حكم التمر والزبيب وعصيرهما بعد الغليان 

الكتاب : التنقيح في شرح العروة الوثقى-الجزء الثالث:الطهارة   ||   القسم : الفقه   ||   القرّاء : 19055


ــ[114]ــ

وأمّا التمر والزبيب وعصيرهما (1) فالأقوى عدم حرمتهما أيضاً بالغليان وإن كان الأحوط الاجتناب عنهما أكلاً ، بل من حيث النجاسة أيضاً (2) .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حتى يمكن غليانه في جوفه ، بل العنب ـ على ما شاهدنا جميع أقسامه ـ نظير الخيار والبطِّيخ والرقِّي مشتمل على لحم فيه رطوبة وكلما وردت عليه ضغطة خرج منه ماؤه وبقيت سفالته . نعم ، الماء الخارج من العنب أكثر مما يمكن استخراجه من الخيار وكيف كان ، فلا ماء في جوف العنب حتى يغلي ، وقد مرّ أنّ الغليان هو القلب وتصاعد النازل وتنازل الصاعد ، وكيف يتصور هذا في مثل العنب والبطيخ والخيار وغيرها مما لا يشتمل على الماء في جوفه .

   ثم على تقدير إمكان ذلك ووقوعه في الخارج ـ بفرض أمر غير واقع ـ فهل يحكم بحرمته قبل أن يذهب ثلـثاه ؟ التحقيق أنه لا وجه للحكم بحرمته ، لأن ما دلّ على حرمة العصير العنبي بعد غليانه إنما دلّ على حرمة مائه الذي خرج منه بعصره أو بغير عصر ، وأما ماء العنب في جوفه فحرمته تحتاج إلى دليل ، ولم يدلنا دليل على أن ماء العنب إذا غلى في جوفه حرم حتى يذهب ثلثاه .

   (1) المصطلح عليهما بالنبيذ ، فيقال : نبيذ الزبيب أو التمر ولا سيما في الأخير ، كما أن المصطلح عليه في ماء العنب هو العصير كذا ذكره صاحب الحدائق (قدس سره) (1) .

   (2) إذا نبذ الزبيب أو التمر في ماء وأكسبه حلاوة ثم غلى ذلك الماء بسبب فهل يحكم بحرمته ونجاسته أو أنه محكوم بالطهارة والحل ؟

   أمّا النجاسـة فظاهرهم الاتفاق على عدمها بعد بطلان التفصيل المتقدِّم(2) عن ابن حمزة في الوسيلة الذي اختاره شيخنا شيخ الشريعة (قدس سره) ، حيث ذهب إلى نجاسة العصير فيما إذا غلى بنفسه وعدم ارتفاعها إلاّ بانقلابه خلاً بلا فرق في ذلك بين العصير العنبي وعصيري التمر والزبيب . وقد ذكر في الحدائق أني لم أقف على قائل

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحدائق 5 : 125 .

(2) في ص 101 .

ــ[115]ــ

بنجاسة العصير الزبيبي، ونقل التصريح بذلك عن الفاضل السبزواري (قدس سره)(1) . وكيف كان ، فالظاهر عدم الخلاف في طهارة النبيذ أو لو كان هناك خلاف في نجاسة العصير الزبيبي فهو خلاف جزئي غير معتد به .

   وأمّا حرمته فقد وقع الكلام فيها بينهم وذهب بعضهم إلى حرمته ، ونسب ذلك إلى جملة من متأخِّري المتأخِّرين والمشهور حليته . ولنتكلّم أوّلاً في حكم النبيذ الزبيبي ثم نتبعه بالتكلّم في النبيذ التمري إن شاء الله . فنقول : الذي يمكن أن يستدل به لحرمة النبيذ الزبيبي بل لنجاسته أمران : أحدهما : الاستصحاب التعليقي بتقريب أن الزبيب حينما كان رطباً وعنباً كان عصيره إذا غلى يحرم فاذا جففته الشمس أو الهواء وشككنا في بقائه على حالته السابقة وعدمه فمقتضى الاستصحاب أنه الآن كما كان ، فيحكم بحرمة مائه على تقدير غليانه بل بنجاسته أيضاً إذا قلنا بنجاسة العصير العنبي .

