره فصادف التجارة فيها فاشتراها فلا وجه للكراهة ولا الحرمة لأنّه لم يتلق الركب كما هو ظاهر ، وكيف كان فالغرض من هذه الأخبار على تقدير صدورها عدم المبادرة والسبق إلى المعاملة عن سائر المسلمين كما يشير إليه قوله (عليه السلام) « والمسلمون يرزق الله بعضهم من بعض » والمنهي هو المبادرة إليها دون نفس المعاملة ، لأنّ المتلقّي أيضاً من المسلمين فلا مانع من أن ينتفع بالركب ، فلا يمنعه قوله « المسلمون يرزق الله بعضهم من بعض » وإنّما اُريد من هذه الأخبار عدم المبادرة والسبق على سائر المسلمين ، فإذا لم تكن نفس المعاملة مكروهة أو محرّمة والمفروض أنّه لم يبادر إلى الركب وإنّما استقبل صديقه أو ابن عمّه فصادف الركب واشترى منهم فلا حرمة ولا كراهة ، فالظاهر أنّ ما أفاده شيخنا الأنصاري (قدّس سرّه)(2) من اعتبار القصد في الحكم بالكراهة أو الحرمة هو الصحيح .

وأمّا ما ذكره بعض الأعلام من أنّ القصد والتلقّي مقدّمة والمنهي هو نفس

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 17 : 444 / أبواب آداب التجارة ب36 ح6 .

(2) المكاسب 4 : 353 .

 
 

ــ[501]ــ

المعاملة ، فيدفعه : أنّ المعاملة لا حرمة فيها ، لأنّ المتلقّي أيضاً من أحد المسلمين وإنّما المبغوض المعاملة المبادر إليها لا نفسها ، فهي بهذا الوصف منهي عنها لا بنفسها فلذا لو فرضنا أنّ دكّان أحد وقع في أوّل السوق أو في الطريق فنزل الركب في دكّانه من دون أن يبادر إليه لم يكن شراؤه منهم مكروهاً أو محرّماً ، فالمتحصّل أنّ هذا الإيراد لا وجه له .

ثمّ إنّ قوله (عليه السلام) « المسلمون يرزق الله بعضهم من بعض » حكمة للنهي عن تلقّي الركبان لا أنّه علّة ، ولا يدلّ على كراهة المعاملة فيما إذا لم يكن قاصداً للتلقّي ، هذا .

ثمّ إنّ الأخبار المتقدّمة قد اشتملت على النهي عن أن يبيع الحاضر للباد وليس المراد منه بيع الحاضر متاعه له وإلاّ فلا إشكال في صحّته ولا مانع من أن يبيع الحاضر متاعه ممّن جاء من خارج البلد ، بل المراد أن يبيع الحاضر متاع الباد لمنفعة ذلك الباد ، وقد علّله بأنّ « المسلمون يرزق الله بعضهم من بعض » ، والغرض منه أنّ بيع الحاضر متاع الباد ممنوع لأنّه أعرف بقيمة السوق فيبيعه بالقيمة الزائدة بل لابدّ من أن يكون البادي هو المباشر لبيع أمتعته وربما يبيعها بأرخص ممّا يبيعها الحاضر فينتفع به المشتري منه وهو أيضاً يبيعها للمشترين بهذه القيمة الرخيصة فتنتفع بذلك جماعة .

ثمّ إنّ الكراهة أو الحرمة في تلقّي الركبان هل تختصّ بالشراء منهم ولا تعمّ البيع أو غيره من المعاوضات ، أو أنّها أعمّ وتشمل جميع المعاوضات ؟ الظاهر هو الثاني لاطلاق التجارة الواقعة في بعض الأخبار والروايات وعدم اختصاصها بشيء ، وعليه يشمل الحكم لما إذا تلقّى الركب ليبيع منهم شيئاً ، وكذا تشمل الصلح وغيره من المعاوضات ، والظاهر أنّ فعل الخدمة في زماننا هذا وتلقّي الزوّار لأجل الإيجار أيضاً من هذا القبيل فيحكم بكراهته أو بحرمته لو قلنا بها في تلقّي الركبان

ــ[502]ــ

هذا .

ثمّ إنّ بعض الأخبار الواردة في المقام دلّ على أنّ الركب إذا اشترى منهم المتلقّي متاعاً ثمّ دخلوا السوق فهم بالخيار ، والظاهر أنّ المراد بذلك ما إذا ظهر غبن الركب وعرفوا أنّ القيمة السوقية أكثر ممّا أخذوه من المتلقّي وحينئذ فيثبت لهم خيار الغبن من دون حاجة إلى هذه الروايات ، وأمّا مع عدم ظهور الغبن فلا وجه للخيار إذ لا موضوعية لدخولهم السوق ، لأنّ ظاهر قوله (عليه السلام) « فإذا أتى السوق فهو بالخيار » أنّه إذا أتى السوق ورأى غبنه بحسب القيمة السوقية فهو بالخيار ولا ظهور فيه في الاطلاق .

الكلام في النجش

قد تقدّم الكلام في حرمة النجش بسكون الجيم وفتحه في المكاسب المحرّمة ولعلّ شيخنا الأنصاري ذكره في المقام سهواً ، نعم بين المقامين اختلاف يسير وكيف كان ، فقد استدلّ على حرمته بما حكي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)(1)من أنّ الناجش والمنجوش له ملعون ، إلاّ أنّها ضعيفة لا يمكن الاعتماد عليها في الحكم بالحرمة ، ويبقى في البين بعض الوجوه الاُخر التي استدلّ بها على حرمة النجش وقد تقدّم الكلام فيها في المكاسب المحرّمة فلا نعيد ، وقد نقل أيضاً النهي عن التدابر فراجع  .
ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 17 : 458 / أبواب آداب التجارة ب49 ح2 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net