   وترد على هذا الاستصحاب المناقشة من جهات : الاُولى : أن الاستصحاب دائماً ـ  كما مرّ غير مرّة  ـ مبتلى بالمعارض في الأحكام الكلية الإلهيّة ، فلا مورد للاستصحاب في الأحكام المنجّزة فضلاً عن الأحكام المعلقة . الثانية : أنه لا أصل للاستصحاب التعليقي أساساً ، وهذا لا لأن كل شرط يرجع إلى الموضوع كما أن كل موضوع يرجع إلى الشرط في القضايا الحقيقية حتى يدعى أن رجوع الشرط إلى الموضوع أمر دقي فلسفي ، والمدار في جريان الاستصحاب إنما هو على المفاهيم العرفية المستفادة من القضايا الشرعية ولا إشكال في أن الشرط ـ  بمفهومه العرفي المستفاد من الخطاب  ـ يغاير الموضوع، وحيث إن الموضوع باق بالنظر العرفي فلا مانع من جريان الاستصحاب في حكمه وإن لم يتحقّق شرطه ـ أعني الغليان ـ وذلك لأنّ هذه الدعوى وإن كانت صحيحة في نفسها على ما برهن عليها شـيخنا الاُسـتاذ (قدس سره) في محلّه (2) .

   إلاّ أن الوجه في إنكارنا ومنع شيخنا الاُستاذ (قدس سره) عن الاستصحابات

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الحدائق 5 : 125 ، ذخيرة المعاد : 155 السطر 3 .

(2) أجود التقريرات 2 : 412 .

ــ[116]ــ

التعليقية من أساسها إنما هو ما قررناه في المباحث الاُصولية ، من أن الأحكام الشرعية لها مرحلتان : مرحلة الجعل ومرحلة المجعول ، والشك في المرحلة الاُولى أعني الشك في بقاء جعلها وارتفاعه لا يتحق إلاّ بالشك في نسخها ، فاذا شككنا في نسخ حكم وبقائه فعلى المسلك المشهور يجري الاستصحاب في بقائه وعدم نسخه ولا يجري على مسلكنا لما حققناه في محله . وأما الشك في الأحكام في المرحلة الثانية وهي مرحلة المجعول فلا يمكن أن يتحقق إلاّ بعد فعليتها بتحقق موضوعاتها في الخارج بما لها من القيود ، فاذا وجد موضوع حكم وقيوده وشككنا في بقائه وارتفاعه بعد فعليته فأيضاً لا كلام في جريان الاستصحاب في بقائه ـ بناء على القول بجريانه في الأحكام الكلية الإلهيّة ـ ولا معنى للشك في بقاء الحكم الشرعي وعدمه في غير هاتين المرحلتين ، وحيث إن الشك في حرمة العصير الزبيبي على تقدير الغليان لم ينشأ عن الشك في نسخها للقطع ببقاء جعلها في الشريعة المقدسة فلا مجرى فيها للاستصحاب بحسب مرحلة الجعل لعدم الشك على الفرض . كما أن الشك في حرمته ليس من الشك في بقاء الحكم بعد فعليته فان العصير العنبي لم يتحقق في الخارج في أي زمان حتى يغلي ويتصف بالحرمة الفعلية ويشك في بقائها فلا يجري الاستصحاب فيها بحسب مرحلة المجعول أيضاً ، وعليه فليس لنا حكم شرعي في هذه الموارد حتى نستصحبه عند الشك في بقائه . نعم ، الذي لنا علم بوجوده ـ بعد ما تحقّق العنب في الخارج وقبل أن يغلي ـ إنما هو الملازمة العقلية بين حرمته وغليانه ، لأنه بعد العلم بتحقّق أحد جزئي الموضوع للحكم بحرمة العصير يتحقق العلم بالملازمة بين حرمته ووجود جزئه الآخر فيقال : إنه بحيث إذا غلى يحرم ، إلاّ أنه حكم عقلي غير قابل للتعبّد ببقائه بالاستصحاب .

   الثالثة : هب أ نّا بنينا على جريان الاستصحاب في جميع الأحكام الكلية منجّزها ومعلّقها إلاّ أن الأخبار الواردة في المقام كلها أثبتت الحرمة ، وكذا النجاسة ـ  على القول بها  ـ على عنوان العصير المتخذ من العنب ولم يترتّبا على نفس العنب ولا على أمر آخر ، وظاهر أن الزبيب ليس بعصير حتى يقال إذا شككنا في بقاء حكمه لجفافه وصيرورته زبيباً نستصحب بقاءه ، لأنّ مغايرة العصير والزبيب مما لا يكاد يخفى على

ــ[117]ــ

أحد ، كما أن النبيذ ـ أعني الماء الذي نبذ فيه شيء من الزبيب واكتسب حلاوته ـ كذلك ، لأنه ماء الفرات أو بئر أو مطر وإنما جاور الزبيب مقداراً من الزمان واكتسب حلاوته ولا يصدق عليه العصير العنبي أبداً ، ومع التعدد وارتفاع الموضوع المترتب عليه الحكم والأثر لا مجال لاجراء الاستصحاب بوجه .

   نعم ، لو كان العنب بنفسه موضوعاً للحكم بحرمته أو بنجاسته لحكـمنا بجـريان استصحابهما عند صيرورة العنب زبيباً ، لأن الجفاف والرطوبة تعدان من الحالات الطارئة على الموضوع لا من مقوماته ، فلا نضايق من القول باستصحاب الأحكام المترتبة على نفس العنب عند تبدله بالزبيب كاستصحاب ملكيته ونحوها . فالمتحصل أن الاستصحاب التعليقي مما لا أصل له .

   وثانيهما : الروايات حيث استدلّ لحرمة العصير الزبيبي بجملة من الأخبار : منها : رواية زيد النرسي في أصله ، قال : «سئل أبو عبدالله (عليه السلام) عن الزبيب يدق ويلقى في القدر ثم يصب عليه الماء ويوقد تحته ، فقال : لا تأكله حتى يذهب الثلثان ويبقى الثلث ، فان النار قد أصابته ، قلت : فالزبيب كما هو في القدر ويصب عليه الماء ثم يطبخ ويصفى عنه الماء ؟ فقال : كذلك هو سواء ، إذا أدّت الحلاوة إلى الماء فصار حلواً بمنزلة العصير ثم نش من غير أن تصيبه النار فقدم حرم ، وكذلك إذا أصابته النار فأغلاه فقد فسد» (1) حيث دلت على حرمة العصير الزبيبي إذا غلى ولم يذهب ثلثاه . وقد جعلها شيخنا شيخ الشريعة (قدس سره) مؤيدة لما ذهب إليه من التفصيل المتقدم نقله عند الكلام على نجاسة العصير العنبي ، وذلك لتصريحها بأنه إذا نش من غير أن تصيبه النار فقد حرم . وأما إذا غلى بالنار فيفسد حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه وحيث إنها لم تقيد الحرمة ـ فيما إذا غلى بنفسه ـ بشيء وقد قيّدتها بعدم ذهاب الثلثين فيما إذا غلى بالنار فيستفاد منها أنّ الحرمة في الصورة الاُولى لا ترتفع إلاّ بالانقلاب . وأما إطلاق ذيلها أعني قوله : «وكذلك إذا أصابته النار فأغلاه فقد فسد» ـ من غير أن تقيّد فساده بشيء ـ فهو من جهة وضوح حكمه وغايته في صدر الرواية (2) .

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المستدرك 17 : 38 / أبواب الأشربة المحرمة ب 2 ح 1 .

(2) إفاضة القدير : 23 .

ــ[118]ــ

   هذا ولقد جاءت الرواية في جملة من كتب فقهـائنا كالجـواهر(1) والحـدائق(2) ومصباح الفقيه(3) ، وطهارة شـيخنا الأنصـاري(4) (قدس سره) وغيرها على كيفيـة اُخرى حيث رووا عن الصادق (عليه السلام) «في الزبيب يدق ويلقى في القدر ويصب عليه الماء ، فقال : حرام حتى يذهب الثلثان (إلاّ أن يذهب ثلثاه) قلت : الزبيب كما هو يلقى في القدر ، قال : هو كذلك سواء ، إذا أدت الحلاوة إلى الماء فقد فسد ، كلّما غلى بنفسه أو بالماء أو بالنار فقد حرم حتى يذهب ثلثاه (إلاّ أن يذهب ثلثاه) » وقد اُسندت الرواية في جملة منها إلى كل من زيد الزراد وزيد النرسي ، كما أن الرواية تختلف عن سابقتها من وجوه عمدتها اشتمال الرواية الثانية على التسوية بين قسمي الغليان أعني الغليان بالنار والغليان بنفسه لدلالتها على أن الحرمة في كلا القسمين مغياة بذهاب الثلثين ، وعليها لا يبقى لتأييد شيخنا شيخ الشريعة (قدس سره) على تفصيله بهذه الرواية مجال .

   هذا إلاّ أن العلاّمة المجلسي في أطعمة البحار(5) وشيخنا النوري في مستدركه(6) نقلا الرواية كما نقلناه أوّلاً وصرّح في المستدرك بوقوع التحريف والتصحيف في الرواية(7) وقوّاه شيخنا شيخ الشريعة في رسالته وقال : إنّ أوّل من وقع في تلك الورطة الموحشة هو الشيخ سليمان الماخوري البحراني وتبعه من تبعه من غير مراجعة إلى أصل زيد النرسي .  كما أنّ الرواية مختصة بزيد المذكور وليس في أصل زيد الزراد منها عين ولا أثر ، فإسنادها إليه خطأ  (8) .

 ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الجواهر 6 : 34 .

(2) الحدائق 5 : 158 .

(3) مصباح الفقيه (الطهارة) : 553 السطر 24 .

(4) كتاب الطهارة : 362 باب النجاسات (حكم الزبيب إذا غلى) السطر 32 .

(5) البحار 66 : 506 ح 8 .

(6) تقدّم في ص 117 .

(7) المستدرك 17 : 38 / أبواب الأشربة المحرمة ب 2 ذيل الحديث 1 .

(8) إفاضة القدير : 24 .

ــ[119]ــ

   وكيف كان ، فقد استدل بها على حرمة العصير الزبيبي عند غليانه قبل أن يذهب ثلثاه . والصحيح أن الرواية غير صالحة للاستدلال بها على هذا المدعى ولا لأن يؤتى بها مؤيدة للتفصيل المتقدم نقله ، وذلك لضعف سندها فان زيداً النرسي لم يوثّقه أرباب الرجال ولم ينصّوا في حقه بقدح ولا بمدح . على أ نّا لو أغمضنا عن ذلك وبنينا على جواز الاعتماد على روايته نظراً إلى أن الراوي عن زيد النرسي هو ابن أبي عمير وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، فأيضاً لا يمكننا الاعتماد على روايته هذه ، إذ لم تثبت صحة أصله وكتابه الذي أسندوا الرواية إليه ، لأنّ الصدوق وشيخه ـ محمّد بن الحسن بن الوليد ـ قد ضعّفا هذا الكتاب وقالا : إنّه موضوع وضعه محمّد بن موسى الهمداني (1) .

   والمجلسي (قدس سره) إنما رواها عن نسخة عتيقة وجدها بخط الشيخ منصور بن الحسن الآبي(2) ، ولم يصله الكتاب باسناد متصل صحيح ، ولم ينقل طريقه إلينا على تقدير أن الكتاب وصله باسناد معتبر ، فلا ندري أن الواسطة أيّ شخص ولعله وضّاع أو مجهول ، وأما الأخبار المروية في غير تلك النسخة كتفسير علي بن إبراهيم القمي وكامل الزيارة وعدّة الداعي وغيرها عن زيد النرسي بواسطة ابن أبي عمير ، فلا  يدل وجدانها في تلك النسخة على أنها كتاب زيد المذكور وأصله ، وذلك لأ نّا نحتمل أن تكون النسخة موضوعة وإنما أدرج فيها هذه الأخبار المنقولة في غيرها تثبيتاً للمدعى وإيهاماً على أنها كتاب زيد وأصله .

   وعلى الجملة أ نّا لا نقطع ولا نطمئن بأن النسخة المذكورة كتاب زيد كما نطمئن بأن الكافي للكليني والتهذيب للشيخ والوسائل للحر العاملي (قدس الله أسرارهم)، والذي يؤيد ذلك أنّ شيخنا الحر العاملي لم ينقل عن تلك النسخة في وسائله مع أنها كانت موجـودة عنده بخطه على ما اعترف به شـيخنا شيخ الشريعة (قدس سره) ، بل ذكر ـ  على ما ببالي  ـ أنّ النسخة التي كانت عنده منقولة عن خط شيخنا الحرّ العاملي

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الفهرست للشيخ : 71 نقلاً عن فهرست الصدوق .

(2) البحار 1 : 43 .

ــ[120]ــ

بواسطة (1) وليس ذلك إلاّ من جهة عدم صحّة إسناد النسخة إلى زيد أو عدم ثبوته . وبعد هذا كلّه لا يبقى للرواية المذكورة وثوق ولا اعتبار فلا يمكننا الاعتماد عليها في شيء من المقامات .

   ومنها : رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى أبي الحسن (عليه السلام) ، قال : «سألته عن الزبيب هل يصلح أن يطبخ حتى يخرج طعمه ثم يؤخذ الماء فيطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ثم يرفع فيشرب منه السنة ؟ فقال : لا بأس به» (2) حيث نفت البأس عن العصير الزبيبي فيما إذا ذهب عنه ثلثاه ولم تنف البأس عنه قبل ذهابهما . وفيه : أن نفيه (عليه السلام) البأس عن العصير الزبيبي عند ذهاب ثلثيه لم يظهر أنه من أجل حرمته قبل ذهابهما ونجاسته فلا بأس بشربه بعده لحليته وطهارته ، أو أنه مستند إلى أمر آخر ـ مع الحكم بحلية العصير وطهارته قبل ذهاب الثلثين وبعده ـ وهو أن العصير لو بقي سنة من غير إذهاب ثلثيه نش من قبل نفسه وحرم فلا يمكن ابقاؤه للشرب منه سنة إلاّ أن يذهب ثلثاه . نعم ، لا بأس بابقائه سنة بعد ذهابهما فلا  دلالة لها على حرمته قبل ذهابهما ولا على نجاسته ، وهذا الاحتمال من القوة بمكان .

   وظنِّي أنّ العصير بجميع أقسامه يشتمل على المادة الألكلية التي هي الموجبة للاسكار ـ على تقدير نضجه ومع الغليان ـ إلى أن يذهب ثلثاه ترتفع عنه المادة المسببة للاسكار فلا يعرضه النشيش وإن بقي سنة أو سنتين أو أكثر ولا ينقلب مسكراً بابقائه ، ومن هنا ترى أن الدبس في بعض البيوت والدكاكين يبقى سنة بل سنتين من غير أن يعرضه النشيش ، وهذا بخلاف ما إذا لم يذهب ثلثاه لأنه إذا بقي مدّة ووصلت حرارته إلى مرتبة نضج المادة الألكلية فلا محالة ينش وبه يسقط عن قابلية الانتفاع به ، ولعله السر في نفيه (عليه السلام) البأس في الرواية عن إبقاء العصير إلى سـنة إذا ذهب عنه ثلثاه ، ومع هذا الاحتمال كيف يمكن الاسـتدلال بها على حرمة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) إفاضة القدير : 24 .

(2) الوسائل 25 : 295 / أبواب الأشربة المحرمة ب 8 ح 2 .

 
 

ــ[121]ــ

عصير الزبيب إذا غلى قبل ذهاب ثلثيه .

   ومنها : موثقة عمّار الساباطي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال : «سئل عن الزبيب كيف يحل طبخه حتى يشرب حلالاً ؟ قال : تأخذ ربعاً من زبيب فتنقيه ثم تطرح عليه اثني عشر رطلاً من ماء ثم تنقيه ليلة ، فاذا كان من غد نزعت سلافته ثم تصب عليه من الماء بقدر ما يغمره ثم تغليه بالنار غلية ، ثم تنزع ماءه فتصبه على الأوّل ثم تطرحه في إناء واحد ، ثم توقد تحته النار حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه وتحته النار ...» (1) .

   ومنها : روايته الاُخرى المتقدِّمة(2) ، والظاهر وحدة الروايتين وإنما وقع الاختلاف في نقلها ، ويكشف عن ذلك اتحاد رواتهما إلى عمرو بن سعيد ، فانّ من البعيد أن يسأل شخص واحد عن مسألة واحـدة مـرّتين ويرويهما كذلك . وكيف كان ، لا مجـال للاستدلال بهما على حرمة عصير الزبيب بعد غليانه ، للقطع بعدم مدخلية مجموع القيود الواردة فيهما في حليته بحيث تنتفي إذا انتفى بعض تلك القيود التي منها قوله (عليه السلام) «فروّقه» أي صفّه فلا يستفاد منهما حرمة العصير بمجرد غليانه ، ولعل السر فيما اعتبره من القيود التي منها ذهاب الثلثين هو أن لا يطرأ الفساد على العصير بنشيشه ـ بعد ما مضى عليه زمان ـ الذي يوجب حرمته وسقوطه عن القابلية للانتفاع به ، كما اُشير إلى ذلك في ذيل الرواية بقوله (عليه السلام) «فان أحببت أن يطول مكثه عندك فروّقه» (3) .

 ويؤيِّده ما ورد في رواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي من قوله : «وهو شراب طيِّب لا يتغيّر إذا بقي إن شاء الله» (4) . نعم جاءت حرمة النبيذ الذي فيه القعوة أو العكر في جملة من الأخبار (5) إلاّ أنها أيضاً لا تدل على حرمته بمجرّد الغليان ، حيث إنّ القعوة

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 25 : 290 / أبواب الأشربة المحرمة ب 5 ح 3 .

(2) في ص 107 .

(3) الوسائل 25 : 289 / أبواب الأشربة المحرمة ب 5 ح 2 .

(4) الوسائل 25 : 291 / أبواب الأشربة المحرمة ب 5 ح 4 .

(5) الوسائل 25 : 353 / أبواب الأشربة المحرمة ب 24 ح 1 ، 3 ، 5 ، 6 .

ــ[122]ــ

ـ  كما في نفس تلك الروايات  ـ وكذلك العكر عبارة عن ثفل التمر يضرب به الاناء حتى يهدر النبيذ فيغلى أو أنها حب يؤتى به من البصرة فيلقى في النبيذ حتى يغلي ـ  وإن لم يظهر أنه أي حب  ـ فلعل الوجه في نهيه عما كان مشتملاً على القعوة من النبيذ إنما هو صيرورته مسكراً بسببها بحيث لولا ما فيه من القعوة والعكر لم يكن يتحقق فيه صفة الاسكار بوجه ، فهما مادتان للمسكر في الحقيقة كما أن مادة الجبن كذلك حيث إنه لولاها لم يوجد الجبن .

   ويدلّنا على ذلك ما ورد في بعض الروايات : «شه شه تلك الخمرة المنتنة» بعد قول السائل : إنّا ننبذه فنطرح فيه العكر وما سوى ذلك (1) ، وعليه فلا مجال للاستدلال بهذه الأخبار على حرمة النبيذ بعد غليانه فيما إذا لم يوجب الاسكار .

   هذا وقد يستدل في المقام بحسنة عبدالله بن سنان «كل عصير أصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه» (2) نظراً إلى أن عموم قوله «كل عصير ...» شامل لعصير الزبيب أيضاً فاذا أصابته النار فلا محالة يحكم بحرمته . ولا يخفى ما في هذا الاستدلال من المناقشة .

   أمّا أوّلاً : فلأن الظاهر المنسبق إلى الأذهان من لفظة العصير بحسب العرف واللغة إنما هو الرطوبة المتكونة فيما يعصر من الأشياء ـ كالبرتقال والعنب ونحوهما ـ فيما إذا استخرجت بعصره ، فيقال هذا المائع عصير العنب أو البرتقال وهكذا . نعم ، ذكر صاحب الحدائق أنّ العصير اسم مختص بماء العنب ولا يعم غيره (3) . ولعلّ مراده أن العصير الوارد في روايات المسألة مختص بماء العنب ، وأمّا بحسب اللّغة فقد عرفت أنه اسم للماء المتحصِّل من مثل البرتقال وغيره مما هو مشتمل على رطوبة متكوِّنة في جوفه ، ومن الظاهر أن الزبيب غير مشتمل على رطوبة متكونة في جوفه حتى تستخرج بعصره ويصدق عليها عنوان العصير ، ومجرّد صبّ الماء عليه خارجاً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 1 : 203 أبواب الماء المضاف ب 2 ح 2 .

(2) المتقدِّمة في ص 105 .

(3) الحدائق 5 : 125 .

ــ[123]ــ

لا  يصحّح إطلاق العصير عليه فانّ له اسماً آخر ، فتارة يعبّر عنه بالنبيذ باعتبار ما نبذ من الزبيب في الماء واُخرى بالمريس باعتبار دلكه وثالثة بالنقيع باعتبار تصفيته وأما عنوان العصير فلا يطلق عليه أبداً .

   وأمّا ثانياً : فلأن الاستدلال بعموم الحديث في المقام مستلزم لتخصيص الأكثر المسـتهجن فيلزم أن يقال : كل عصير أصـابته النار فقد حرم إلاّ عصير البرتقال واللّيمون والرمّان والبطِّيخ وعصير كل شيء سوى عصيري العنب والزّبيب وهو من الاستهجان بمكان ، فلا مناص من حمل الحسنة على معنى آخر لا يلزمه هذا المحـذور وبما أنّ المراد بالعصير في الرواية لم يظهر أنه أيّ فرد وأنه خصوص العصير العنبي أو الأعم منه ومن عصير الزبيب ، ولم يمكن إرادة جميع أفراده ومصاديقه فلا يمكننا الحكم بشمولها للمقام .

   وعليه فالصحيح أن العصير الزبيبي مطلقاً لا نجاسة ولا حرمة فيه سواء غلى أم لم يغل ، إلاّ أن الاحتياط بالاجتناب عن شربه ـ إذا غلى قبل ذهاب ثلثيه ـ حسن على كل حال .

   وأمّا العصير التمري فالحلية فيه كطهارته أظهر ، حيث لم ترد نجاسته ولا حرمته في شيء من الأخـبار سوى ما تقـدّم من مثل قوله (عليه السلام) : «كلّ عصير أصابتـه النار...» وما ورد في حرمة النبيذ الذي فيه القعوة أو العكر وغيره مما سردناه في عصير الزبيب ، كما أسلفنا هناك الجواب عنها بأجمعها وقلنا إنه لا دلالة لها على حرمة العصير إلاّ أن يكون مسكراً لنشه بنفسه .

 هذا مضافاً إلى جملة من الروايات الواردة في دوران الحرمة مدار وصف الاسكار وأحسنها صحيحتان : إحداهما صحيحة معاوية بن وهب ، قال «قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إنّ رجلاً من بني عمِّي وهو من صلحاء مواليك يأمرني أن أسألك عن النبيذ وأصفه لك ، فقال: أنا أصف لك ، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : كلّ مسكر حرام...»(1) وثانيتهما صحيحة صفوان الجمّال ، قال : «كنت مبتلى بالنبيذ معجباً

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل 25 : 337 / أبواب الأشربة المحرمة ب 17 ح 1 .




 
 


أقسام المكتبة :

  • الفقه
  • الأصول
  • الرجال
  • التفسير
  • الكتب الفتوائية
  • موسوعة الإمام الخوئي - PDF
  • كتب - PDF
     البحث في :


  

  

  

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • أضف موقع المؤسسة للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح

الرئيسية   ||   السيد الخوئي : < السيرة الذاتية - الإستفتاءات - الدروس الصوتية >   ||   المؤسسة والمركز   ||   النصوص والمقالات   ||   إستفتاءات السيد السيستاني   ||   الصوتيات العامة   ||   أرسل إستفتاء   ||   السجل

تصميم، برمجة وإستضافة :  
 
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net